لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    «نتفليكس» تواجه غضب السعوديين بسبب رفع الأسعار.. هل تسقط أمام المنافسين ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    11 تطبيقاً على هاتفك.. تتجسس عليك    بروزوفيتش مهدد بالغياب أمام الاتحاد    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    "ليالي المحافظات" تنطلق في شتاء جازان 2025 بألوان التراث والفلكلور    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    القِبلة    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    المدى السعودي بلا مدى    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إسرائيل تستهدف قياديًا في «حزب الله»    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    أسبوع واحد نقل الحرب في أوكرانيا إلى التصعيد    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابو داود : تعاونا مع البعثة الرياضية الاميركية للقفز فوق الأسوار ونجحت المجموعة في الذهاب الى مقر البعثة الاسرائيلية من دون عقبات
نشر في الحياة يوم 26 - 06 - 1999

تحدث ابو داود في الحلقة الرابعة من مذكراته عن استكشاف مواقع في المدينة الرياضية في ميونيخ. وكيف انتحل الجنسية البرازيلية ودخل المدينة الرياضية برفقة فلسطينية مقيمة في ميونيخ تجيد اللغة الالمانية. ويصف ابو داود جناح البعثة الرياضية الاسرائيلية حين زاره برفقة شابة اسرائيلية مرافقة للبعثة فادعى انه برازيلي معجب باسرائيل ويحب زيارتها، فأدخلته مقر البعثة وأطلعته على الغرف وزودته بأعلام دولتها ومنشورات سياحية. ولعبت معلومات الشابة دوراً مهماً في تنفيذ العملية وتسهيل اختراق جناح البعثة الرياضية الاسرائيلية.
مساء ذلك الخميس 31 آب/اغسطس، كنت مع رفيقيّ ننتظر بفارغ الصبر وصول بقيّة الفدائيين من ليبيا.
اتصلت بعاطف بسيسو في بيروت قائلاً: ابلغ فخري بأن كلّ شيء جاهز هنا. فليرسل في اليومين أو الثلاثة المقبلة، الرجال الستة الجاهزين.
وأصرّرت على أن ابسط ما يكون هو ارسالهم بالطائرة كسباً للوقت، إثنين إثنين إلى ميونيخ بالذات. يصلون اليها في رحلات جوية مختلفة، تمرّ في مدن اوروبية. وبما أنّ تشي ومصالحة يعرفانهم واحداً واحداً، فسيذهبان كلّ بدوره لإستقبالهم في المطار.
كما عبّرت لعاطف عن قلقي لعدم تسلمي البلاغات التي يجب إعطاؤها للمسؤولين الالمان يوم نشنّ العملية.
وقلت له، ببعض التوتر: لقد قرّرنا الانطلاق في العملية بعد اربعة ايام. فماذا تنتظر لترسل لي تلك الوثائق؟ هذا اكثر أهميّة من سائر الرسائل التي تصلني منكم.
في الواقع لم يكفّ أبو أياد عن ارسال مبعوثيه اليّ في ميونيخ. ولم تكن الرسائل التي يحملونها محدودة الفائدة فقط - وهي رسائل من نوع "خذ الحيطة في حماية نفسك من مختلف وكالات الاستخبارات العاملة في المدينة"، أو أيضاً: "انتبه، عند وصول بقية الفدائيين، تذكّر ألاّ تجمعهم كلهم في الفندق نفسه".
وهذا من الامور البديهية، فقد سبق لي ان اتخذت كل الاجراءات لتحديد مختلف الفنادق - ولكنني من جهة ثانية، كنت اعتقد انه من الخطر ان يعرف كل هؤلاء الناس من جماعتنا انني موجود في ميونيخ وان يأتوا، فضلاً عن ذلك، لرؤيتي.
عند استقبالي هذا أو ذاك من مبعوثي أبو أياد على المطار، كنت اقول: هل معك بطاقة العودة؟
يجيبني الشخص: نعم، بالطبع.
كنت آمره عندها قائلاً: أعطني إياها.
