المتأمّل× في الوضع العربي يُصاب بالغمّ. فبلدانٌ بأكملها، كالعراق والجزائر والسودان ولبنان، مطروحٌ وجودها نفسه على المحك. وتحت المستوى هذا، والى جانبه، تتجمّع اسباب اخرى لا تبعث بهجة في النفس او انشراحاً في القلب، اللهم ما خلا ذاك الغموض الكبير في ايران الذي يمكنه ان يلد الأمل كما يمكنه ان ينقلب دماً كثيراً. ويؤسفني ان اكون بيّاع كوابيس، الا ان للحزن العربي اليوم أجندةً طويلة يحسن الا نقصّرها بالتفاؤل والهمّة الطيّبة. فمن حال الديموقراطية وحقوق الانسان الى وضع المرأة، ومن درجة الاسهام في اقتصاد العالم وتقنيته وعلومه الى الاسهام في آدابه وفنونه، يحتل العالم العربي موقعاً يصعب الاعتداد به. صحيح ان التعميم في ما يتعلق بالقارة العربية ينطوي على مخاطر، الا ان السمات المشتركة في التخلف والتي تجمع العرب الى كثير من "العالم الثالث"، تجيز، في هذه الحدود، هذا التعميم. فتصديرنا الاساسي الى الخارج، ما خلا النفط، يكاد يكون معدوماً. ذاك ان تركيا واسرائيل هما الدولتان الوحيدتان في الشرق الاوسط اللتان تملكان ما تصدّرانه الى دول منظمة التنمية والتعاون، تليهما بفارق شاسع، تونس وحدها من بين الدول العربية. وفيما يزداد اعتمادنا في موادنا الغذائية على الاستيراد، يبقى حجم الاستثمارات الرأسمالية عندنا ضعيفاً جداً. وامام مشكلات التصحّر والتمديُن والتشوه البيئي، تحول الخلافات السياسية وضعف قدرات كل دولة بمفردها، دون اقامة مشاريع تستفيد من مياه الانهار التي في المنطقة. وقد احصى منذر جابر في دراسة نشرها مؤخراً في مجلد عن القرن اصدره "المركز العربي للمعلومات" في بيروت، اربعا وعشرين نزاعا حدوديا ما بين كامن ومتفجّر، نصفها بين البلدان العربية وجيرانها، والنصف الآخر في ما بينها. وخطورة هذه النزاعات، فضلا عن الموت والتبديد وضعف الافادة مما توفّره البيئة، انها تعيق احتمال الوصول الى مناطق اقتصادية متعدية للحدود، وتعمل، من ثم، على تعقيد الانسجام مع احدى وجهات العولمة. والحال ان النقاشات التي تجري بقصد تفعيل مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي اكثر بكثير من مردودهما، فيما انهار، منذ 1990، مجلس التعاون الاقتصادي العربي. وبينما يستشرس اعداء الفكر العصري، العلماني والتنويري، ويسود ضرب من الوثنية الحديثة باسم الدين، يتأدى الوضع الراهن الى فرز استقطابي يُحيل عدداً من المثقفين العلمانيين الى متبرّمين بالآخر الأصولي، مستعدين للتعاون مع الديكتاتوريات العسكرية من اجل قمعه واستئصاله. لكن ما سأتوقّف عنده من بين بنود كئيبة عدة، هو العلم والتقنية والديموقراطية، وهو ثالوث لم يعد ممكناً فصل احد اضلاعه عن الآخر. واظن ان في وسع هذا اللقاء ان يرسم أكمل لوحات الحال العربية القائمة. ولا بأس بالاشارة، اولا، الى ما تناوله تقرير الاممالمتحدة عن التنمية العام الماضي. فقد تحدث عن قسمة رقمية جديدة بين بلدان فقيرة تواجه خطر المزيد من التهميش، نحن منها، وبين بلدان اشد انخراطا في الاقتصاد الكوني المرتكز على المعلومات. فبيل كلينتون، مثلاً، وعد في نهاية 1999 