كشف أبو داود في الحلقة السابعة من مذكراته عن معلومات خطيرة تتعلق بحرب المخابرات والتصفيات التي اندلعت في اوروبا بين المنظمات الفلسطينية وجهاز المخابرات الاسرائيلي الموساد. وألقى الضوء على عمليات قتل متبادلة طالت العديد من قادة الرأي في باريس وروما ولندن وكيف ردت الاجهزة الفلسطينية بسلسلة عمليات ناجحة ضد رموز الموساد او البعثات الديبلوماسية في العواصم الأوروبية. وتحدث ابو داود عن اتصالات قامت بها المانيا لتدبير خطف طائرة تكون ذريعة لاطلاق سراح اسرى ميونيخ وهو ما رفضته منظمة "ايلول الأسود" ووافقت عليه مجموعة وديع حداد. وهنا الحلقة الثامنة. كانت هذه آخر زياراتي الى بلغاريا واوروبا. ذلك اننا تفاهمنا على ان اتفرغ انا اكثر مستقبلا للنشاطات السرية لمجموعتنا في الشرق الاوسط، فيما يستمر ابو اياد بالاشراف مباشرة على نشاطاتنا ضد "الموساد" في اوروبا. وقد سجّل في ذلك نجاحا فعلياً في تلك الفترة عندما جرى اغتيال عميل اسرائيلي في وسط مدريد في 26 كانون الثاني عام 1973 معروف باسم موشي حنان ايتساي، لكن اسمه الحقيقي هو باروخ كوهين. ونتجت من قتل هذا العميل تصفية الشبكة الاسرائيلية بكاملها في اسبانيا... في هذا الوقت كنت بدوري اضع اللمسات الاخيرة لتنفيذ عملية تهدف الى اجبار السلطة الاردنية على اطلاق المئات من السجناء السياسيين في المملكة. وهو مشروع كنا نفكر فيه انا وابو مازن وابو اياد منذ عودتي من ميونيخ، لكننا رأينا في الوقت نفسه ان الملك حسين لن يرضخ اذا اكتفينا بالضغط فقط على الحكومة الاردنية. لذلك قررنا اخيرا ان نستهدف سفارة الولاياتالمتحدة في عمان. وقضت الخطة بأن تتسلل سرا من العراق مجموعة قوية من نحو عشرين فدائيا، تكون مهمتها احتلال المبنى بشكل مفاجئ لتحتجز اكبر عدد ممكن من الموظفين الاميركيين رهائن من اجل مبادلتهم بالسجناء الذين نطالب بهم. استغرقت العملية اكثر من ثلاثة اشهر من التحضيرات المعقدة، لم اتوقف خلالها عن التنقل بين لبنان وسورية والعراق والكويت. وكما حدث قبل عملية ميونيخ، وافق عرفات على العملية بعد ان اطلعناه عليها منذ البداية. وكنت احدثّه عنها مباشرة احيانا، وهكذا ارسل اليّ اربعة ضباط من "العاصفة" احتجت اليهم كثيرا في اختيار المتطوعين من مركزنا قرب صيدا، ولاعداد اربع فرق يتولى كل منهم قيادة احداها على الارض في ما بعد. وبالفعل لم يكن ينقصنا مرشحون لهذه المهمة، اذ كان لدينا الكثير من المجندين. ففي حين ان عدد قواتنا لم يتجاوز، قبل الصيف، الخمسين شابا مقاتلا، بات بامكاننا الآن الاتكال على مئات عدة منهم، وهذا يعكس تنامي النفوذ الذي بتنا نمارسه على العديد من الشباب الفلسطينيين بعد عمليتنا في ميونيخ واستشهاد خمسة من عناصرنا في العملية. وهناك عنصر آخر خدمنا، اذ لم يفت جميع هؤلاء الشبان الذين كانوا يتقدمون الى قاعدتنا. ان يقيموا المقارنة بين اعمالنا واعمال سائر المجموعات التي تحاول ان تقلدنا حتى داخل فتح. وهنا المّح بالضبط الى احتلال سفارة اسرائيل في بانكوك في 28 كانون الاول عام 1972 على يد مجموعة من اربعة فدائيين ارسلهم ابو جهاد. وقد هدفت تلك العملية، مثل عمليتنا في الالعاب الاولمبية، الى تحقيق اطلاق بعض السجناء الموقوفين في اسرائيل. كان قائد المجموعة يدعى ابو نضال، وهو غير ابو نضال المقيم في بغداد والذي كان لا يزال صديقي، بل هو رجل آخر لازمه في ما بعد لقب "ابو نضال بانكوك". وباءت العملية بفشل ذريع في نظرنا كما في نظر الشبان الموجودين في مخيمنا. فبعدما نجحت مجموعة الفدائيين في احتجاز عدد من الديبلوماسيين الاسرائيليين وزوجاتهم كرهائن، اذا بهم يتراخون في الواقع امام سلطات البلاد والسفير المصري في