ثم اذهب فوراً واحجز له على رحلة العودة في النهار نفسه. وعندما لم يكن هذا ممكناً، كنت أتدّبر أمري لجعله يرجع على متن رحلة اخرى. بإختصار، لم اسمح لأحد بالبقاء ليلةً واحدة في ميونيخ.
والامر نفسه حدث مع نبيل الذي قرّر أبو أياد ارساله إليّ في نهاية الاسبوع الأول من الالعاب. كان نبيل آنذاك طالباً في القاهرة. وهو اليوم مهندس، ولم تعد له أي علاقة بحركتنا منذ زمن بعيد. لكنه كان في عداد مجموعتنا في 1972. في الأول من ايلول سبتمبر وجدت رسالة منه في فندقي تقول: ""أنا آتٍ". وإضطررت في اليوم التالي الى الاسراع مرّة اخرى الى المطار. وعلى عكس غيره، استقبلته بالترحاب، فقد جلب معه أخيراً نصوص البلاغات النهائية ولائحة المعتقلين الذين سيطلب رجالنا تحريرهم في مقابل الأسرى الاسرائيليين. على رغم هذا دفعته الى المغادرة فوراً وحرصت على رؤيته يصعد فعلاً الى الطائرة.
مساء ذلك اليوم السبت 2 ايلول، عشيّة وصول الرجال الستة الذين يشكلون قسماً من مجموعة الفدائيين، اجريت نقاشاً معمّقاً أنا وتشي ومحمد مصالحة حول مختلف جوانب المهمة التي تنتظرهما. حتى تلك اللحظة في الواقع لم يكن مسؤولا مجموعة الفدائيين يعرفان سوى الخطوط العريضة للعملية، اي إحتجاز اكبر عدد ممكن من الاسرائيليين في القرية الاولمبية بهدف مبادلتهم مع معتقلينا في اسرائيل. لكنني عملت على توضيح دور كلٍ منهما، وبما انه اصبحت بحوزتنا الآن لائحة بالمعتقلين والبلاغات التي يجب تسليمها الى السلطات الالمانية، فقد حدّدت لهما هامش المناورة في المفاوضات التي سيقومان بها عند نجاح عملية الاحتجاز. فلفتّ نظرهما، قبل كلّ شيء، الى نقطة أساسية إتّفقت عليها مع أبو أياد وأبو مازن أثناء رحلتي الاخيرة الى بيروت وقلت للرجلين:
- أَعلَمُ كم هي كبيرة رغبتكما في الانتقام من الاسرائيليين، بسبب الهزائم التي يلحقونها بنا في جنوب لبنان، وقصفهم المستمر الذي لا يمكنكم مواجهته بالكلاشنيكوف وحده، وبسبب كل العذابات والإهانات التي تسبّبها إسرائيل لشعبنا. على أن أبو أياد لم يختركما لقيادة الفدائيين كي تنتقما من البعثة الاسرائيلية الموجودة في العاب ميونيخ. إذ يجب ألاّ يقتل أو يجرح أحد. اكرّر: لا أحد. العملية التي تنتظركما هي في الاساس سياسية وليست عسكرية. تعليماتنا لكما هي ان تأسرا هؤلاء الاسرائيليين أحياء، من دون إراقة دماء. من المهمّ جداً ايضاً ان تظهرا للرأي العالمي مظهر المحاربين غير القساة المتمالكين انفسهم تماماً.
واطلعتهما عندها على البلاغين اللذين عليهما رفعهما، كل في وقته، الى السلطات الالمانية. أعطيتهما ايضاً ورقتين عليهما أسماء 236 معتقلاً نريد اطلاق سراحهم. وأوضحت لهما: يجب أن تُلحق هذه اللائحة بالبلاغ الأول الذي يوجّه فور احتجاز الاسرائيليين.
