كعادته كل عام، يحتفي معرض باريس للكتاب، بأدب عالمي من خارج العالم الفرانكوفوني ومن داخله في أحيان كثيرة. وهي عادة درج عليها المعرض منذ عدة سنوات، كنوع من الاعتراف بأهمية الآداب البعيدة والقريبة، سواء كانت أوروبية (كما حصل في العام الماضي مع الأدب الإسكندنافي ومدينة بوينس آيرس) أو كما يحصل هذا العام مع الأدب الياباني ومدينة موسكو. اليابان البعيدة جداً، لا شك أن ثقافتها العريقة أنتجت أدباً فريداً وخالصاً لا تشوبه شوائب الاختلاط بالثقافات. أدب ابن بيئته وثقافته وجغرافيته وفنونه والعادات الصارمة للمجتمع الياباني في كل شيء. وفوق كل هذا، ابن البيئة السياسية التي يتربى فيها الياباني، أيضاً، وفق منهجية مختلفة عن غيرها من المناهج السياسية السائدة في العالم. إذ وكما في كافة الآداب التي أثبتت جدارتها على مستوى العالم، يتميز الأدب الياباني، كونه لم يتأثر كثيراً بأنماط ثقافية كثيرة إنما ضخ هو الآخر نمطاً جديداً من الكتابة ومناخاتها إلى العالم، تماماً، ما يشبه تجربة الواقعية السحرية لأدباء أمريكا اللاتينية. ورغم أن لا تعريف محدد للمدارس الأدبية اليابانية، كما حصل مع أمريكا اللاتينية. إلا أن قراء الأدب الياباني من نقاد ومتابعين يؤكدون على فرادته دون إطلاق التعابير أو الأسماء أو المصطلحات عليه. في السنوات الأخيرة، شكل معرض الكتاب في باريس، تظاهرة ثقافية حقيقية، خصوصاً أن أعداد القراء تتزايد بشكل كبير، والعمل على الترجمة للآداب المختلفة يظهر جدواه يوماً بعد يوم، باعتباره الوسيلة شبه الوحيدة للتبادل الثقافي بين الأمم. تقول جويل إيفالدي المستشارة في الثقافة « إن المعرض يظهر سنوياً الحجم الهائل الذي يبتاعه الفرنسيون من الكتب والميل لديهم في قراءة الآداب المترجمة إلى الفرنسية وهذه تعد ظاهرة صحية « إذ تضيف « أن يقرأ الفرنسي في بيته أو في وسائل النقل العام أثناء ذهابه للعمل أو سفره رواية كتبها ياباني تدور أحداثها بالكامل خارج النطاق الثقافي الفرنسي فإن هذا يعني الكثير وأول ما يعنيه أن الفرنسي يقول أنا جزء من هذا العالم وعلي بل واجب علي أن أعرفه جيداً «. ولذلك « تعتبر القراءة الطريقة الصحيحة للتفاعل مع المعلومات بعيداً عن الملاحظات الكثيرة التي قيلت بعد رواج وسائل تلقي المعلومات الإلكترونية « فوجود المعرض وتناميه عاماً تلو آخر « دليل على أن الكتاب لم يمت وأن من مات هو الخلايا الدماغية في عقول من أشاعوا هذا المفهوم «. معارض الكتب أينما كانت، هي محاولات نبيلة لإحياء الكتاب والكتب. لإحياء المكتبات الشخصية وتنميتها ووجودها في كل بيت. تقول إيفالدي بأن « مكتبات البيوت لا يجب أن تقتصر على الكتب الدراسية المهمة بل يجب أن تتعداها لأنواع كثيرة من الكتب مثل الروايات والكتب التاريخية وحتى الكتب التي تتحدث عن الفن التشكيلي « كل هذا بحسب إيفالدي « يساهم في تلقي الطفل كميات متنوعة من الثقافة تساعده فيما بعد على حب القراءة « يساهم فيها « المناهج التربوية الفرنسية التي تدفع التلميذ منذ سنواته الأولى إلى القراءة من خلال ساعات القراءة الإجبارية الموضوعة في مناهج التربية «. وهذا جزء من الخطة التي تعتمدها وزارة الثقافة من أجل التشجيع على القراءة والتحفيز عليها كما أن هذا ليس « الشكل الوحيد الذي تعمل عليه الوزارة بل ثمة أشكال كثيرة من أندية القراءة في المدارس وفي المكتبات العامة وفي