على مدى تاريخي طويل كانت العروبة، وكان الإسلام، مجرد (جغرافيا ثقافية) يتحرك فيها العربي والمسلم بين بيئات محلية مختلفة نسبياً ولكنها متناغمة عموماً، ولم يكن ثمة إمكان لأن يسأل صاحب محلة ما زائراً له: ما وطنك، أو ما دولتك؟ ليس فقط لأن السؤال ليست له إجابة، بل لأنه ليس له معنى من الأصل. ومع بزوغ عصر النهضة العربية الثانية انطلقت خطاباتها الكبرى، ولأكثر من قرن، إما من فضاء إسلامي واسع على منوال جمال الدين الأفغاني، حيث شكَّل الفضاء الإسلامي نقطة ارتكازه الأساسية، وإما من فضاء محلي يصعب الادعاء بأنه (وطني) اللهم سوى في مصر كما كان الأمر لدى الطهطاوي، ثم لدى الجيل الثاني من دعاة النهضة العربية على منوال طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد وغيرهم. وبين الفضاء المحلي الضيق وبين الفضاء الإسلامي الواسع بزغ المجال (القومي) للمرة الأولى في الخطاب النهضوي لعبدالرحمن الكواكبي، في سياق بحثه عن عقلانية عربية متحررة من الجبرية المكتسية بالنزعات الصوفية الغيبية، ومن الاستبداد السياسي وضغوطه القاهرة. ووجدت دعوة الكواكبي أثرها، بعد عقود من انطلاقها، في ضمير الفكر العربي الذي بلغ تألقه النظري في أربعينات وخمسينات القرن العشرين متمدداً من الشام في المشرق العربي إلى مصر في القلب العربي عبر مدرسة الشرق، ثم بلغ ذروة تجسده العملي في الحركات القومية الناصرية والبعثية التي تمكنت من شغل الفضاء السياسي والإيديولوجي، وصياغة حس الاتجاه العربي في الربع الثالث من القرن العشرين تقريباً، قبل أن يدخل في طور الأفول ما بين نهاية الستينات وانتصاف السبعينات. وربما يختلف الكثيرون حول التاريخ الدقيق لبداية انكساره، ودوافع هذا الانكسار، غير أن التأريخ له بهزيمة حزيران (يونيو) 1967 واحتلال إسرائيل القدسالشرقية مع الضفة وغزة وسيناء والجولان، يبدو الأكثر موضوعية في اعتقادنا استناداً إلى دوافع عدة: أولاً: لأن تلك الهزيمة هي التي عطلت، نهائياً، المسار التوحيدي الذي كان ينمو في الجغرافيا العربية على أكثر من صعيد، وهي التي جعلت من القضية الفلسطينية معضلة مزمنة، وحائط مبكى على الكبرياء القومي العربي الذي طالما استنزف ولا يزال يستنزف بفعل الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية. ثانياً: لأنها هي التي أثارت الشكوك حول كفاية المرجعية القومية وكفاءتها في الدفاع عن العالم العربي الذي فقد بين يوم وليلة جزءاً كبيراً من أرضه بعد هزيمة عسكرية ساحقة. ومن ثم أثارت التساؤل حول ماهية البديل الذي يستطيع حمايته، حيث كان التيار الإسلامي جاهزاً ينتظر لحظة الوراثة. ثالثاً: لأنها هي التي حفزت موجة المراجعات الكبرى في الثقافة العربية، والتي سعت عبر العديد من المجالات المعرفية التي تمتد ما بين الأدب، والفلسفة، مروراً بالعلم الاجتماعي والسياسي والنظرية الثقافية، إلى نقد الذات ومحاولة تقديم تفسيرات لما جرى حتى لا يتكرر. فقد استفزت الهزيمة لتوها مشاريع لمفكرين كبار عمدوا إلى وضع الثقافة العربية موضع تشريح ونقد، كان أسبقهم