ثم تابعت قائلاً: بالطبع، من اجل مصداقيتكم ومصداقية "ايلول الاسود"، يجب ان يفهم محاوروكم أنكم ستقتلون الاسرى، في حال لم يتجاوبوا مع رغباتكم. ولكن حتى بعد انتهاء المهلة الاولى المحدّدة في التاسعة صباحاً، والمهلة الثانية التي تستمرّ حتى الظهر، نعطيكم الصلاحية، في حال انقضت المهلة الاخيرة، بأن تؤجّلوا تنفيذ تهديداتكم الى ابعد حدٍّ ممكن. يجب ان تقوموا بكلّ ما يلزم بغية تفادي قتل الاسرائيليين الذين يقعون بين أيديكم.
واشرت اليهما، من ناحية اخرى، بمعاملتهم معاملة جيّدة وبالتكلّم معهم والتخفيف عنهم إذا لزم الامر.
- سوف توضحون لهم أنكم مجبرون، لأسباب أمنية، أن توثقوا أيديهم بعضهم ببعض بالحبال، وأنكم لا تضمرون لهم أي سوء، فقط تريدون مبادلتهم بمقاومين معتقلين في اسرائيل.
إلاّ ان "تشي" ومحمد مصالحة، لم يتوانيا عن لفت انتباهي الى المرحلة الدقيقة في بداية العملية. اذ ان لحظة دخولهم المكان، سيفاجئون بعض الرياضيين وهم نيام.
لكنّ آخرين قد يكونون ساهرين أو يستيقظون إثر ضجة كسر الباب الزجاجي الرئيسي، بغية دخول المبنى، فهو سيكون مقفلاً على الارجح في تلك الساعة من الليل. وبين اعضاء البعثة الاسرائيلية مصارعون ورافعو أثقال، وبالتالي رجال "اشدّاء"، إضافةً الى أنهم أصحاب خبرة في مغاوير الجيش. لن يكون من السهل ضبطهم. كما انه خلال نقل عدد من الاسرى الى الشقة حيث قرّرنا تجميعهم، يُخشى ان يختار هذا أو ذاك تلك اللحظة المعيّنة للقيام بمحاولة ما.
إعترفت أنّ تلك اللحظات هي الاخطر في العملية: معكم الكلاشنيكوف كي توقفوا اسراكم عند حدّهم. لن ينكر عليكم أحد حقكم في الدفاع عن أنفسكم واستعمال اسلحتكم في حال، اعتدي عليكم على رغم تحذيراتكم، إلاّ انني أصرّ: لا تفتحوا النار إلا اذا كنتم تعجزون عن اي شيء آخر .
ما العمل في حال تمكن عدد من الاسرائيليين من التحصن في بعض الغرف، أو حتى في شقّة كاملة؟ وهذا امكان محتمل بالنسبة الى بقيّة الشقق التي سيجهد فدائيونا في تفريغها من المقيمين فيها بعد احتلالهم الشقة عند زاوية المبنى.
حذّرتهم قائلاً: مهما حصل، لن تلقوا اي قنبلة. اذا اردتم كسر باب او خلع قفل او مزلاج، لا تعتمدوا سوى على الكلاشنيكوف. أكرّر: انتم لستم في مواجهة مع هدف عسكريّ يجب تدميره مهما يكن الثمن. ليس المقصود قتل الاعداء، بل أخذ اسرى بهدف المبادلة. امّا القنابل فتستعملونها لاحقاً: للتأثير في محاوريكم الالمان في مواجهتكم معهم، كي تظهروا عزمكم وتدافعوا عن أنفسكم حتى الموت اذا حصل بعد ذلك ان نصبوا لكم فخاً في مكان ما.
وصلنا هنا الى المفاوضات التي يجب ان يقوموا بها مع السلطات المحليّة. فأطلعتهما ان عليهما - كان يجهلان الموضوع ساعتئذٍ - المطالبة بثلاث طائرات للسفر الطويل لحظة تسليم البلاغ الاول الملحقة به لائحة المعتقلين الواجب الافراج عنهم، كي يغادروا البلاد هم وأسراهم، وذلك بغضّ النظر عن نتيجة المفاوضات التي ستجريها من جهتها حكومة المانيا الغربية مع حكومة اسرائيل.