الأحياء إلى جانب عدد كبير من البرامج الخاصة بالكتابة والتدريب عليها ... إلخ «. غير أن للمعرض أهدافاً اقتصادية، ذلك أن معرضاً بهذا الحجم المهول، لا بد وأن يكون مردوده كبيراً لدور النشر المشاركة الفرنسية منها والأجنبية. حيث كما في كل عام، تشارك دور نشر، واظبت علي المشاركة في معرض باريس وتشارك دول واظبت أيضا على التواجد في هذا المعرض نظرا لأهميته في العالم الفرانكوفوني وفي أوروبا. تقول إيفالدي « إن لمعارض الكتاب حكماً وجهٌ تجاري واقتصادي « لكنه ليس « الوجه الوحيد « كما أنه « غالباً ما لا يأتي بالمردود المتوخى منه «. هذا العام تضيف « لدينا 39 ضيف من اليابانوروسيا سيتحمل المعرض تكاليف إقامتهم لخمسة أيام على الأقل تتوزع بين الفنادق والمأكولات والتنقلات والرحلات الترفيهية إن كان ذلك متوفراً لضيق الوقت وهذا بحد ذاته يحتاج إلى ميزانية كبيرة وهو الجانب الذي لا يوفره المعرض بل توفره الميزانية العامة التي تأتي من وزارة الثقافة « كما أن المعرض « الذي عليك أن تدفع رسماً لدخوله، وهو رسم على أي حال للكبار في حين يستثنى الطلاب ممن هم دون سن السادسة والعشرون وكذلك المراهقون والأطفال « وهذا الرسم « يمكن أن يؤمن فقط رسوم إيجار المكان الواسع الذي تستأجره إدارة المعرض لهذه الاحتفالية وهذا يعني أن دور النشر تربح لكن المردود بالنسبة للإدارة وللثقافة الفرنسية كبير جدا وإن كان غير مربح ماليا «. بالعودة إلى ضيف الشرف وهو الأدب الياباني. فإن المعرض لهذا العام (16 - 19 مارس) وخلال الثلاثة أيام التي يستمر فيها، وهي عادة تكون مكثفة ومزدحمة بالنشاطات، يستضيف عشرون كاتباً يابانيا من أجيال مختلفة ليس بينهم الروائي الأشهر حالياً هاروكي موراكامي في حين يحضر كنزابورو أوي الحاصل على نوبل في العام 1994 وهو الكاتب الوحيد الذي أعلن بعد حصوله على الجائزة الأشهر في العالم توقفه عن الكتابة نهائيا واعتباره أن ابنه من ذوي الاحتياجات الخاصة (معاق) هو من يمثله في فن الكتابة وهو من أخذ دفة الكتابة منه. ومن المعروف عن أوي أنه رشح لاستلام وسام الثقافة من الإمبراطور لكنه رفضه لأسباب لم يعلن عنها أبداً. أما باقي الأسماء التي دعيت فهي على الشكل التالي: كاروكي إيكونو - روائية، هيديو فوروكاوا - روائي، تارو غومي - كاتب لأدب الأطفال، موتو هاجيو - كاتبة تنتمي لثقافة المانغا، كيشيرو هيرانو - روائي، توشيكو هوري - روائي، ميتوسيو كاكوتا - كاتبة لأب الأطفال، ساتوشي كاماتا - من أشهر الصحافيين في اليابان ولد في العام 1938 وكتب تحقيقات كثيرة شهرته يعتبر أهمها ما كتبه عن شركة تويوتا، كوتيو كاتو - كاتب في الفن المعاصر، كاتسومي كوماغاتا - روائي وكاتب لأدب الأطفال، مادوكا مايوزيمي - شاعرة هايكو، تاكو تيشيمورا - كاتب في أدب المانغا، ريوكو سيغوشي - شاعرة يابانية تقيم في باريس، ماساهيكو شيمادا - روائي متخصص باللغة الروسية، يوكو تاوادا - روائية يابانية تقيم في ألمانيا منذ ثلاثين عاماً ولا زالت تكتب باللغة الأم، هيتوناري تسوجي - موسيقى وروائي شهير جدا في اليابان حيث يمثل أشهر عازفي موسيقى الروك اليابانية وهو يقيم منذ عدة سنوات في باريس، ريزا واتايا - روائية مواليد 1984 وهي الأصغر بين المدعوين تعتبر من أهم الأصوات بين الروائيين الشباب في اليابان، ماري يامازاكي - كاتبة في ثقافة المانغا، غوزو يوشيماسو - شاعر ومصور