زهاء ثلاثمئة ألف ناخب شاركوا في اختيار المرشح الرئاسي لكل من الحزبين الديموقراطي والجمهوري في ولاية نيوهامبشير يوم الثلثاء الماضي. وولاية نيو هامبشير، والتي لا يزيد عدد سكانها عن 1.1 مليون نسمة عدد سكان الولاياتالمتحدة يتجاوز 270 مليوناً، ولاية ريفية باردة في الشمال الشرقي من البلاد، تختلف بتركيبتها الاجتماعية والعرقية عن سائر الولايات. فهي قلّ ان تتصدر الأنباء الاميركية، الا في مطلع الانتخابات الرئاسية مرةً كل أربع سنوات. فالقانون المحلي في نيوهامبشير يلزمها اجراء الانتخابات التمهيدية لاختيار المرشحين الحزبيين قبل اسبوع واحد على الأقل من سائر الولايات. وبما ان أي انتصار انتخابي من شأنه ان يضاعف فرص النجاح للمنتصر، عبر ابرازه اعلامياً وتحفيز المساهمات المالية له، والتي لا مفر منها لتنظيم حملة انتخابية فعالة في باقي البلاد، فقد تحولت نيوهامبشير الى مسرح اختبار اول لكافة الطامحين الى الفوز بمنصب الرئاسة، واكتسبت مكانة مهمة، يعترض عليها البعض، في عملية الانتخابات الرئاسية في الولاياتالمتحدة. والواقع ان عملية الانتخابات هذه سلسلة تراكمية قائمة على التفاوت والمفارقات. ففي المرحلة الأخيرة، مثلاً، لا يعود يحتاج المرشح لأن يحصل على اكثرية اصوات الناخبين، ولا حتى ان يتفوق على خصومه في اعداد من اقترع لصالحه، بل عليه وحسب ان يفوز في عدد كاف من الولايات مجموع مندوبيها يزيد عن نصف عدد المندوبين الذين تناط بهم نظرياً مهمة اختيار الرئيس الجديد. ولا فرق في كل ولاية ان يفوز بأكثرية ساحقة او بأكثرية ضئىلة، فالفائز في كل ولاية يحصل على كامل اصوات مندوبيها. ولكي يصل المرشح الى هذه المرحلة الأخيرة، لا بد له من الفوز بالترشيح من احد الحزبين الجمهوري والديموقراطي. اذ على الرغم من بعض المحاولات المتكررة، فإن فرص نجاح اي مرشح خارج هذين الحزبين ما زالت شبه معدومة. وللفوز بترشيح احد هذين الحزبين، على المرشح ان يواجه خصومه في كل ولاية على حدة، ضمن الاطار الحزبي. الا ان قواعد المواجهة هذه تختلف باختلاف الولايات. ففي بعضها، يتم الاختيار ضمن اطار المجالس الحزبية، كما في ولاية ايوا، التي شهدت التئام مجالسها قبل اسبوعين. والمشاركة في هذه المجالس طوعية للمسجلين في الحزب، انما محدودة، فلا تشمل كافة الناخبين. وفي سائر الولايات، يتم الاختيار عبر صندوق الاقتراع. وفي بعض هذه الولايات، تقتصر المشاركة في اختيار المرشح الحزبي على المسجلين انتخابياً في الحزب المعني. ولكن، في ولايات اخرى، ومنها نيوهامبشير، يمكن للمستقلين، اي الذين لم يتسجلوا انتخابياً في قوائم اي من الحزبين، ان يشاركوا في التصويت لاختيار مرشح حزبي في احد الحزبين. وفي ولايات اخرى، ومنها ساوث كارولاينا، المحطة الرئيسية التالية في المعركة الانتخابية، لا يأخذ التسجيل في القوائم الحزبية في الاعتبار عند اختيار المرشحين الحزبيين. فيمكن للمسجلين في الحزب الديموقراطي مثلاً المشاركة في اختيار مرشح الحزب الجمهوري، والعكس بالعكس. والبعض يرى وجوب اصلاح الأمر لإحلال قدر من الانتظام والمساواة في العملية الانتخابية، لا سيما ان الوضع القائم يسمح للمجموعات ذات المصالح الخاصة وللفئات المنظمة باكتساب وزن انتخابي يفوق