وقلت: لسنا من السذاجة بحيث نظنّ أنّ غولدا مئير سوف تستجيب فوراً طلباتنا. لذا من الافضل ان تختفوا عند أول فرصة انتم واسراكم وترحلوا الى القاهرة، وعند وصولكم اليها، تسلمون اسراكم الى المصريين. وهم يفاوضون مكانكم على شروط التبادل. هنا تنتهي مهمتكم.
قاطعني محمد مصالحة سائلاً: هل نحن متأكدون من حسن تعاون الحكومة المصرية؟
أجبته: بالطبع سيتصرّف المصريون كما يريدون، لكنني أشك في ان يطلقوا سراحهم من دون اي شيء بالمقابل من اسرائيل، او يكشفون عندها أمرهم أمام العالم العربي كله ... لذا اشجّعكم على عدم ذكر وجهة سفركم أثناء مفاوضاتكم مع الالمان، فبذلك تتفادون اعطاء المصريين فرصة التهرّب قبل مغادرتكم المانيا. تقيّدوا بنصّ البلاغ الذي يشير من دون اي تفاصيل أخرى الى: "اي بلد نختاره". سوف تبلغون السلطات بوجهتكم فقط بعد ان تصبحوا على متن الطائرات.
سأل تشي من جهته: ثلاث طائرات، هل هذا ضروري جداً؟
صرختُ قائلاً: سؤال جيد يا يوسف. كنّا قررّنا في السابق ان تكونوا عشرة، الا تذكر؟ لكن ابو اياد، على ما يظهر، لم يجد متسعاً من الوقت لتعديل الوثائق التي لدينا. تقيّدوا في باديء الامر، هنا ايضاً، بما تطلبه هذه الوثائق. وعند انتهاء المهلة الثانية، يمكنكم في نظري التخفيف من مطالبكم فتكتفون بطائرتين. لكنه من الضروري جداً ان يضعوا هذه الطائرات بتصرّفكم. ثم عند حصولكم عليها، ترحلون. ارفضوا اي اقتراح مغاير كالمال الوفير مثلاً في مقابل اطلاق سراح الاسرى، او ضمان سلامتكما وسلامة بقية الفدائيين. وأخيراً رجوتهما، وقتياً، عدم الافصاح عن وجودي لبقية الفدائيين المتوقّع وصولهم في اليوم التالي، وعدم ذكر مناقشتنا هذه امامهم.
وانهيت الحديث قائلاً: سنعيد البحث أيضاً مساء الاثنين.
على انني، قبل ان نفترق، وزعت الادوار بين مسؤولي الفدائيين في المرحلة اللاحقة من العملية. تشي مشهور بأنه محارب قديم" عليه اذاً ضبط الوضع العملاني من الناحية التكتيكية. لكنني كنت افضّل الرفيق الآخر من أجل التفاوض مع السلطات المحلية. لذلك عيّنت محمد مصالحة مسؤولاً سياسياً عن المجموعة.
لا بدّ ان اقول بضع كلمات عن هذا الرجل الذي، مثل تشي، سوف يقتل اثناء تلك الاحداث المأسوية. فقد سبق لي ان التقيته في لبنان في الربيع الماضي. وهو احد ضبّاط "العاصفة" الشباب، وقد تدرّب على يد أبو علي اياد. عند موت الاخير وضع نفسه، مثل يوسف النزّال في تصرّف ابو اياد. عدا هذا، وعدا كون ابيه يعمل في ليبيا، لم أكن أعرف عنه شيئاً عملياً. وهو كان واحداً، بين أمثال أخرى عديدة.
كان محمد يتكلم الالمانية، وكنت أجهل هذا عندما كنّا في ميونيخ. كيف لي ان اعرف ذلك؟ خلال الايام الثمانية التي قضيناها جنباً الى جنب، كنا نتناول وجبات الطعام سوية في المطاعم، لم اسمعه يقول اي كلمة بالألمانية، ولا حتى لنادلٍ ما. وهذا ما كان يدهشني. فهو لم يتكلم في الواقع مع ايٍ كان غيري أنا ويوسف.