تايلند، فافلتوا رهائنهم في مقابل وعد بالسماح لهم بالانتقال سالمين الى القاهرة. فعلى ما يبدو، لم يتمالك الرجال الاربعة اعصابهم بما فيه الكفاية كي يواصلوا العملية حتى نهايتها. وأنا اتفهم ان يتساءل القارئ، بعد المرحلة التي بلغناها في بداية عام 1973 هذه، عن علاقة الاعمال التي ندعو اليها بعملية تحرير فلسطين. وفي هذا اسلّم، وعلى غرار ما اعترف به ايضا ابو اياد في تلك الحقبة امام مجموعة من الطلاب في القاهرة، انها لا تمت الى حروب التحرير التقليدية بصلة. لكنها لم تصبح ضرورية الا بسبب الظروف الخاصة التي حكمت نضالنا. فلنعترف بان نضالنا هذا قد عرف تراجعاً مهماً بعد طرد فدائيينا من الاردن. وان جنوبلبنان، كما ذكرت، لم يكن، نظرا الى قدراتنا العسكرية في حينها، الساحة الفضلى لمحاربة الجيش الاسرائيلي، اللهم في العرقوب حيث لم تكن قواتنا تملك، حتى هناك، هامشاً كاملاً للعمل. فخلال وجودي في بلغاريا في تشرين الاول، واستجابة لمطالب الحكومة اللبنانية المتكررة بعد الغارات الاسرائيلية في ايلول بالتحديد، التزمت قيادة حركتنا الا تقوم وحداتنا مستقبلا بأية عمليات ضد اسرائيل انطلاقاً من لبنان الا بعد موافقة مسبقة من بيروت. حتى ان عرفات قرر ان يسحب بعض القوات من المناطق الحدودية لتنكفئ اكثر نحو الشمال. ونتجت من ذلك سلسلة من الصدامات في صفوف العاصفة، بعدما رفض بعض الضباط التفاهم الذي قبلت به القيادة العسكرية للمقاومة. وقد حُلّت الازمة طبعاً خلال ايام، بفضل وساطة سفير الجزائر في لبنان. ومع ذلك كان مقاتلونا يعيشون ظروفاً صعبة. في هذه الاثناء، تأخر وصول الاسلحة التي وعد بها السوفيات خلال الصيف. في هذه الاجواء، رأينا ان امامنا دوراً نؤديه، كمجموعة تابعة بشكل ما للمقاومة. فبمجرد ان نحرم حقنا البسيط، او أن يحدّ هذا الدور، في القدرة على القتال داخل وطننا لطرد الغاصبين منه، كان من الطبيعي ان نثير العواصف حيثما استطعنا، وذلك كي نذكّر اعداءنا، وجيراننا العرب والعالم أخيراً، باننا ما زلنا موجودين ولن نتخلى ابداً عن نضالنا. وبما انه عليّ انهاء هذا الكتاب حيث غايتي استعراض مسيرتي منذ طفولتي في القدس حتى عملية ميونيخ، اكتفي بالاشارة الى اننا لم ننجح ابداً في تنفيذ العملية المخطط لها ضد سفارة الولاياتالمتحدة في عمان. ففي الواقع تمّ توقيفي، بناء على اخبار، في العاشر من شباط 1973 في الاردن، وكنت دخلت قبل ثلاثة ايام متنكراً في زي شيخ سعودي. وخضعت للاستجواب والتعذيب، وتعرضت للخيانة مجدداً، ولكن على يد أحد رجالنا هذه المرة، هو أحد الضباط الاربعة الذين ارسلهم اليّ عرفات. ولذلك لم استطع منع المخابرات الاردنية من القيام بحملة مداهمات، بعد اربعة ايام، في فنادق العاصمة حيث توزع عناصر المجموعة الفدائية. فتمّ اعتقال ثلاثة ارباعهم. وبالتأكيد لم نكن خسرنا كل شيء، فأنا الوحيد بين الموقوفين الذي كان يعرف الهدف الحقيقي من مهمتنا، وعلى رغم عمليات التعذيب التي مورست عليّ، لم اعترف بشيء. ورأيت أن اكشف لمعذبيّ عن هدف كاذب آملاً ان يعلنوا عنه، حاسباً ان أبو أياد وعرفات سيفهمان بذلك ان معتقلينا يجهلون ما هو اساسي، وان الطريق امامهما مفتوحة لارسال مجموعات اخرى لمهاجمة الممثلية الاميركية في عمان. هكذا انتهيت الى الاعتراف بانني ورجالي "كنا نحضّر لمهاجمة مركز رئاسة مجلس الوزراء الاردني خلال اجتماع الوزراء فيه". حتى أنني قبلت ان اظهر على التلفزيون في 19 شباط لأكرّر ذلك امام الكاميرات، مع ما يمكن ان تمليه عليّ السلطات الهاشمية، كأن انعت قادتنا مثلاً ب"العجز والضلال". ويا للاسف، لم يتجاوب أبو أياد وعرفات مع الرسالة التي حاولت ان امرّرها لهما. فقد حسبا لأمر واحد، هو