لا شك أن جون ماكين، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا، والساعي إلى الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة، قد أثبت قدرته على إحباط التوقعات، سواء منها التي تتجاهله والتي تترقب فشله، أو التي تتوقع له النجاح. فقبل شروع الولايات الأميركية المختلفة بإجراء الانتخابات الحزبية التمهيدية، كان ماكين أحد متنافسين جمهوريين عدة، ولم يكن من أبرزهم، بل كان الاجماع الإعلامي يرى أن حصول جورج دبليو بوش، حاكم ولاية تكساس وابن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، على ترشيح الحزب الجمهوري هو تحصيل حاصل. وكانت أصدح الأصوات المعارضة له صوت المعلق الصحافي باتريك بوكانان، والذي انسحب من الحزب الجمهوري احتجاجاً على التتويج المزعم بوش، ثم صوت رجل الأعمال ستيف فوربز، والذي حاول استقطاب المحافظين الاجتماعيين، دافعاً بوش إلى الاعتماد على المعتدلين والوسطيين. ولكن ماكين، عبر سعي دؤوب ومثابرة نشطة، تمكن من تعبئة جمهور ولاية نيوهامبشير، أولى الولايات في اجراء الانتخابات التمهيدية، ففاز فيها، مكتسباً الزخم الذي جعل منه اليوم المنافس الفعلي الوحيد لجورج دبليو بوش. وإزاء هذا النجاح، انتقل حال ماكين من التجاهل الإعلامي إلى ما يقارب التتويج البديل، وكثر الحديث عن "التمرد" في صفوف الحزب الجمهوري لصالحه، وتوالت استطلاعات الرأي التي تؤكد أنه المؤهل أن يفوز بالرئاسة في مواجهة الديموقراطيين. وفي حين تمكن بوش من الفوز بولايتي ديلاوير وكارولينا الجنوبية، فإن "التمرد" لم ينطفئ، بل فاز ماكين بكل من ولايتي ميشيغن واريزونا، وبدا وكأن لا سبيل لبوش للتصدي للحماس الشعبي الذي يثيره منافسه هذا. والواقع ان ماكين قد برز في أعقاب نجاحه في نيوهابمشير وفي يده معطيات عدة، ذاتية وموضوعية وخطابية، شكلت الأساس وراء الاندفاع الجماهيري إليه، فهو "البطل" الذي حارب في فيتنام، ووقع في الأسر ورفض أن يخلى سبيله من دون رفاق سلاحه. وهو الذي طالب دوماً في مجلس الشيوخ ان يجري اصلاح نظام التمويل الانتخابي لمنع نفوذ أصحاب المصالح الخاصة. وهو المرشح الذي أعلن للملأ عزمه على خوض معركة نزيهة صادقة أمينة. فاستعراض الجمهور الأميركي لهذه المعطيات منح ماكين اندفاعاً في الاقتراع لصالحه، ولا سيما في أوساط الشباب وغير المنتسبين حزبياً، بل وفي صفوف المسجلين في قوائم الحزب الديموقراطي، في الولايات التي تحق لهم فيها المشاركة في اختيار مرشح الحزب الجمهوري. ولكن الانتخابات التمهيدية التي جرت يوم الثلثاء الماضي في ولايتي فيرجينيا وواشنطن، والمجالس الحزبية في ولاية داكوتا الشمالية، أسفرت عن فوز واضح لجورج دبليو بوش. وعلى رغم تأكيد المقربين من ماكين ان مرشحهم حقق فوزاً معنوياً في هذه المعارك عبر تقليص الفارق بينه وبين بوش، والذي كان يرجح فوزه على أية حال، فإنه يمكن الاشارة إلى عدة أخطاء صريحة ارتكبها ماكين من شأنها ان تقضي على احتمالات انتصاره على خصمه في نهاية المطاف. لا بد من الإشارة هنا إلى أن مواضيع الخلاف الفعلية بين بوش وماكين ضئيلة، فكلاهما ينتهج خطاً جمهورياً محافظاً معتدلاً، وكلاهما يدعو للاصلاح، وكلاهما يزعم حمل إرث الرئيس الأسبق رونالد ريغان، والذي ترفعه أدبيات الحزب الجمهوري اليوم إلى رتبة القداسة. فبما أنه ثمة اتفاق على