لكننا عندما كنّا نتناقش، بدا لي انه من الناحية السياسية اكثر نضجاً من تشي. إضافة الى ذلك، كان رجلاً هادئاً، على عكس يوسف الذي كان مقاتلاً باسلاً. وقد ذكرت هذا، لكنه زلق اللسان اكثر ما يجب بالنسبة إلي، وقد يثور غضبه أحياناً. باختصار، جعلتني تصرفاته ونضجه اعتقد انّ محمد أجدر في خوض المفاوضات. اما التكلم بلغة البلاد فهذا شيء ثانوي بالنسبة اليّ. ما من شك في ان المسؤولين الالمان سيرسلون مترجماً للتفاوض مع الفدائيين. لكل هذه الاسباب، وقع اختياري عليه، رغم انني كنت اقول في نفسي - وأنا مخطيء - انه من دون اي شك غير موهوب باللغات الاجنبية.
صباح 4 أيلول سبتمبر، أعطيت إشارة الاستعداد، فإتصلت باكراً بتشي ومحمد في فندقهما.
أعلمتهما قائلاً: نلتقي في المحطة بداية بعد الظهر.
- جميعنا؟
- لا، انتما الاثنان وانا، فقط.
عشية ذلك، كان الستة الآخرون قد وصلوا، كما هو متوقّع، كلّ إثنين على حدة. انتظرهم تشي ومحمد وقادوهم الى فندقين مختلفين ووزعوهم عليهما حيث كان ممنوعاً عليهم الخروج. الححت على هذا الامر نظراً الى ان تظاهرات كانت تجري في المدينة في ذلك النهار من اجل السلام في فيتنام. وسبق ان حدثت صدامات عدة يوم السبت قرب مارينيبلاتز بين قوات حفظ الامن ومتظاهرين شبّان كانوا يستعملون قضباناً حديداً. أما انا فلم اتحرك تقريباً من فندقي هذا الأحد، مترقباً في حال أُعلمتُ بتخلف احد العناصر بصورة مفاجئة او بأي مشكلة اخرى على المطار عند وصول الوافدين الجدد. واغتنمت الفرصة لأوضّب متاع كل الافراد من اجل مساء الغد. كنت في الواقع قد اشتريت، قبل يومين، ثماني حقائب رياضية "اديداس" وبذلات تدريب ليرتديها الجميع في ذلك المساء. كما اشتريت الكثير من الجوارب ليستعملوها غطاء للوجه، واخيراً اشتريت امتاراً عدة من الحبال لنقيّد بها الأسرى ومقصّات وسكاكين وأمواس حلاقة، من دون أن أنسى جعبة طبّية للاسعافات الأولية، وعلب اسبيرين وبعض الضمادات.
بقي أن اكمل مؤونتهم من الطعام ليومين او ثلاثة تقريباً. هذا اول شيء خرجت اقوم به صباح ذلك الاثنين، فاشتريت علب التون ولحم البقر المعلّب وشرائح اللحم المجهّز وجبنة وخبزاً وبسكويت. وتوجّب ذهابي ايضاً لأحجز غرفة في فندق آخر لليلة المقبلة. في الواقع رأيت انه من غير الحذر ان اعود للنوم في فندقي المعتاد تلك الليلة. كنت اعلم أنني سأعود في ساعة متأخرة من الليل، ولا اريد اثارة فضول البواب بعودتي المتأخّرة اكثر من العادة. كما لم اشأ ان أؤخذ على حين غرّة في حال فشلت عمليتنا ونجحت الشرطة في اجبار تشي ومحمد مصالحة على الكلام، وكلاهما يعرف الفندق الذي انزل فيه.
خرجت من جديد اذاً اواخر قبل الظهر لأحجز غرفة في فندق لم انزل فيه من قبل، هو فندق "متروبول"، واحتفظت بالغرفة التي كنت اشغلها في فندق "ادن والف". وكما كان شائعاً في تلك الأيام لم، يطلب مني مسؤولو الاستقبال جواز سفري عند تدوين اسمي في السجلّ. فتسجّلت تحت اسم آخر - سامي راجي - اخترعته في حينها.