فوتوغرافي حصل على جوائز عالمية كثيرة. أما المدينة الضيف التي هي موسكو لهذا العام. فإنها لن تأت وحدها بل مصحوبة بتسعة عشرة كاتباً روسيا هم بحسب الترتيب الذي وضعته إدارة المعرض: بوريس أكونين - روائي ومترجم، يوري بويدا - روائي نشر العديد من الروايات وترجم إلى لغات كثيرة، ديمتري بيكوف - روائي وشاعر، ميخائيل شيشكين - روائي، ليونيد غيرشوفيتش - روائي، أندريا غيلاسيموف - كاتب متخصص في النقد المقارن وله عدد من الروايات، ميخائيل ياسنوف - شاعر ومترجم، إيليا كيتشرغين - روائي، سيرغي ماخوتين - إعلامي وكاتب في أدب الأطفال، يوري مامليف - روائي، ميخائيل ماكينكو - كاتب لأدب الأطفال، مكسيم إوسيبوف - روائي، زخار بزيليبين - روائي، ليف روبينشتاين - باحث في تاريخ الأدب الروسي المعاصر، أولدا سيباكوفا - كاتبة في أدب الرحلات، أولغا سلافنيكوفا - صحافية وناقدة أدبية وروائية لها رواية بعنوان (2017) تتحدث عن مائة عام بعد الثورة الحمراء حازت شهرة كبيرة منذ صدورها، ناتالي سوكولوفيسكاي - شاعرة، تاتيانا تولستوي - روائية وهي حفيدة الكاتب الشهير أليكس تولستوي. رغم المحاولات العديدة لطرح بعض الأسئلة على كنزابورو أوي الياباني الحائز على نوبل، كان الجواب دوماً أن لم يصل إلى باريس. لكن ولكي لا تخيب جهودنا في الحصول على بعض الإجابات، توفرت إيوكو سيغوشي الشاعرة اليابانية التي تعيش في باريس في دردشة هاتفية فقط. سيغوشي التي تركت اليابان لأسباب فضلت عدم ذكرها تقول « إن الكتابة بلغتك الأم وأنت في حضن ثقافة أخرى ولغة أخرى مسألة صعبة جداً وحساسة « لكني « فرحة بالقرار الذي خلص إلى استضافة الأدب الياباني في باريس لعدة عوامل أهمهما على الإطلاق أننا غير مرئيين بالنسبة للآخر رغم وجود كتاب كبار عرفوا في العالم كله مثل كاواباتا وموراكامي وكنزابورو أوي الذي هو ضيف هذا العالم بالمناسبة «. أما عن سبب اختيارها باريس للإقامة فقالت « لقد جئت إلى باريس لأني تعلمت الفرنسية ولأنها بالنسبة لي عاصمة الثقافة العالمية في باريس يمكن للكاتب أن يعيش ككاتب وللشاعر أن يعيش كشاعر دون أن يفقد شيئاً من نفسه من الغنى التركيبي للحضارة والثقافة اللتين جاء منهما هنا أعيش لكني دائمة التردد على اليابان عائلتي وجذوري هناك وأنا فرحة لأني اليوم قادرة على الدخول إلى مطعم ياباني بعد غزو السوشي للعالم واليوم نحن نحضر بعيدا عن السوشي نحضر بكتبنا وطاقاتنا الفكرية وتاريخنا المديد نحضر بأهم ما عندنا حضارتنا «. باريس مدينة تحبها منذ النظرة الأولى، تقول سيغوشي، وهو « حب يمكن له أن لا يكون بريئاً وأن لا يكون طاهراً على العكس « ممكن أن تنتج هذه العلاقة مع باريس « من خلال التواطؤ الخبيث في أحيان كثيرة بين مدينة وساكنها وهو تواطؤ محب فالحب ليس هو دوماً كما تصوره الفضيلة على شكلها تماماً « هذا طبعا مفاجئ ولا يمكن أن تتوقع أن يخرج من فم يابانية أو ياباني « لكنه الحقيقة التي لا نعيشها في ثقافتنا وتقاليدنا الصارمة التي تكبل المشاعر في كافة وجوهها « وربما هذا أهم جانب « في الثقافة اليابانية التي تنتج الأدب القوي والنفاذ كروائح باريس وعطرها «. تقول إيفالدي « بأن الأدب الضيف أو ضيف الشرف يتم بناء على معطيات كثيرة « إذ لا يمكن أن « نستضيف أدباً غير مترجم إلى الفرنسية ستكون الاستضافة رمزية غير تفاعلية ذلك أن التفاعل الحقيقي يتم من خلال قراءة