بان يكون كل صف مدرسي في الولاياتالمتحدة موصولا بالانترنت، واطلق توني بلير وعودا مماثلة في ما خص بريطانيا. لكن اذا كانت اميركا تملك اليوم عددا من الكومبيوترات يفوق الرقم الذي يتمتع به العالم كله، فان آسيا الجنوبية التي يقيم فيها 23 في المئة من سكان العالم، فيها اقل من 1 في المئة من مستخدمي الانترنت. اما في افريقيا فثمة سبعة اجهزة انترنت لكل مليون شخص، فيما 40 في المئة من سكان البلدان النامية بحسب "الغارديان" في 1/2/2000 لم يستخدموا حتى التليفون. ونقلت لنا مجلة "انترنت العالم العربي" الصادرة في دبي، في عددها الاخير، بعض المعلومات المخيفة عن اوضاعنا على الصعيد هذا، رغم تفاؤل المجلة في ما خص المستقبل. ذاك ان عدد مستخدمي الشبكة في العالم كله سجّل في نهاية 1999 قرابة 226 مليون مستخدم، وبلغ عدد الصفحات على الشبكة حوالي مليار ونصف مليار صفحة، وهي ترتفع يوميا بمعدل مليون صفحة. اما مستخدمو الشبكة في العالم العربي، ورغم ارتفاعهم بين عام وآخر، فبلغوا مليونا ونصف المليون مع نهاية العام الماضي، فيما لم يصل عدد المواقع العربية الا الى 18 الف موقع، اي ما نسبته 2 في الالف من المواقع، مع ان العرب هم 5 في المئة من سكان العالم. وهذا مع العلم بهبوط اسعار الاشتراك في خدمات الشركة حيث غدا، في مصر، يقارب 18 دولارا شهريا، وفي لبنان 11 دولارا، اي اقل منه في الولاياتالمتحدة الاميركية نفسها. وهنا نجدنا مسوقين فورا الى المسألة السياسية والديموقراطية: فاذا امكن قبلاً في بعض آسيا، مثلا، اقامة انظمة تجمع الاستبداد العسكري الى التقدم الاقتصادي، فهذا ما يغدو اصعب من ذي قبل. ذاك ان الازدهار يعتمد، اليوم، والى حد بعيد، على المعلومات والمعرفة والمبادرة الحرة، ما يجعل التوفيق بين التقدم والتعليم وبين نظام سياسي موجّهٍ كابحٍ للفرد، موضوعاً اقل ترجيحاً. والمعادلة هذه اذ تحرز راهنا مزيداً من الحضور والحرارة، فانها كانت موجودة دائماً في الماضي، ولو ان عملها كان ابطأ اثراً واضعف تفريعاً للسلطة. فروبرت رايت، صاحب "الحيوان الاخلاقي"، يعود ببدايات العملية هذه في اوروبا الى النتائج التي رتّبتها نشأة الحرف المطبوع على الكنيسة، والتي سريعا ما التقطتها الكنسية نفسها، هي التي كان من المستحيل مساءلة سلطانها حين كانت تقنية النشر السائدة هي مخطوطات الأديرة. ولم يقتصر التحدي الذي وُجه الى الكنيسة آنذاك على ما بات معروفاً، اي على اتاحة انجيل غوتنبرغ للزمنيين ان يصيروا لاهوتيين زمنيين، وافساح المجال لتأويل اشد راديكالية للنص، على ما رأينا مع مارتن لوثر. فقد كان اهم من هذا، في ما خص الاصلاح، نشوء ظاهرة كتابة المناشير. فاذا كان لوثر قد مسمر نقده الشهير للارثوذكسية الكاثوليكية في 31 تشرين الاول اكتوبر 1517، فخلال شهر واحد كانت نُسخ نقده تُتَداول في ثلاث مدن المانية. وقبل ان يمضي وقت طويل شرعت السلطات الزمنية تشاطر البابا استياءه: اذ في 1524 استخدم الفلاحون الالمان الحرف المطبوع للتعبير عن تذمرهم في مواجهة اقطاعييهم. ومنذ ذلك التاريخ تعاظم استخدام المطبوع بصفته سلاح المقهورين