والتقيت لاحقاً قائدي الفدائيين في المحطة، كما اتفقنا. وهما كانا قد ذهبا لتناول الغداء مع الرجال الذين وصلوا مساء امس، واعادوهم بعدها الى فنادقهم. توجهنا نحن الثلاثة الى خزنات الودائع. واخذنا منها حقيبتي الاسلحة وصندوق القنابل اليدوية التي وضعتها هناك قبل اكثر من اسبوع من دون ان اهمل تغيير مكانها كل يوم.
ثم اخذناها الى فندقي المعتاد، "ادن والف". عندما فتحنا الحقيبتين المليئتين بالاسلحة في غرفتي، ورأى عندها تشي ومحمد ست بنادق كلاشنيكوف ذات القبضات القابلة للطوي، لم يتمكنا من ردع انفسهما عن التقاطها وتقبيلها واحدة واحدة.
وكانا يهتفان عند تقبيل كل منها: آه يا حبيبتي!
ولكن لم يكن لدينا وقت نضيّعه. فقد وضّبنا الأسلحة في الحقائب الرياضية الثماني التي احضرتها في الأمس: بندقية كلاشنيكوف او رشاش كارل - غوستاف في كل حقيبة مع مخازن الرصاص وقنبلة يدوية او اثنتين. واضفنا السندويشات التي قمت بتحضيرها وبقية المؤونة التي اشتريتها في الصباح. ثم اخذ كل منا واحدة من هذه الحقائب وذهبنا الى الفندق حيث تنزل مجموعة اولى من ثلاثة رجال. وتركت تشي ومحمد يصعدونها ويضعونها في غرفهم. وهذا ما قمنا به بالنسبة الى المجموعة الثانية التي كانت في فندق آخر.
ثم عاد معي قائدا الفدائيين الى فندقي مرة اخيرة كي يأخذا حقيبتيهما. وفي الوقت نفسه حدّدت لهما موعداً جديداً الساعة التاسعة مساء، في المحطة ايضا، حيث يجلبان معهما هذه المرة الرفاق الستة الآخرين. يدفعون قبلها ايجار غرفهم جميعا، ويتأكدون من عدم تركهم فيها اي شيء يثير الشبهات.
في الساعة المتفق عليها، رأيت تشي ومحمد قادمين مع بقية الفدائيين. وكانوا قد لبسوا جميعهم البذلات الملونة التي اشتريتها، وكل منهم يحمل ايضاً حقيبة رياضية. فذهبنا مباشرة الى مطعم المحطة الذي يبقى فاتحاً ابوابه طوال الليل.
باستثناء القائدين، لم اكن اعرف احداً من هؤلاء الفدائيين الشباب القادمين جميعهم من مخيمات لاجئينا في لبنان. لكنني لم أكن متأكداً في المقابل من ان احداً منهم لم يرني من قبل اثناء الوقت القصير الذي بقيت فيه على رأس "الشعبة 48" او على رأس ميليشياتنا في ذلك البلد. على ايّ حال قدّمني تشي ومحمد اليهم على انني برازيلي يساعد الثورة الفلسطينية. وحرصت بالتالي على الاّ اتكلم العربية، فتكلمت الانكليزية وقام تشي من جهته بالترجمة.
وكما تفرض القاعدة في هذا النوع من العمليات، كان هؤلاء الشبان الذين تلقوا تدريباً مكثفاً في ليبيا، يجهلون كل شيء عن حقيقة المهمة التي تنتظرهم. لذا كان العرض الذي قام به قائدهما لهذه المهمة، اثناء الاكل، طويلاً جداً. من جهتي، تدخلت قليلاً، مكتفياً بالتحقق من استيعابهم الكامل للامور التي تناقشنا فيها اول من امس.