المضمون، لا بد من التمايز بالشكل والشعارات. وإذا كان التتويج المبكر لجورج دبليو بوش قد أضر بصورته عبر إظهاره بمظهر المفروض فرضاً على عامة الجمهوريين، وعبر قرنه بالمؤسسات الحزبية القيادية المتهمة بالجمود والنخبوية والتدليس السياسي، فإن جون ماكين كان قد شدد على أنه النقيض الفعلي لأوجه بوش هذه، فهو المتمرد وهو الشعبوي وهو الصادق. وإذ بهذه الصورة الناصعة التي أرادها لنفسه تتعرض للهزات الطبيعية في الأجواء السياسية المشحونة بالمبارزات الحادة اللهجة. فربما ان الخطأ الأول الذي ارتكبه ماكين في الأسابيع القليلة الماضية هو التفريط بصورته عبر التجريح بخصمه بما يتناقض وشعار "الحملة الايجابية" الذي وعد الجمهور الأميركي أن يلتزمه. وقد ضاعف ماكين الأذى الذي لحق به من جراء هذا التجريح عبر التنصل من الدعاية السلبية التي أقدم عليها القائمون على حملته، ثم الإقرار بمسؤوليته عنها، أمام الإصرار الإعلامي وعند مواجهته بالأدلة، بما يتعارض وشعار "الكلام الصريح" الذي يريده أساساً لتوجهه الخطابي. بل الواقع ان ماكين اختار مادة مشبوهة في هجومه الكلامي على بوش، فلم يحقق هدفه بالإضرار بخصمه، بل ربما ان الضرر ارتد عليه. إذ كان بوش ألقى كلمة في جامعة "بوب جونز" قبيل انتخابات كارولينا الجنوبية. وجامعة "بوب جونز" هذه دينية مذهبية اصولية التوجه، يلتزم القائمون عليها عقيدة ترى في المذهب الكاثوليكي ضلالاً شيطانياً، وتحرم الاختلاط العرقي، إلا أنها ذات نفوذ واسع في ولايتها. ففي أعقاب الانتخابات في كارولينا الجنوبية، شن ماكين حملة شعواء على بوش لتخلف هذا الأخير عن إدانة "بوب جونز" وعقائد مؤسسها، وسعى أنصاره إلى الاتصال بالكاثوليكيين في ولاية ميشيغن لحثهم على الامتناع عن اختيار بوش المتورط في العداء لهم. ونتيجة لهذه الحملة أعلن بوش عن أسفه لعدم مجاهرته في جامعة "بوب جونز" بمعارضته للأفكار المتداولة فيها. ولكن أوساطه نجحت في الإشارة إلى أمور عدة تضر بصدقية ماكين، أولها طبعاً التوقيت. إذ انتظر ماكين انتهاء الانتخابات في كارولينا الجنوبية قبل أن يعلن استهجانه لخطيئة بوش، متجنباً بذلك استنزاف الأصوات المؤيدة له في تلك الولاية، ثم ان القائمين على حملته فيها منهم بعض حملة الشهادات من جامعة "بوب جونز". كما أن القديس الجمهوري رونالد ريغان نفسه ألقى كلمة فيها. فمسعى ماكين وفريقه إلى التنديد ببوش أضر بصورة ماكين. وماكين قد فاز فعلاً بولاية ميشيغن، ولكن اعتداءه الكلامي على خصمه لم يكن من دون ثمن. وأمام التراجع النوعي في صورة ماكين، يعود موضوع طباعه إلى الواجهة، فماكين معروف في ولايته كما في مجلس الشيوخ بحدة طبعه وميله إلى فورات الغضب، وبتصلبه وتهكمه. وكانت بعض الجهات المؤيدة لبوش سربت إلى الصحافة تقارير بهذا الشأن ترى أن ماكين لا يصلح لمنصب الرئاسة نتيجة لهذه العيوب، وتربط بينها وبين الفترة التي أمضاها في الأسر. وكان لهذه التقارير حينئذ أثر مخالف للغرض منها، إذ أنها أبرزت المرحلة "البطولية" في حياة ماكين، وأثارت قدراً من التعاطف معه، ولا سيما ان الصورة التي رسمتها لها، أي صورة الغاضب المتشدد المتهكم، تعارضت تماماً مع الصورة التي تعرف عليها الجمهور الأميركي، أي ماكين البطل الصادق الأمين. أما اليوم، فيلاحظ ان الصحافة تعيد النظر بهذه التقارير، وتسلط