في اوروبا. وبدورها حاولت الطبقات الحاكمة الحد من ذلك. ففي اواخر القرن السادس عشر قيّدت "قاعة النجوم" Star Chamber، وهي المحكمة الانكليزية التي الغيت في 1641 بعدما اشتُهرت بمحاكماتها السرية الاعتباطية والظالمة، اعمال الطبع بهدف الحد من "فواحش واساءات" يتسبب بها "اشخاص مشاكسون وغير نظاميين يمتهنون فن، او لغز، الطبع او بيع الكتب". لكن الحكام واجهوا الحقيقة العنيدة التي لا يزال يواجهها مستبدو يومنا هذا: اذ فيما راحت تقنيات المعلومات تنتشر، راحت ترتفع كلفة كبحها. ذاك ان التقدم التقني يعتمد على التدفق الحر للآراء، بحيث يفضي اغلاق المطبعة الى ابطاء سوية الابداع ووتيرته. والامر، الى ذلك، وثيق الصلة بالاقتصاد والمصالح التجارية. ففي القرن الثامن عشر اصبحت الصحف ملحقا بالسوق: تُقرأ لما تنشره من اسعار السلع ومواعيد الشحن واخبار البيزنس المتفرقة. وهذا ما يساعد على تفسير لماذا ان بريطانيا، في اواخر القرن السابع عشر، كانت تقود اوروبا في الحرية وفي الرأسمالية معاً، هي التي غدا فيها الحرف المطبوع، وقبل فرنسا بسبعين عاما، صحافة يومية. وهذا ما يفسر لماذا ان هولندا التي نافست انكلترا في كراهية الاستبداد وفي الصحافة، عبدت الطريق الى التصنيع خلال عصرها الذهبي في القرن السادس عشر واوائل السابع عشر. فحين تؤدي ثورة معلومات الى خفض كلفة الحصول على معلومات، توسّع حدود التقدم التقني والفعالية الاقتصادية، ومعهما تصير اللبرلة السياسية مكافأة الازدهار الطويل الامد. لكن اذا كانت فعالية الحرف قد اخلت مكانها لفعالية التقنيات الحديثة، فاننا لا نزال نخوض الحربين في آن معاً: حرب الأميّة بمعناها القديم حيث ثمة اميون يزيدون عن ستين مليون عربي وعربية، وحرب التقنية. وكان لبعض السذّج ان اقترحوا حلاً للعالم الثالث يقوم على التعليم عبر الانترنت، اي استخدامه محل المعلم والكتاب، دمجاً للمرحلتين في واحدة. لكنهم، في حماستهم التقنية، نسوا ان بلدانا كثيرة تفتقر الى الغرف والسقوف التي سيجلس فيها، وتحتها، مبحرو الانترنت المفترضون، كما فاتهم افتقار بعض هذه البلدان الى الكهرباء التي لا بد منها لتشغيل الكومبيوتر، لا بل لتشغيل جهاز التليفون. ونعلم ان هناك، في بنغلاديش مثلاً، اقل من ثلاثة خطوط تليفونية لكل الف شخص، بينما تهبط النسبة في افغانستان الى اقل من خط للالف شخص. ثم كيف يمكن استخدام الانترنت للتعليم في ظل الامية؟ ذاك ان ارقام الاممالمتحدة للعام 1995 تنبئنا بان نسبة مُجيدي القراءة كانت اقل من 40 في المئة من سكان 16 بلدا "عالمثالثياً". وما دام ان توفير الاكلاف هو العائق الاكبر امام تصدي العالم الثالث لهذه المشكلات، فلا بد، اذن، من تحويل الموارد من الانفاق العسكري وخدمات الدين الى المدارس. ولا نضيف جديداً ان نقول، في ما خص العالم العربي، ان الرساميل تنزح الى الخارج اكثر بكثير مما تنتقل من بلد عربي الى آخر، بينما لا يزال الانفاق على التسلّح يجري بوتائر ما قبل انتهاء الحرب الباردة. من اين البدء؟ لا أعلم. * هذه الاسطر مداخلة قُدّمت في "معهد العالم العربي" بباريس.