عبدالله العروي في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» عام 1967، وزكي نجيب محمود صاحب المانيفستو التوفيقي «تجديد الفكر العربي» عام 1970، وما تلاهما من مشاريع عدة لعل أبرزها مشروع الدكتور محمد عابد الجابري ل «نقد العقل العربي» والممتد منذ «تكوين العقل العربي» في 1986، وحتى 2004 و «العقل الأخلاقي العربي». ومشروع حسن حنفي «من التراث إلى الحداثة»، في الوقت نفسه تقريباً. فضلاً عن بعض الأعمال المتناثرة لدى آخرين مثل السيد ياسين في كتابه «الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر»، و «الوعي القومي المحاصر». وكذلك محمد جابر الأنصاري في «الفكر العربي وصراع الأضداد، والعرب والسياسة... أين الخلل، التأزم السياسي العربي وسوسيولوجيا الإسلام». ناهيك عن نتاجات عرب المهجر وعلى رأسهم برهان غليون خصوصاً في «اغتيال العقل» و «الدولة ضد الأمة»، و «نقد السياسة... الدولة والدين»، ومحمد أركون في «تاريخية الفكر الإسلامي»، و «الفكر الإسلامي»، و «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل» وغيرها، وإن اتسمت رؤية الأخير بدرجة من الاستعلائية شبه استشراقية. وفي الحقيقة لم تنتظر مجتمعاتنا العربية قراءة هؤلاء النقدية لأزمتهم الوجودية، بل اندفعت إلى موجة عارمة من الغضب، حيث تمت قراءة الهزيمة على عجل باعتبارها نتاجاً لضعف همة وشجاعة السلطات العربية آنذاك، ومن ثم فالحل كان بسيطاً ولا يتطلب بالضرورة عمليات معقدة من التحديث كانت مطلوبة لقلب هذه المجتمعات، وعند قاعدتها على منوال التطوير العلمي، والتحرر الثقافي، والتفتح السياسي، وواقعية الرؤية التاريخية، بل كان يكفي لتحقيقه مجرد الانقلاب على السلطة القائمة ومرجعيتها الفكرية المأزومة واستبدالها بمرجعية أخرى صلبة تثير الهمة لدى النخبة الحاكمة الجديدة لمواجهة العدو بشجاعة أكبر وحماسة أعلى. ولأن المرجعية السلفية لم تستطع الانتصار تماماً على نقيضتها الحديثة والمأزومة، ولم تأتِ بسلطات جديدة إلى الحكم إلا في حالات نادرة جداً، بينما صعدت إلى سطح المعارضة النشطة والقوية في أحيان قليلة من داخل إطار الشرعية، وأحيان كثيرة من خارجها، فقد أدت هذه القراءة إلى تشطير كثير من المجتمعات العربية إلى كتلتين شبه متعادلتين رمزياً وعملياً إحداها حداثية وإن ظلت فوقية تضم التيار القومي المأزوم، واليساري المتداعي، والليبرالي النحيل. والأخرى سلفية تجسدها التيارات الإسلامية في شتى نزعاتها المعتدلة والمتطرفة، وصولاً إلى تلك التيارات العدمية التي تلتحف بمعطفها، حيث نشأت بين الكتلتين حالة فيزيائية نادرة الحدوث في المجتمعات الإنسانية، تقوم على التماثل في القوة، والتضاد في الاتجاه ما أعاق عملية تكوين «كتلة تاريخية» متجانسة في الوعي والحركة على نحو صار معه المجتمع العربي المعاصر، على تباينات محلية فيه، فاقداً ما يمكن تسميته «حس الاتجاه» بالمعنى التاريخي أمام عمق الانقسام وجذريته. مع عاصفة الربيع العربي، كان مفترضاً تفكيك هذه الثنائية الصلبة، حيث سقطت النظم الأكثر