لكنني تكلمت في النهاية موضحاً عدداً من النقاط. الاولى هي النقطة التي شددت عليها مطولاً قبل يومين: التعليمات تقضي ليس بقتل الاعداء بل بأخذ اسرى وبعمل كلّ ما يمكنهم لابقاء هؤلاء الاسرى على قيد الحياة. كذلك شددت على اعلامهم بأنهم على الارجح قد لا يتمكنون من الحصول مقابل هؤلاء الرهائن على اطلاق جميع المعتقلين الذين يطالب بهم البلاغان.
قلت لهم: ليس العدد هو المهم، بل المهم ان تقبل اسرائيل بمبدأ المبادلة.
وحذّرتهم اخيراً من بعض الافخاخ التي قد تنصب لهم: خلال كل الوقت الذي تتطلبه المفاوضات مع السلطات المحلية، لا تدعوهم يخدعونكم بالاعتبارات الانسانية، ولا تقبلوا بأي وساطة للصليب الاحمر. وذكّرتهم بالنهاية المأسوية لاختطاف "بوينغ" شركة "سابينا" في مطار اللد في شهر ايار مايو حيث تمكّن الاسرائيليون من التظاهر بقبول شروط مواطنينا ثم خدعوا ممثلي الصليب الاحمر الدولي الذين توصلوا الى الصعود مرات عدة الى متن الطائرة.
وتابعت قائلاً: على انكم لا تستطيعون رفض طلب السلطات الالمانية المجيء للتحقق من وضع اسراكم، لكن باستثناء هذه الحالة التي يجب الا تتكرّر وبشرط ان يقوم بها مسؤول رفيع المستوى، لن تسمحوا لأحد اطلاقاً بالدخول الى الشقة التي تسيطرون عليها. اما اذا اراد الالمان جلب الطعام للاسرى، وليس لديكم اي سبب لرفض هذا الامر، فليضعوه عند مدخل المبنى.
أنهيت حديثي بلفت انتباههم الى وسائل النقل التي ستعرض عليهم لتقلهم الى الطائرة او الطائرات التي ستوضع في تصرفهم كي يغادروا البلاد مع اسراهم:
- اذا قدّموا لكم باصات يستغرق وصولكم الى مطار ميونيخ اربعين دقيقة. اما اذا قدّموا مروحيات، فلن يلزمكم سوى ما بين خمس او عشر دقائق. فاذا كانت اوقات الانتقال اطول مما اشرت به اليكم، فهذا يعني انهم يأخذونكم الى مكان آخر وان فخاً ينصب لكم.
كانت الثانية والنصف صباحاً تقريباً عندما تركنا المطعم. وطلبت من الجميع اعطائي جوازات سفرهم، وبألا يُبقوا معهم اي شيء من شأنه ان يدل من اين أتوا، او ماذا فعلوا في ميونيخ.
عند خروجنا من المحطة، صعدنا في تكسيات واتجهنا الى القرية الاولمبية. الا اننا توقفنا على مسافة من المدخل الغربي بشكل يسمح لنا بالسير بعض الشيء. كنا نريد التأكد من ان كل شيء يبدو طبيعياً في المكان حيث كان عليّ ان اقوم بدور نقطة الارتكاز كي يعبر الجميع السياج المعدني الذي يعلو مترين ويحيط بالقرية.
الاسبوع المنصرم اتيت انا وقائدي الفدائيين مرات عدة لاستكشاف ذلك المكان. وهو على مقربة من المدخل الغربي الذي لا يبقى مفتوحاً في العادة الا حتى منتصف الليل.
لم تكن هناك مفاجآت عند اقترابنا منه. الابواب مقفلة وكشك المراقبة المجاور للمدخل خال ايضاً. لكن الغريب في الامر اننا كنا نسمع اصوات موسيقى وصياحاً. فأصغينا، كانت الاصوات آتية من المبنى حيث ركّزت التلفزيونات التي تغطّي الالعاب، قبالة مدخل القرية لجهة الغرب. على الارجح كان هناك احتفال او شيء من هذا القبيل.
