صباح الخامس من أيلول سبتمبر 1972 كنت في غرفتي في فندق فخم قريب من محطة القطار الرئيسية في ميونيخ، وأنا أستعد للنزول الى بهو الفندق لمقابلة مرافقتي الألمانية المسؤولة عن إعداد برنامج حضوري الألعاب الأولمبية. كان صديق يشاركني الجناح المخصص لي، فقد وجد أن النوم في الصالون الصغير أفضل من الغرفة التي حصل عليها وسط الزحام في فندق رخيص مجاور. وهو وجد معي فائدة اضافية فقد كانت مرافقتي تعطيه أي تذاكر لا يستعملها أفراد المجموعة الصغيرة من الصحافيين الأجانب الذين تولت مرافقتهم. الصديق هذا، اسمه ايلي شويري، وهو لا يزال يقيم في حدث بيروت، صرخ بي من الحمام حيث كان يحلق ذقنه أن أسمع الراديو الذي رفع صوته، وسمعت راديو القوات الأميركية في فرانكفورت يقول إن فدائيين هجموا على القرية الأولمبية وأخذوا عدداً من الرياضيين الإسرائيليين رهائن. ولم تمض دقائق حتى كانت مرافقتي تتصل بي من بهو الفندق، فتركت الصديق ونزلت اليها، وهي قدرت أن الخبر يهمني أكثر من الألعاب، فأخذتني في سيارتها الخاصة الى مدخل القرية الأولمبية، حيث كان رجال الشرطة الألمانية ينصبون حواجز من الحبال لمنع الناس من النزول الى الشارع عن الرصيف، فيما كانت طائرات هليكوبتر أخرى تهبط في الجوار وتنزل منها تعزيزات من رجال الشرطة. ما سبق سجلته بدقة بعد الحادث ونشرت تفاصيل النهار كله، والى أن غادرت ميونيخ في اليوم التالي الى هامبورغ ثم برلين الغربية مستأنفاً زيارتي في ضيافة الحكومة الألمانية. غير أنني أعود الى الموضوع اليوم بعد أن فاز "يوم في سبتمبر" بأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل. وهناك كتاب جديد في المكتبات يحمل الاسم نفسه، أما الفيلم فسيوزع اعتباراً من 19 أيار مايو. الفيلم يعرض مواقف جانبي الهجوم بدرجة معقولة من الموضوعية، ويشمل مقابلة مع أبو داود محمد داود عودة الذي رتب العملية مع أبو حسن سلامة علي حسن سلامة ومقابلة أخرى مع جمال الجشي أو الغاشي الذي يصفه بأنه الوحيد الباقي على قيد الحياة من الفدائيين الثمانية الذين نفذوا الهجوم. هناك اختلاف في التفاصيل بين الفيلم والكتاب الجديدين، وكتاب صدر بالفرنسية عنوانه "فلسطين من القدس الى ميونيخ" وكتبه أبو داود بالتعاون مع جيل دو جونشاي. كذلك هناك اختلاف في بعض الأسماء. وكانت الزميلة "الوسط" نشرت مقابلة على حلقات مع أبو داود في حزيران يونيو 1999 فأبقى مع الفيلم والكتاب الجديدين. أبو داود وأبو علي سلامة حدّثا الفدائيين عن العملية مساء الرابع من أيلول سبتمبر في مطعم في محطة القطار، وهي المحطة التي استعملتها كل يوم في الذهاب الى الاستاد الأولمبي والعودة منه، فهل قابلت هؤلاء الفدائيين من دون أن أعرف. لا أعتقد أني قابلت أبو داود يوماً، ولا أعرف شكله، غير أن أبو علي سلامة كان جاري في منطقة الصنوبرة من بيروت، وهو نجا بعد قتل فريق اسرائيلي ثلاثة قادة فلسطينيين في بنايات مجاورة لنا في نيسان ابريل 1973، ورأيته مرات عدة بعد ذلك، ثم مات سنة 1979 في انفجار قرب سيارته في المنطقة نفسها. الفيلم يقول إن رئيس المجموعة كان لطف أو لطفي عفيف، وهو من مواليد الناصرة، وأبوه رجل أعمال مسيحي ثري، وأمه يهودية، وكان نائبه يحمل اسم طوني، وقتل في المطار العسكري معه. أما جمال الجشي الذي يصر الفيلم أنه الناجي الوحيد الباقي على قيد الحياة، فقد نجا معه في حينه عمه عدنان الجشي ومحمد صفدي. وثمة نقاط يؤكدها الفيلم مرة أخرى تستحق التسجيل: - لم يكن الفدائيون المهاجمون يحملون أوامر بقتل الرهائن، وانما بالدفاع عن أنفسهم في حال مقاومة العملية. وكان الهدف المبادلة، فالرهائن مقابل 234 سجيناً في اسرائيل واثنين في المانيا، هما اندرياس بادر واولريكه ماينهوف، زعيما العصابة التي حملت اسميهما. - الفدائيون قتلوا اثنين من الرياضيين الإسرائيليين قاوما، وحاولا انتزاع سلاح بعضهم. - سبب المذبحة محاولة رجال الشرطة الألمانية قتل الفدائيين وانقاذ الرهائن منهم في المطار العسكري الذي نقل الجميع اليه. غير أن تنفيذ عملية الانقاذ كان سيئاً الى درجة ان انتهى بقتل الرهائن وخمسة من أصل ثمانية فدائيين، وضابط الماني، وجرح عدد من رجال الشرطة الألمان. - كان زفي زامير، رئيس المخابرات الإسرائيلية، موجوداً وقدم النصح في مجال تنظيم عملية انقاذ الرهائن، الا أنه قال بعد ذلك إن الألمان كانت تنقصهم الخبرة وأخطأوا في كل خطوة على الطريق. شخصياً، ذهبت الى ميونيخ مدعواً، وكان أكثر ما توقعت، أو رجوت، هو أن أشاهد حدثاً أولمبياً تاريخياً، ففي الألعاب السابقة في مدينة المكسيك، حيث رافقني الصديق ايلي شويري أيضاً، رأيت بوب بيمون يقفز 890 سنتيمتراً، ويحطم الرقم القياسي العالمي بأكثر من نصف متر. أما في ميونيخ فرأيت الفريق الأميركي في كرة السلة يفوز بالمباراة النهائية والميدالية الذهبية، ثم يخسرها بعد أن أصرّ الحكم على بقاء ثلاث ثوان سجل فيها الروس هدف الفوز، لتكون تلك المرة الوحيدة التي يخسر فيها الأميركيون ميدالية كرة السلة في تاريخ الألعاب الأولمبية. واعتقدت أن هذه النتيجة تعادل قفزة بوب بيمون قبل أربع سنوات، ثم جاء الهجوم على القرية الأولمبية ليطغى على كل حدث آخر في دورة اختار لها منظموها اسم "دورة السلام والفرح".