استبداداً والتي طالما التحفت بالإيديولوجيات القومية المعسكرة الموشاة بتجليات يسارية. وفي المقابل كان مفترضاً أن تدخل السلفية الجهادية طور الذبول، إما لأن كتلتها الأساسية كانت قد انزاحت، قبل هبوب العاصفة، إلى خارج المجتمعات العربية لتلعب أدواراً أوسع بدعوى (عالمية الجهاد)، وإما لأن بعض أبرز مكوناتها من قبيل الجماعة الإسلامية، قد دخلت إلى حلبة السياسة، التي طالما أدانتها بشدة، لكن ولأسباب كثيرة، لعل أهمها القصور الذاتي والعجز عن التجديد، فشل تيار الإسلام السياسي في اغتنام الفرصة، على نحو أوصل حال الاستقطاب إلى مرحلة الاحتقان الفعلي التي وصلت ذروتها بانفجار 30 حزيران (يونيو) الذي أطاح حكم الجماعة، وأعادنا إلى عملية تأسيسية جديدة، تلعب فيها الهوية الوطنية المصرية دوراً محورياً، ويلعب المكون العربي خصوصاً في الخليج دوراً مؤيداً وداعماً، فيما يبدو المكون الإسلامي (السياسي) مستبعداً ولكنه في حال توثب ورغبة في الانقضاض، إما الآن وإما في أي فرصة تلي فشل العملية الجارية، وكأنه ينتظر دوره في عملية ثأرية مستمرة. وهكذا تدلنا خبرة التاريخ، على أن المكون الإسلامي يتناوب مع العروبة على حراسة هذه المنطقة، فإذا توارت الأخيرة يسطع الأول والعكس صحيح. كما تلهمنا حكمته بأن كل فكر مثالي يتعالى على الواقع، يتعرض للانحراف إلى نقيضه المتطرف والعنصري في لحظة تحولية ما. وكلما ازداد الفكر تطرفاً وتنامت نزعته الصدامية كان فشله أكثر احتمالاً، وتراجعه أكثر عمقاً ولعل هذا هو السبب في أن كل الأفكار المثالية، والحركات الراديكالية ظلت دائماً على هامش التاريخ. ما نود أن نصل إليه في اللحظة الراهنة على ضوء هذه القراءة التاريخية هو التأكيد على حقيقة مركزية وهي أن مجتمعاتنا كافة تبدو في حاجة شديدة إلى التصالح مع نفسها، إلى الجمع السلس وربما الجدلي بين مرجعيتيها الكبريين: العربية والإسلامية بعد أن أفرطت في التعويل على إحداهما في مراحل مختلفة من تطورها، وبعد أن تنكرت كل مرجعية منهما إلى الأخرى تحت ضغط الأدلجة وضيق الأفق وغياب الخيال الجامع، على نحو أوعز لكلتيهما، وإن بدرجات مشروعية متباينة، بالقدرة على صوغ المستقبل والتحكم بحركة التاريخ العربي. ومن ثم فإن تلك المصالحة لن تكون ممكنة، ناهيك عن أن تكون دائمة ومنتجة، من دون تخلي كل منهما عن مثاليتها التي أودت بها إلى ضيق الأفق. فعلى المرجعية العربية أن تتخلى عن القومية كأيديولوجيا سياسية توحيدية، وكفكرة عدوانية مشاكسة، ومشروع ثوري قابل للتصدير، ولكن من دون تنازل بالطبع عن الهوية الحضارية التي لا يمكن التنازل عنها أصلاً. وعلى المرجعية الإسلامية في المقابل أن تتنازل عن مطامعها السياسية، ونزعتها الجهادية التي لم يعد لها معنى في العالم الحديث، وأن تقبل بالروح الوطنية الجامعة، وبالمدنية السياسية، ولكن من دون تخلٍ بالطبع عن مكوناتها القيمية والحضارية، وهنا نكون أمام عروبة بلا أدلجة قومية، وإسلام بلا نزوع سياسي أو جهادي، وتكون المصالحة التاريخية أمراً ممكناً وأفقاً واعداً. * كاتب مصري