أنني املك الكثير من اسرار تنظيمنا فيجب الا ابقى بين ايدي المخابرات الاردنية. فرأيا انه من الاهم ارسال فرقة فدائيين الى السودان في مهمة هدفها احتلال سفارة السعودية في الخرطوم، خلال حفل استقبال يقام فيها، واحتجاز عدد معين من الديبلوماسيين الموجودين فيها بما يجعل الدول المعنية بالرهائن تضغط بدورها على الاردن كي يطلق سراحي مع رفاقي. لكن العملية التي نفذت في أول آذار انقلبت مأساة. إذ لم تبال عمان بالأمر فقتل ديبلوماسيان اميركيان وقائم بالاعمال بلجيكي. وفي الرابع منه وافق الملك حسين على الحكم بالاعدام الذي اصدرته قبل ايام عليّ وعلى رفاقي محكمة أمن الدولة الاردنية. وبعكس ما كتبته صحف كثيرة في حينها، ليست ضغوط الدول العربية والاتحاد السوفياتي المتضافرة هي التي اثّرت على قرار الملك بعدها كي يؤجل أولاً تنفيذ الاعدام، ثم ليخففه في 14 آذار الى حكم بالسجن مدى الحياة، بل ان ذلك نتج من تدخل رجل كان في هذه الاثناء قد اصبح قائد الامن الاردني هو اللواء محمد عبد الرسول الكيلاني. وقد تحدثت في مناسبة سابقة عن هذا الرجل الذي انقذت حياته من قبل. ومع أنه كان يجهل ذلك، فقد توصل الى اقناع الملك في 5 آذار، اي بعد تعيينه بقليل قائداً للمخابرات، بانه ليس من باب الحكمة السياسية، ازاء سكان الضفة الغربية من الاردن، اعدام 17 شخصاً هم جميعاً متحدرون منها. وأنا انوي ان اروي يوماً ما، كيف أن الكيلاني، وبمساعدة والديّ اللذين هرعا الى عمان ساعيين بشكل يائس الى دعم للحصول على عفو عني، كيف أنه وضع خطة تسمح للملك بأن يبدي تسامحاً تجاهي وتجاه المتهمين الستة عشر الآخرين، من دون أن تبدو المملكة خاضعة للضغوط. كما سأفصّل ايضاً في اي ظروف اطلق سراحنا جميعاً قبل ثلاثة اسابيع من حرب تشرين عام 1973، اضافة الى اجتماعي الطويل، عشية اطلاقنا، مع الملك حسين الذي حضر بنفسه يبشرني بذلك. غير أني لن انتظر ذلك الوقت كي اقول هنا انه خلال فترة اعتقالي في الاردن سيرتبط اسمي علناً، وللمرة الاولى، بأحداث السنة الماضية في ميونيخ. بدأ الأمر مع ما اعتبر "اعترافات" ادليت بها خلال عملية "اعتراف" على ما يبدو قمت بها في 15 شباط بعد توقيفي بايام، اضافة الى ذكر نشاطات اخرى لمنظمة "ايلول الاسود". هذا على الأقل ما ادعاه راديو عمان الذي بثها في 24 آذار التالي. الا اننا نرى ان هذه المهلة ما بين اربعة وخمسة اسابيع، كانت ضرورية قبل اعلانها، إذ اقتضى الامر عملية تركيب نفذت انطلاقاً من مقتطفات من التصريحات التي انتزعت مني وسجلها معتقليّ عن لساني في بداية احتجازي، وقد طعّم كل ذلك بتعليقات صاغها بعد فترة الكيلاني نفسه أو صيغت بحسب تعليماته. وطوال فترة احتجازي في الاردن، لم اكن على علم بشيء، ويمكن تصور مفاجأتي في النتيجة عندما علمت بالقضية لدى خروجي بعد ستة أشهر. اضافة الى انه كتب الكثير عن الموضوع في غضون ذلك وهذا ما أدى الى تضخيم سلسلة من الشائعات التي ذكرت ان بعض رفاقي لا يفكرون الا بتصفيتي، وسأعود الى الحديث عن ذلك. فما الذي كان يمكن ان "اكشفه" وقتها؟ أن منظمة "أيلول الاسود" ليست تنظيماً قائماً بذاته، بل هو "اسم مستعار" يطلقه على انفسهم مجموعة من الفدائيين في فتح. ففي الواقع ليس في الامر جديد، فالصحف العربية نشرت منذ زمن طويل ملاحظات من هذا النوع. والاخطر هو ما نسب اليّ من احاديث حول بعض القادة العملانيين في منظمة "أيلول الاسود" أو الذين يزعمون ذلك. فقد ذكرت على ما قيل اسماء أبو يوسف النجار وأبو أياد وعلي حسن سلامة، ناسباً الى كل منهم بدوره، عدداً من العمليات. هكذا حمّلت أبو يوسف "تدبير" اغتيال وصفي التل في تشرين الثاني نوفمبر 1971 في القاهرة، وهذا ما كان يعرفه