هذا الأدب « طبعا « ثمة جزء كبير من الأدب الياباني لم يترجم بعد لكن ضيوفنا جميعهم مترجمون للفرنسية وصدرت كتبهم في أرقى دور النشر الفرنسية وهذا واقع ذلك أن المناخ العام يتيح لإدارة المعرض أن تختبر رغبة دور النشر في الضيف فهي التي ستكون حاضرة بقوة من خلال إنتاجها ومن خلال قدراتها ومنشوراتها التي جاءت بها من هذه الثقافة أو تلك «. أما بخصوص الثقافة العربية فقالت « لقد استضاف المعرض عدة دول عربية فرانكوفونية وواحدة غير فرانكوفونية هي الإمارات العربية المتحدة وقد كانت المرات الخمسة ناجحة جداً من خلال تعرف زوار المعرض على الثقافة العربية والتراث والعادات والتقاليد لكن يحتاج الأمر إلى مجهود أكبر على مستوى الترجمة إذ تقتصر الترجمات العربية للفرنسية لكتاب هم بالحقيقة مكرسين في الغرب وفي الثقافة الفرانكوفونية مثل كتاب المغرب والجزائر وتونس ولبنان أما مصر مثلا التي تعيش حراكاً ثقافياً كبيراً ومهماً فلم تكن ضيفة لغاية اليوم لأن الترجمات تقتصر على بضعة أسماء وهي أسماء مهمة لكنها لا تعطي فكرة واسعة عن الأدب المكتوب في مصر ولا تتعاطى مع كافة الأجيال هذا الأمر ينطبق على سوريا والعراق وكذلك على المملكة العربية السعودية التي أعلم أنها تشهد حركة ثقافية واسعة منذ سنوات عدة «. إنني أتمنى « أن نستضيف الثقافة العربية بشكل كامل في مرة واحدة كما حصل قبل سنوات في معرض فرانكفورت حيث حضرت كل الدول العربية دفعة واحدة وكانت التظاهرة معبرة فعلاً عن حجم هذه الثقافة المعاصر وتاريخها القيم والعميق لكن هذا يحتاج إلى تعاون كبير ويحتاج إلى إمكانات مادية ضخمة أيضاً «. يبدو معرض باريس لهذا العام، وكراً للمفاجآت، فالثقافة اليابانية وإن كان الفرنسيون قد اطلعوا على بعضها من خلال الروايات والكتب والقصص والأبحاث المترجمة. فإن آراء الكتاب اليابانيين التي ستظهر من خلال برنامج الندوات، ربما، ستعطي لمحة أكثر وضوحاً عن هذا البلد البعيد وثقافته وعاداته وتقاليده، لربما نشهد آراءً جريئة كما طالعتنا في أجوبتها إيوكو سيغوشي، وربما نشهد آراءً محافظة وتقليده من كتاب معروفة جرأتهم في كتاباتهم. لو كان كاواباتا على قيد الحياة وهو صاحب الرواية الشهيرة (الجميلات النائمات) لكان ربما أدهش الحضور بآراء تقليدية جافة لا تشبه أبدا ما كتبه. أستعيد كاواباتا لما قرأته قبل سنوات من كلام قاله هو فعلياً يكشف تقليديته التي ليست بأي حال من الأحوال عيباً. لكن هذه التقليدية التي تسم الشخصية اليابانية قد تدهش الفرنسيين الذين لم يكونوا على استعداد لها. الدهشة الثانية، ستأتي من المدينة الضيف وهي موسكو، ذلك زن ما هو معروف عن الأدب الروسي لن يكون حاضراً جداً بالمعنى الكلاسيكي. ذلك أن بين الكتاب المدعوون لهذه السنة من تجرأ على كسر التقاليد الأدبية وهو يأتي مع ما يعتبره زمن ما بعد الحداثة الأدبية الروسي. الدهشة الثانية على هذا المستوى هو تقديم موسكو بشكل أدبي وهي مدينة تعتبر الأكبر من حيث عدد السكان وتكاد تكون أكبر لناحية التاريخ الذي تحمله ذهنيا من فترة الحرب الباردة. بين الثقافة اليابانية والأدب اليابانيوموسكو وما ستقدمه وسيقدمه كتابها سيعيش معرض الكتاب في باريس لهذا العام ثلاثة أيام مكثفة من الدهشة ومن المعرفة ومن الكتب على أما أن تكفي ميزانيات الرواد لأسعار الكتب التي تتزايد بشكل سريع ومرعب. هذا رغم ارتفاع عدد القراء.