الأضواء بشكل دوري على طباع ماكين. وموضوع الطباع هذا هو أحد أبرز الأسباب التي تدفع القيادات الجمهورية إلى الامتناع عن تأييد ماكين. فالغالبية العظمى من زملائه الجمهوريين في مجلس الشيوخ أعلنت تأييدها لبوش. ويرى البعض في ردة فعل ماكين على هذا الموقف شاهداً على خطورة طباعه، إذ أنه أعلن تكراراً في خطبه ان دافع القيادات الحزبية إلى معارضته هو تورطها في الفساد، معرضاً سمعة حزبه الجمهوري للأذى ومخالفاً الوصية الحادية عشرة التي نطق بها القديس ريغان، والتي نصها ان "لا تذكر الجمهوريين الآخرين بالسوء". ويمكن اعتبار إصرار ماكين على استعداء القيادة الحزبية خطأ آخر يرتكبه، لحاجته الموضوعية إليها وإلى قدرتها التنظيمية في حال تمكن من الفوز بالترشيح، بل يبدو ومن خلال استعدائه لها أنه غير معني بتمثيل الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية، وأنه سيكتفي بمجرد نيل ترشيحه لها. وبالفعل، فإن ماكين لم يتمكن من الفوز بغالبية أصوات الجمهوريين في أية ولاية ما عدا نيوهامبشير، وفوزه في غيرها من الولايات جاء بأصوات غير المنتسبين أو حتى بالمسجلين في لوائح الحزب الديموقراطي، سواء منهم الصادقين في اقتراعهم لصالحه أو المشاغبين الذين يطيب لهم إضعاف بوش. ولكن فرص مشاركة غير الجمهوريين في المراحل المقبلة من الانتخابات الحزبية التمهيدية محدودة. وفي حين ان اعتماد ماكين عليهم في المراحل الأولى قد مكنه من البروز، فإن تطويعه لبرنامجه الانتخابي وخطابه السياسي لاستقطابهم، على حساب كسب تأييد الجمهوريين، ينضوي على خطورة فادحة. ويرى العديد من الجمهوريين ان ماكين أخطأ حين استخف بالحجم الانتخابي للمحافظين المتدينين، فعمد إلى مهاجمة أبرز الشخصيات في تيارهم، جيروي فولوال وبات روبرتسون، في حين يعتبر أنصاره ان النتائج السلبية لهذا الهجوم تقتصر على ولايات الأرجح ان يفوز بها بوش على أي حال، في حين ان الجمهوريين المعتدلين في كل من كاليفورنيا وولايات الشمال الشرقي يرجح ان يرحبوا بهذا الموقف المعادي لرموز التعصب الديني. لكن ماكين، في سعيه إلى اجتذاب الوسط العقائدي وما عداه، قد لجأ كذلك إلى مادة خطابية شعبوية تكاد أن تكون مستمدة من أدبيات الحزب الديموقراطي، منها مثلاً معارضة خطة بوش لتخفيض الضرائب والتي تستفيد منها جميع الطبقات، بما في ذلك النخبة الاقتصادية، مشدداً على وجوب اقتصار الحسم الضريبي على ذوي الدخل المحدود، ومنها كذلك حديثه عن التشدد في الضرائب على التبغ. فهذه المواقف من شأنها أن تؤدي إلىتراجع التأييد له في صفوف المحافظين الاقتصاديين وفي الولايات الجنوبية. والواقع انه يبدو ان ماكين قد تخلى فعلياً عن الولايات الجنوبية، فهو ينتهج اليوم خطة تكاد ان تكون قد فصلت على قياس سائر الولايات التي ستجرى فيها الانتخابات الحزبية التمهيدية هذا الثلثاء أي ولايات نيوانكلند الخمس الباقية، وولايات نيويورك وأوهايو وكاليفورنيا. وإذا كان بالإمكان استشفاف ثمة استماتة في مواقفه، فذلك أن انتخابات هذا الثلثاء، والثلثاء الذي يليه، هي انتخابات حاسمة، قد يستحيل عليه الفوز ما لم ينتصر في قدر مرموق من معاركها. وحظوظ انتصاره هذا أمست محدودة، في أعقاب الأخطاء العديدة التي ارتكبها. فهل ينجح ماكين مجدداً بإحباط التوقعات، أم أن تحديه لبوش، وللقدر، قد استنفد زخمه؟