الجميع في لبنان. وورطت أبو أياد في احتجاز الرهائن في ميونيخ واغتيال باروخ كوهين في مدريد، ومحاولتنا الاخيرة في عمان التي كان عرفات مشاركاً فيها، بحسب ما يفترض اني قلته. لكن اللذين خاناني في عمان، وهما اردني عرّفني به أبو اياد وأحد الضباط الاربعة الذين ارسلهم اليّ عرفات ليعاونوني، كانا قد "اعترفا" بكل شيء للمخابرات. اما علي حسن سلامه، من جهته، فقد بدا مسؤولاً، بحسب اقوالي، عن تخريب منشآت النفط في تريستي في آب 1972، وعن اغتيال خمسة أردنيين في المانيا قبل اشهر من ذلك، يشتبه في انهم كانوا عملاء لاسرائيل، وهذا ايضاً لم يكن سرّاً، وكان أبو الحسن يتباهى بذلك في كل بيروت. فهو لم يكن يتكلم كثيراً عن عملية اختطاف طائرة "سابينا" الفاشلة في شهر أيار في مطار اللّد. وعلى كل حال، وبحسب ما ورد في راديو عمان، أنا لم انسب اليه هذه العملية، بل اتهمت... عاطف بسيسو! وعلى ذكر ذلك، فقد اتهم الأخير بالمشاركة ايضاً في عملية اختطاف الرهائن في السفارة الاسرائيلية في بانكوك خلال شهر كانون الاول. وهذا محال طبعاً، فطالما هو من اتباع أبو إياد المباشرين، فلا يمكنه ان يكون قريباً من أبو جهاد. اضف الى ذلك انه في تلك الفترة كان دائماً الى جانبي في تنقلي باستمرار بين بيروت وبغداد، كي يساعدني في التحضير لعمليتنا الفاشلة في عمان. فلنقل فوراً انه في كثير من الحالات لم تكن تلك الا اسراراً شائعة يعلمها الجميع. اما في ما تبقى، فقد اختلقت الاخبار قدر الامكان بغية التضليل. أو أنهم، وللغرابة، كانوا يختلقونها باسمي، والأمر سيان. وهذا بالضبط ما حدث بالنسبة الى عملية ميونيخ. واليكم ما يقال اني ادليت به في هذا الخصوص من راديو عمان، وقد اذيع في الحقيقة بصوت مذيع يقرأ "اعترافات أبو داود" المزعومة: "لقد خطط أبو اياد من صوفيا لعملية ميونيخ. وقد كنت أنا نفسي في صوفيا في تلك الفترة لشراء اسلحة للتنظيمات الفلسطينية عندما وصل أبو اياد الى العاصمة البلغارية مقبلاً من سويسرا بصحبة فخري العمري. وقد طلب اليّ أبو أياد ان اسلّم جوازي الخاص الى العمري". بمعنى آخر، انني اعلمت بما يحاك بمناسبة الالعاب الاولمبية ولكن في الظاهر ان جوازي العراقي باسم سعد الدين الولي هو الذي كان في ميونيخ وليس أنا شخصياً! ولكن فلنسمع تتمة ما نقل عن لساني: "ان محمد مصالحة هو الذي موّل ضربة ميونيخ وسلم الاسلحة اللازمة لمنفذي العملية. ولما كان مصالحة يتقن لغات عدة، ومنها الالمانية وشارك في بناء المدينة الاولمبية، فقد استدعي من طرابلس الغرب لتنفيذ العملية في ميونيخ...". وهنا بالاجمال استعادة لتلك الروايات الحمقاء التي ساهم أبو اياد في نشرها لدى مرورنا بطرابلس، كما نذكر، عندما تحدث في حلقة ضيقة من الصحافيين العرب. وأخيراً، بالنسبة الى كل ما يتعلق بالتحضيرات في ميونيخ نفسها، واستطلاع القرية الاولمبية واحضار الاسلحة من مستودع المحطة، الخ... فالرواية كما وردت في راديو عمان، كانت تشير بالاتجاه نفسه، هو ان فخري العمري ومحمد مصالحة كان يحلان محلي مداورة! باختصار، برّئت ساحتي وبت نظيفاً من أي مشاركة مباشرة في العملية. واي تناقض هو هذا مع الحالة التي عشتها في الايام التي تلت اعتقالي في الاردن! إذ ان معذبيّ استغلوا وقتها وجودي بين ايديهم، ولم يوفروا وسيلة وهم يحاولون انتزاع اعتراف مني بتورطي في العملية التي جرت في الالعاب الاولمبية. اذكر ان أحد الضباط كان يصرخ فيّ قائلاً: كنت في ميونيخ، اعترف بذلك! فأصرخ بدوري: هذا ليس شأنكم بل شأن الاسرائيليين، فهم المعنيون بهذه المسألة وليس أنتم! وعبثاً كنت اردد هذه الكلمات دون تعب، كان جهداً فارغاً. وسأوفر على القارئ معرفة ما فعله بي السجّانون حينها، فيما كنت معلقاً بالسقف ورأسي الى اسفل. فهل كانوا يذكرون ما هو زائف كي يعرفوا الحقيقي؟ ام انهم كانوا فعلاً مطلعين على دوري في ميونيخ؟ كل ما اعرفه هو انني ظللت متمسكاً قدر امكاني بانهم لم يأتوا ابداً على ذكر اسم سعد الدين الولي، الهوية التي حملتها خلال اقامتي في المدينة البافارية، فهذا ما كان يشكل بالنسبة اليّ مؤشراً صريحاً الى انهم يعلمون حقاً بعض الأمور. شكرت السماء اخيراً، حين بدا لي في النهاية، من خلال اسئلتهم الأخرى، انهم لا يعرفون اكثر مما رويناه في طرابلس خلال شهر أيلول. ومن المحتمل ان يكونوا عرفوا بهذه الرواية، بما فيها من خطأ وصواب، بعد نجاحهم في استنطاق أحد رفاقنا الموقوفين في عمان والذين يتعرضون للتعذيب مثلي. أو بكل بساطة، ان يكونوا اخذوها عن وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية التي كان لها في ذلك الوقت عملاء في مواقع حساسة داخل النظام الليبي. وبالنسبة اليّ، كنت اعتبرها نعمة حين يبدو عليهم انهم يصدقون شيئاً من تلك الرواية فأقول لهم: - بما انكم تعلمون كل شيء، فهل عليّ التظاهر بالاعتراف، لماذا تستمرون في طرح كل هذه الاسئلة عليّ؟ توقف تعذيبي بعد 5 آذار عندما تسلم اللواء الكيلاني القيادة. كما توقفت الاسئلة حول تورطي او لا في عملية منظمة "أيلول الاسود" في ميونيخ. وهذا لا يعني ان محمد عبدالرسول الكيلاني ما كان مهتماً بهذا الموضوع، ولكن يمكن القول انه اراد ابقائي بعيداً عن هذه القصة، ولست مخطئاً في ذلك إذ انه بنى حول الموضوع "رواية" حقيقية في ما بعد. بدأ كل شيء، بحسب ما اذكر، من حديث اجريناه معاً بعد العفو عني بقليل. واذ كنت اعتبر قريباً من الصينيين، فقد استغرب اللواء في الواقع تدخّل السوفيات لمصلحتي لدى الملك حسين. وهكذا سألني: هل تعرف ان بودغورني هذا كتب الى الملك؟ فأجبته: لا، لا، لم اذهب ابداً الى روسيا. وفي اوروبا الشرقية لا اعرف سوى بلغاريا. - آه، ومتى ذهبت اليها؟ - في الصيف الماضي. حين قلت ذلك، ما كان ليخطر في بالي ابداً ان ما ذكرته في تلك اللحظة قد "التمع" في رأسه. وإذا به بعد يومين او ثلاثة، يعود في الواقع الى المسألة نفسها: - قل لي يا أبو داود، عندما قمت بزيارة الصين وكوريا الشمالية في الربيع الماضي، استفاضت الصحف في الحديث عن لقاءاتك وشوإن لاي وكيم ايل سونغ. لكنها لم تذكر كلمة حول زيارتك بلغاريا! فاجبته: من الطبيعي، فهي لم تكن رحلة رسمية. - هل كنت في عطلة؟ فقهقهت مجيباً: في الحقيقة لا! كنت افاوض هناك لشراء اسلحة، ولكنني اضطررت الى البقاء هناك طوال الصيف إذ استغرق التوصل الى اتفاق وقتاً طويلاً. - حقاً؟ ولماذا اذن؟ فاجبته: لقد طلب المفاوضون ان يحضر التوقيع عضو من مكتبنا السياسي كي يتخذ الاتفاق طابعاً رسمياً. فكان على أبو إياد الالتحاق بي بصحبة مساعده فخري العمري. وفيما كنت اجيب بطيبة خاطر عن الاسئلة، غير مستاء في الحقيقة من الكشف لصاحب هذا المركز المرموق في النظام الهاشمي ان كل المعسكر الاشتراكي بات مستعداً لمساعدة المقاومة الفلسطينية، لفتني انه يدون ملاحظات. وتساءلت عن السبب، إذ انني لم اقدم اليه اي معلومات، ولم يكن في نيتي ان افعل، لا حول نوع الاسلحة التي تقدمنا بطلب بها الى البلغار، ولا حول كميتها. وقد ضحكت في سرّي وأنا اتخيّل لو يعرف انها لم تكن في النهاية سوى بعض المسدسات الخاصة المجهزة بكواتم" لكان اعتبر ان محادثاتنا في صوفيا كانت سخيفة جداً. ولم تنته سلسلة مفاجآتي، إذ سألني فجأة: تحت اي اسم سافرت الى بلغاريا؟ فاجأني السؤال، فما الذي يهمه في الأمر؟ لكني في الوقت نفسه خطر لي ان انتهزها فرصة كي اقدم حجة بالنسبة الى ميونيخ. فبما انني امضيت قسماً كبيراً من الصيف في صوفيا وبجواز سفر عراقي باسم سعد الدين الولي، فلا يمكن ان اكون سعد الدين الولي الآخر، الموجود في ميونيخ اثناء الالعاب الاولمبية والذي يشتبه الالمان في انه ساعد مجموعة فدائيينا، اذا ما صدقنا ما قرأته في احدى الصحف اللبنانية في اواخر ايلول. فاعترفت اذن: باسم مواطن عراقي، سعد الدين الولي. لم يحرك الكيلاني ساكناً واكتفى بتدوين ذلك. وفي ما بعد، عندما استعدت تلك الواقعة في ذهني بعدما اطلعت على ما اذاعه راديو عمان، ادركت ان اللواء قد تحايل عليّ. فمن هذا الحديث الذي لم يتناول سوى موضوع شرائنا الاسلحة من بلغاريا. ألّف في الواقع تلك القصة الغريبة المركّبة من اجزاء مختلفة والتي تروي انني بناء على طلب ابو اياد الذي حضر الى صوفيا سلّمت مساعده جوازي العراقي "وعليه تأشيرة دخول الى المانيا"، فاستخدمه للوصول الى ميونيخ. وكل ذلك يبرهن ايضا امراً آخر، هو ان الكيلاني كان يعرف، او على الاقل كان مقتنعاً، بانني كنت موجوداً شخصياً في المدينة البافارية خلال الاولمبياد، والا ما حاجته الى اختراع حادثة الجواز الذي سافر بدوني؟ فقائد المخابرات الاردنية الجديد عرف كيف يخفي لعبته وهو يستجوبني بطريقة بريئة حول العلاقات التي كنا نقيمها مع المعسكر الشرقي. ولكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن فوراً هو: لماذا تعمّد تحجيم دوري في قضية ميونيخ؟ لا اعتقد انه أراد بذلك، كما قرأت ان يتجنب تسليمي الى العدالة الالمانية او الى الاسرائيليين اذا ما تقدموا بطلب استردادي. فانا، شاء الكيلاني ام ابى، مواطن اردني، وقوانين الاردن الخاصة لا تسمح بتسليم رعاياها. وفي المقابل اعتقد ان التسامح الذي حظيت به اواسط آذار لم يكن يحظى بالاجماع في بعض اوساط النظام الرفيعة. فقد كان كثيرون يرغبون في رؤيتي معلقا على حبل، يشجعهم على ذلك الاميركيون ذوو النفوذ القوي في المملكة والذين لم ينسوا ان اثنين من ديبلوماسييهم قتلا باسمي قبل ايام في الخرطوم على يد جماعتنا. وربما كان محمد عبد الرسول الكيلاني عرضة لمختلف الانتقادات بعد الدور البارز الذي اداه لاقناع الملك بالعفو جماعياً عني وعن المتهمين الستة عشر معي. فهل اراد بذلك ان ينزع الفتيل من يدهم باعطائه صورة عني اقل "فساداً"؟ انا لا استبعد ذلك! يبقى، وفق ما اذاعه راديو عمان، ان اسطورة قد نشأت حول علاقتي بعملية ميونيخ ومفادها اني بريء منها. وهذا ما يفسّر ربما انه لم تصدر بحقي، بعد اطلاق سراحي في 18 ايلول عام 1973، اي مذكرة توقيف دولية، ان من جانب الالمان او من جانب الاسرائيليين. واعتقد ان هناك عوامل اخرى اثّرت في الموضوع. فالالمان ما كانوا يتمسكون باعادة فتح ملف ربما قاد الى التحقيق في العمق بالظروف التي اطلقوا فيها هم انفسهم، في اواخر تشرين الاول 1972، الناجين الثلاثة من فدائيينا في الالعاب الاولمبية. الاسرائيليون، من جهتهم، تحت تأثير خطأين رهيبين. اشرت سابقا كيف انهم، تحت ستار "الانتقام لميونيخ"، اندفعوا في الواقع يغتالون بشراسة جميع من استطاعوا الوصول اليه من جماعتنا، ممن يفترضونهم مسؤولين في منظمة "ايلول الاسود" او لا. وخلال فترة سجني، كان عدد ضحاياهم يتزايد. ففي ليلة من نيسان ابريل قامت وحدة خاصة من الجيش الاسرائيلي بانزال في بيروت مستهدفة احد مباني شارع فردان حيث يقيم بعض قادة المقاومة الكبار، وحيث كان ينام عرفات وابو اياد احيانا، ولكن ايا منهما لم يكن هناك تلك الليلة. الا ان المهاجمين اخذوا وقتهم كي يغتالوا يوسف النجار ابو يوسف قائد اجهزة الامن في منظمة التحرير، وكمال عدوان المسؤول عن العمليات داخل اسرائيل وفي الاراضي المحتلة، وكمال ناصر الناطق الرسمي باسم المنظمة. وقبل