قلت في نفسي: هذا أفضل، ليس هناك من خطر في ان يلاحظنا احد اذا أحدثنا ضجّة اثناء عبورنا السياج وقذفنا الحقائب لبعضنا البعض.
ولكن عندما حضّرت نفسي لأساعد الرجال في العبور، رأينا، على بعد بضع عشرات من الامتار منا مجموعة من الناس تخرج من المبنى. ثم آخرون وآخرون ايضاً يغنون ويقهقهون. كثيرون منهم بدوا ثملين بعض الشيء.
وصرخ تشي: اميركيون!
فسألته:
هل أنت متأكّد؟
- بالطبع! مع هذه النبرة، واللهجة المماثلة، لا يمكن ان اخطئ.
ها هم يصلون الى مدخل القرية، والابواب مقفلة. بعض منهم بدأوا يحاولون تسلق السياج المشبّك. على ما يبدو، كان هؤلاء رياضيين عائدين الى شققهم.
فقلت لتشي:
- بسرعة، فلنلحق بهم! أخبر الجميع.
شعرت بأنه متردّد. فالسياج عند المدخل أعلى مما هو حيث كنّا.
أمّا بالنسبة إليّ، فلم يكن هناك من مجال للحيرة.
استدركت قائلاً: اسمع، هذه فرصة ذهبية، مع كلّ الضجّة التي يحدثها هؤلاء، لا تظنّ انه في حال وجود من يراقب حولنا، أنّ أحداً لن يلاحظنا ونحن على بعد عشرات الامتار فقط. لا بل تصرّفنا هذا هو الذي سيبدو غريباً ويلفت الانتباه بمحاولتنا اتخاذ الكثير من الحيطة في دخولنا سراً الى القرية الاولمبية. من الافضل اذاً أن نندسّ بين هؤلاء الرياضيين!
لم نختلط بمجموعة الاميركيين هذه فحسب، بل ساعدناهم ايضاً في تسلّق شباك المدخل. فشكرونا ظانّين اننا فريق من الرياضيين، قائلين: آه، عظيم جداً! شكراً ايها الشبّان!
هكذا قمت أنا وإثنين من الفدائيين برفع بعض منهم الى فوق على أيدينا والبعض الآخر على اكتافنا والجميع يتابع الغناء والضحك. وعند بلوغهم اعلى السياج، لم يترددوا في مد يد العون في المقابل الى رجالنا.
وكانوا يصرخون: يا هذا، اعطني حقيبتك!
وتشي الذي كان يفهم بالاشارة، يجيبهم: اوكي، اوكي...
كان المنظر خيالياً، ان ترى هؤلاء الأميركيين - الذين، بالطبع، لا يشكّون اطلاقاً في انهم يساعدون مجموعة من فدائيي "ايلول الاسود" الفلسطينيين في الدخول الى القرية الأولمبية - يمدون هكذا ايديهم، يأخذون حقائبنا المليئة بالاسلحة ويضعونها على الجهة الاخرى من الشباك.
لم تكن هذه المفاجأة الوحيدة بالنسبة إلي. اذ لم يبقَ من مجموعتنا سوى رجل واحد اساعده في العبور. كان كبير الحجم مثلي، ومثلي أيضاً خدم الآخرين كنقطة ارتكاز. عندما ارتكز بدوره عليّ، بدا لي كأنه يزن اطناناً. كنت منهكاً لكنني صمدت، وتمسك بأعلى السياج وجذب نفسه اخيراً الى فوق. عند هذا سمعته يقول لي: شكراً رفيق ابو داود!
اصبت بدهشة كبيرة، كيف عرف اسمي؟ هل اطلعه قائدَيْ الفدائيين عليه؟ أم كان هو في ميليشياتنا في لبنان ولم أتعرف عليه وهو تذكّر وجهي؟ لكنه قفز الى الجهة الاخرى من السياج والتحق، مسرعاً، ببقية المجموعة التي كانت ابتعدت.
* من كتاب "فلسطين: من القدس الى ميونيخ".
** الحلقة السادسة الاثنين المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.