حجمها الفعلي، كما هي حال الجالية الكوبية في ولاية فلوريدا مثلاً، او الطائفة اليهودية في ولاية نيويورك، او النقابات العمالية في شمالي الغرب الأوسط. ولكن حيث يرى البعض ان النظام الانتخابي الاميركي قائم على الاعتباطية، يعتبر البعض الآخر ان مجموع المفارقات يؤدي الى تخفيف وطأة كل منها، والى التعبير بصدق عن الارادة الشعبية. ويخشى ان تكون الدعوات الى الاصلاح مدخلاً الى المزيد من العبث بنظام يشكو لتوّه من تردي صورته لدى الجمهور الأميركي. وجملة الاعتبارات الموضوعية والعملانية المذكورة آنفاً تفسر كيف ان نتائج اقتراع ناخبي نيوهامبشير قد سمحت لكل من المرشحين الرئيسيين الخمسة من الحزبين بإعلان "انتصاره" بصيغة او بأخرى. فعلى صعيد الحزب الجمهوري، فاز جون ماكين ب49 في المئة من الأصوات، متفوقاً على جورج دبليو بوش، صاحب الحظ الأوفر في الفوز بترشيح حزبه لاعتبارات مالية وتنظيمية، بزهاء 18 في المئة من الأصوات. ماكين قد أثبت اذن ان شخصه وتوجهه الخطابي الداعي الى احباط سلطة رأس المال في العملية الانتخابية، يلاقيان استجابة شعبية. وقد سارعت اوساط بوش الى الاشارة الى ان فوز ماكين قد جاء مضاعفاً نتيجة لمشاركة غير المسجلين في قوائم الحزب الجمهوري بالاقتراع. وهذا الأمر ليس علة في نظر مؤيدي ماكين، بل مصدر قوة، اذ ان نجاح مرشحهم في استقطاب غير الجمهوريين من شأنه تسهيل الفوز في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، على غرار تمكن رونالد ريغان عام 1980 من الحصول على اصوات العديد من المسجلين ديموقراطيين. وانتصار ماكين يطوي صفحة التشكيك بصلاحيته كبديل لجورج دبليو، ويفتح امامه أبواب الاعلام والمال. الا ان الدرب امامه شاق وطويل، والمنافسة جدية وخطيرة. فبوش، رغم انه نال 31 في المئة فحسب من اصوات المقترعين الجمهوريين، ظهر بدوره في مظهر المنتصر، مؤكداً انها الخطوة الأولى من مسيرة نهايتها البيت الأبيض. وتشير أوساطه الى ان ماكين تصرف في العام الماضي وكأنه مرشح لمنصب حاكمية ولاية نيوهابشير ليس إلا، اذ أمضى فيها معظم وقته وعمل جاهداً على التواصل الشخصي مع سكانها، مهملاً غيرها من الولايات، ساعياً الى فوز استعراضي، في حين ان بوش يعمل ضمن الولايات كافة ويوزع وقته بينها. فلا عجب اذن ان يتفوق ماكين اليوم، لكن تفوقه لن يدوم. والواقع ان الامكانيات المالية والتنظيمية المتوفرة لبوش في ولاية نيوهامبشير فاقت تلك التي توفرت لماكين، لكنها لم تثمر. وتلاحظ هنا بعض الجهات المؤيدة لبوش ان الاحتضان الاعلامي لولاية نيوهامبشير قد ساهم في ضعضعة اهميتها في اختيار المرشحين الحزبيين، اذ أدت المتابعة الاعلامية الشغوفة في تركيزها المستديم على الطابع المستقل والمتمرد للناخب في نيوهامبشير، الى دفع هذا الناخب الى اختيار المرشح المغامر لا المرشح الحائز على شبه الاجماع الحزبي الوطني. هكذا أيدت نيوهامبشير باتريك بوكانان ذا الخطاب الشعبوي القارص، في كل من العامين 1992 حين خذلت الرئيس السابق جورج بوش، و1996 حين اسقطت بوب دول الذي أكمل سبيله للفوز بالترشيح عن الحزب الجمهوري. نيوهامبشير اذن، ليست ذات أهمية بالنسبة لجورج دبليو بوش. اما ستيف فوربز، صاحب دار النشر والمحافظ اقتصادياً ثم