ايام كان مجهولان اغتالا وسط الشارع في باريس احد اوائل رفاق جورج حبش، باسل القبيسي، وهو استاذ في الجامعة الاميركية في بيروت ويحمل الجنسية العراقية. واخيراً في حزيران يونيو، ودائما في العاصمة الفرنسية، جاء دور محمد بوضيا، وهو مثقف جزائري ناشط في النضال من اجل قضيتنا في اوروبا، فلقي مصرعه اثر انفجار سيارته المفخخة. الا ان مجموعات التصفية في "الموساد" التي تملّكها هاجس القضاء على علي حسن سلامة، وتشبثت باعتباره العقل المدبّر لعملية ميونيخ، على رغم اعترافاتي في راديو عمان، على ذمة مصادر قريبة من اجهزة المخابرات الاسرائيلية، ارتكبت خطأ غريبا في 21 تموز يوليو، اذ استهدفت في النروج، في محطة تزلج ليلهامر نادلا مغربيا ظنا منها انه ابو الحسن. واسوأ ما منيت به "الموساد" هو ان الشرطة النروجية اسرت ستة من المشاركين في المغامرة الدموية، كان اثنان منهم قد التجأا الى منزل ديبلوماسي اسرائيلي في اوسلو، فبات لا مفر هذه المرة من محاكمة علنية مثيرة. ولم يكد الاسرائيليون يصحون من وقع تلك الغلطة الفادحة، حتى اقترفوا عملاً أخرق آخر، اذ فشلوا بعد اقل من شهر في اختطاف جورج حبش قائد الجبهة الشعبية. ففي العاشر من آب كان الاخير في مطار بيروت ينتظر ان يستقل الطائرة في رحلة منتظمة الى بغداد، فأحسّ بوجع في قلبه المريض، وخوفاً من ان يصاب بذبحة قلبية فضّل تأجيل سفره، فاقلعت الطائرة بدونه، واعترضتها بعد دقائق مقاتلات اسرائيلية واكبتها الى مطار عسكري في شمال اسرائيل وأجبرتها على الهبوط، واقتحمها جنود اسرائيليون معتقدين انهم سيجدون على متنها الغنيمة الثمينة التي يطلبونها، لكنهم اكتشفوا ان قائد الجبهة الشعبية ليس في عداد الركاب. طبعا، اقلعت الطائرة في وجهتها الاولى، لكن الانتقادات انهالت من كل مكان في العالم على الاسرائيليين، حتى من الولاياتالمتحدة، بسبب عمل القرصنة المميز هذا الذي شكل فشلاً جديدا على الصعيد المخابراتي بالنسبة الى جهاز "الموساد" الذي سيواجه في الاشهر المقبلة، وفي اسرائيل نفسها، مشاكل اخرى لأنه لم يستطع استشراف حرب تشرين اكتوبر عام 1973. يبقى ان جميع هذه الاخطاء المتراكمة من جانب اجهزة المخابرات الاسرائيلية ستوقف لفترة حملة المطاردة ضدنا جميعا. ولنبدد ايضاً ذلك الانطباع المؤلم الذي نتج، غداة اطلاق سراحي، عن بعض الشائعات القائلة أن قادتي ارادوا محاكمتي وحتى معاقبتي لأنني تكلمت كثيرا اثناء احتجازي في الاردن. فلو كان هذا صحيحا لما عدت فور اطلاقي الى الخدمة في "فتح". ولما كانوا اوكلوا اليّ عشية حرب اكتوبر قيادة فرقة في جنوب البقاع في مواجهة القوات الاسرائيلية. ولما اوفدني ياسر عرفات وابو جهاد، بعد يومين من بدء المعارك، في مهمة لدى الحكومة الاردنية وهذا ما كلفني مواجهة محمد عبدالرسول الكيلاني مجدداً. لم تكن قيادة فتح في الواقع، تعير اي اهتمام لما رويته او لما نسب اليّ في راديو عمان خلال شهر آذار، اذ لم يرد فيه ما هو اهم، او ما هو اكثر ضرراً كما تهيّأ للبعض. ولكان الامر مختلفاً لو ذكرت مثلاً في قضية ميونيخ رحلة ابو اياد العاجلة الى المانيا ناقلاً الاسلحة اللازمة للمجموعة، او لو ذكر دور ابو مازن كمموّل لعمليتنا. الا ان قضية مثيرة حصلت قبل اسبوعين من اطلاقي، ويمكن ان تكون اعطت الشائعات المذكورة آنفا اساسا مغلوطا. ففي 5 ايلول سبتمبر، اي في الذكرى السنوية لعمليتنا في الالعاب الاولمبية، اقتحم خمسة مسلحين من رجالنا مبنى السفارة السعودية في باريس واحتجزوا 15 شخصا رهائن مطالبين، لأنهاء العملية، باطلاق سراحي في عمان. طبعا رفض الاردنيون ذلك، ولكن بعدما حصلوا من السلطات الفرنسية على طائرة واحتفظوا بأربعة رهائن، كلهم سعوديون، توجه هؤلاء الى الشرق الاوسط حيث واصلوا مغامرتهم متنقلين من بلد الى بلد ومصرّين على المطالبة باطلاقي ومهددين برمي رهائنهم في الاجواء ان لم يستجب طلبهم. ونظراً الى الاسم الذي اتخذته هذه المجموعة، "تنظيم العقاب" تسرع بعض الصحافيين قليلاً في الاستنتاج انهم كانوا يلحون في المطالبة بي كي يلقوا القبض عليّ ويعاقبوني "لأنني خنت الجميع" في "اعترافاتي" المزعومة قبل اشهر على راديو عمان. ولم يكن هذا كل شيء، اذ ان قيادة فتح بدورها روجت الشائعة حول رغبة هؤلاء الناس في قتلي. فما تجب معرفته فوراً هو ان قادتنا استاؤوا لخبر الهجوم على الممثلية السعودية في باريس، وبنوع خاص ابو مازن. ويمكن ان نتفهم ذلك اذ ان السعودية هي ممولتنا الاساسية، وانه هو نفسه المسؤول المالي في الحركة. وقد اوضح لي لاحقا، كيف انه بعد حادثة الخرطوم المأسوية واجه صعوبة كبيرة في ابقاء المضخة المالية السعودية مفتوحة. وانه كان يخشى، بعد هذه العملية الجديدة الموجهة الى سفارة سعودية التي ادت، زيادة في التأريخ، الى خطف ديبلوماسيين سعوديين، ان يقطع الملك فيصل هذه المرة الموارد عن تنظيمنا. ولكن في الوقت نفسه، كان كثيرون من شعبنا يهللون لهذه العملية الهادفة الى تخليصي من سجني، وبالعكس كانوا يطلقون صرخات الاستهجان ضد عرفات الذي سارع الى استنكارها من الجزائر حيث دعي الى حضور قمة لدول عدم الانحياز. ولقلب الاوضاع راح ابو مازن ينشر بدوره تلك "الشائعات" القائلة بأن مختطفي الرهائن لا يفكرون في الحقيقة الا في القضاء عليّ بعد النجاح في تحريري. اما انا، داخل سجني، فلم اكن اعلم بكل هذه التطورات، كما اني لم اعرف شيئا عما بثه راديو عمان قبل ستة اشهر تقريباً. وقد اخبرني سجّاني نفسه، محمد عبد الرسول الكيلاني، بالمرحلة النهائية فقط من عملية اختطاف الديبلوماسيين السعوديين هذه، اي عندما استسلمت المجموعة دون شروط في مطار مدينة الكويت، بعد يومين من سفرها من باريس. وقد كشف لي في المناسبة ان مدبر العملية لم يكن سوى ابو نضال، ممثلنا في العراق. وقد علمت لاحقاً ان زوجتي واولادي كانوا ينزلون عنده في بغداد، وهذا ما يؤكد انه كان في نية مختطفي الرهائن ان يعيدوني الى عائلتي وليس الاجهاز علي. ومع ذلك، علمت لدى خروجي من السجن ان في المبادرة التي اتخذها ابو نضال بعض الحسابات. فهو لم يكن يستبعد ان يستعين بي اذا نجح في اخراجي. فمنذ بداية الصيف كان يتوجس خيفة من رؤية قادتنا يتقربون من السعودية. ويذكر اننا الاثنان طردنا من المملكة سابقا بفارق سنوات ... كما ان هناك سببا آخر لخلافه مع القيادة، هو انه كان يرفض ان يحول الى قواتنا في لبنان الاسلحة والذخائر التي حصلنا عليها من الصين خلال كل تلك السنوات الماضية، والتي كانت مخزنة في العراق. باختصار، لم يكن بعيدا عن الانشقاق، وربما كان يراهن على انضمامي اليه ومساعدتي اياه في اقناع الراديكاليين في تنظيمنا بوجهة نظره. غير انه حساب خاطئ. فأولاً، لم يطلق سراحي في النهاية نتيجة تدخله، اضف انني ما كنت لأتبعه في انشقاقه، حتى ولو كنت احياناً انتقد بعض خيارات قيادتنا. وليس هذا جديداً بالنسبة اليّ، فقد كنت دائما ضد اي نوع من الانقسامات، كما كنت ولا ازال ضد كل ما يؤدي الى تقسيم الاراضي الفلسطينية. قادتني هذه الافكار نفسها، سنوات طويلة، وهذا سيكون موضوع كتاب آخر، الى معارضة التحول الاستراتيجي الذي قامت به قيادتنا ابتداء من العام 1974 باتجاه اقامة "فلسطين عربية مصغرة" في جوار اسرائيل، وكنا قد رفضنا هذه الفكرة في كانون الاول ديسمبر عام 1970. ومع ذلك فانا لن انفصل عن فتح. * من كتاب "فلسطين: من القدس الى ميونيخ" * * الحلقة التاسعة الاثنين المقبل.