اجتماعياً، والحائز على 13 في المئة من أصوات المقترعين لمرشح الحزب الجمهوري، فيعتبر ان نتائج نيوهامبشير فائقة الأهمية. ذلك انها اطاحت جورج دبليو، مرشح المال والمؤسسات القيادية الحزبية، على حد تعبيره. ويعتبر فوربز انه يستحق ان يغتبط لذلك، رغم ان الفائز اليوم هو ماكين. ذلك ان منحى هذا الأخير غير مقبول من وجهة النظر المحافظة وفق تقييم فوربز، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. فعلى الرغم من ان ماكين قد كشف عورات بوش وعجزه عن الانتصار، فإنه لا يمكن للتيار المحافظ ان يقبل بترشيحه عن الحزب الجمهوري، ولا يبقى عندها غير فوربز صاحب الخطاب المحافظ الثابت. ولا يخفى ان أسس هذا التصور متفائلة لصالح فوربز الى حد كبير. فلا بوش انهزم، ولا ماكين انتفى، ولا فوربز نفسه البديل المقبول في مختلف الأوساط الجمهورية، المحافظ منها والمعتدل. وعلى الصعيد الديموقراطي، بدا آل غور الذي فاز ب52 في المئة من اصوات المقترعين للمرشح الديموقراطي وكأن الفوز قد جاءه بغتة. وفوز غور هذا يكرسه فعلياً في دوره المرتقب كمرشح للحزب الديموقراطي. ويذكر ان وضع غور إزاء منافسه بيل برادلي كان قبل الانتخابات شبيهاً بوضع جورج دبليو ازاء ماكين. حيث ان كلا من ماكين وبرادلي قد وضع معظم طاقاته المالية والتنظيمية للفوز في نيوهامبشير، فتحقق لماكين ما عجز عنه برادلي. والواقع ان نجاح ماكين وفشل برادلي ليسا أمرين منفصلين، اذ ان هذين المرشحين لاتفاقهما على مناهضة المؤسسات القيادية في حزبيهما، وعلى معارضة الممارسات السياسية القائمة بشأن الأموال الانتخابية، ومواقفهما الاصلاحية المتشابهة في العديد من الاحيان، قد تنافسا فعلياً على أصوات المستقلين الذين كان بوسعهم منح اصواتهم هذه لأي منهما. ويبدو، بالتالي، ان ماكين قد استفاد من النظام الانتخابي في ولاية نيوهامبشير على حساب برادلي. وعلى الرغم من الانتكاسة التي مني بها برادلي، فانه اعتبر ان حصوله على 47 في المئة من اصوات المقترعين للمرشح الديموقراطي ترخيص قد مُنح له لمتابعة حملته الانتخابية. وفي حين يرى بعض الديموقراطيين انه من الأنسب لبرادلي الإقرار بانتصار غور والعمل على تعزيز حظوظ حزبهم بالفوز في الانتخابات الرئاسية، يعتبر المؤيدون له ان غور، رغم استعداده عملانياً، ليس مؤهلاً للوصول الى الرئاسة لما تتضمنه خلفيته من شبهات: من مخالفات مالية وإدارية الى تأرجح في المواقف لا بد ان يثيرها الجمهوريون. فالأحرى بالديموقراطيين، اذن، ان يهموا بتنظيف بيتهم بأنفسهم، وان يختاروا برادلي صاحب السمعة الطيبة. ماكين قد فاز، وبوش يتأهب للفوز، وفوربز واثق من فوز عتيد. وغور ايضاً فاز، انما برادلي يجاري فوربز بثقته. فنيوهامبشير شذّبت مرشحي الصف الثاني من الجمهوريين كيس وباور، بعد انسحاب هاتش وكوايل. لكن الفرز الحاسم قادم خلال شهر، اذ ان الانتخابات التمهيدية التي تعتزم بعض الولايات اجرائها قبل منتصف آذار المقبل من شأنها ان تفصل بشكل قاطع في هوية المرشح عن كل من الحزبين. وعلى رغم الآمال والوعود المختلفة، وإذا لم يحدث ما لم يكن في الحسبان، فإن المواجهة في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل سوف تكون على الارجح بين جورج دبليو بوش وآل غور.