- 1 - إذا كان لا بدّ من تبيّن ملامح "بيت عربي" لبورخيس، فعلينا البحث عنه داخل متاهة. ولتكن هذه المتاهة في أو تحت أزقة مدينة القيروان مثلاً. فهي ككلّ المدن لها ظاهرٌ وباطن. نهاراً وليل. على رغم أنها لا تمتد وتتشعب أسوةً بالعواصم - المتاهات، على غرار بوينس ايرس مثلاً. وإمعاناً في البحث والتنقيب علينا البدء بقلب المدينة حيث الكثرة والدّهماء، والمجانين أيضاً. ولا شك أن في ذلك البيت مرايا: الكثير من المرايا... في البيت كتاب واحد. يبدأ ولا ينتهي. لأنه كتاب داخل كتاب. لأنه ألِفٌ يحتوي كل شيء، كل مواضيع الكون "أي كل المصابيح وكل منابع النور" كتاب الألف وليكن على سبيل التقدير دائماً نسخة فريدة من الف ليلة وليلة وضعها مؤلف قيرواني مجهول. سوف نلفّ وندور ونمرّ بالكثير من المتاهات والبراهين والاسماء لنتوصّل إلى ان ذلك المؤلف المجهول ليس سوى خورخي لويس بورخيس نفسه! أو لنقل: هو واحد من "البراخسة" المتبقين بعد موت بورخيس. ألم يقابل بعضهم في "الألف" و"المرايا" و"المتاهات"؟ لقد تحدّث بورخيس عن "بورخيس الآخر" الذي كثيراً ما جالسه وناقشه "سيكون من المبالغ فيه الادعاء بأن علاقتنا عدائية: فأنا أحيا، وأترك نفسي تحيا كي يستطيع بورخيس حبْك أدبه... منذ سنوات حاولت تخليص نفسي منه، فتحولت عن أساطير الأرباض إلى التسلي بالزمن واللا متناهي. غير ان هذه التسالي غدت في ملك بورخيس الآن ... لست ادري اي الاثنين يكتب هذه الصفحة" بورخيس وأنا. هناك بورخيس الذي ارتحل. وهناك بورخيس الذي كثيراً ما يطل عبر القرون. فهل ارتحل الآن - الشخص. وبقي بورخيس؟ لكن كيف يبقى بورخيس القائل بأن العالم لسوء الحظ واقعي. وأنا لسوء الحظ بورخيس"؟ قد يكون ذلك على طريقة الحكيم الصيني الذي لم نتأكد حتى الآن أكان يحلم بفراشةٍ أم ان فراشةً كانت تحلم به. قال بورخيس وهو يقدم أعمال إدغار ألان بو بأن العُصاب وإدمان الكحول والفقر والعزلة. خلقت عالماً خيالياً هرب إليه إدغار بو من عالم واقعي. فإذا بالعالم الذي حلم به أعماله الآن قد بقي خالداً. أما العالم الآخر حياته فكان اشبه بالحلم". لقد مات بورخيس أيضاً. وظل هذا الذي ما زلنا نقرأه اليوم، بورخيس الذي ما زال يشاكسنا حتى اليوم. - 2 - اية متاهات يتخبط فيها كاتبٌ خارجٌ عن قارة دامية إلى أخرى ملتهبة حتى نبحث له فيها عن بيت؟ أيكون مكر التاريخ هو الذي قدّم لنا هذا الكاتب منتصراً؟ أهو السكين المتحرك في قصص بورخيس قصة "الجنوب" مثلاً من أجل اتمام مهمته على الرغم من غبار القرون. فإذا بالناس لا ينوون القتل، غير أن السكاكين تتحرك لغاية تريدها؟ بورخيس المستقطر من ثقافات العالم... ومن الثقافة العربية الاسلامية بوجه خاص، لن يتمكن من العودة إليها. أو لنقل إنها لن تستقبله بسهولة... لأسباب كثيرة. منها ما هو عام ولا يخص بورخيس وحده. فقد كان استقبال ماركيز صعباً في البداية خصوصاً من لجان القراءة ودور النشر. غير ان بورخيس تلقى النقد من مؤسسة أعتى هي المؤسسة الايديولوجية. فعلى رغم من أن بورخيس من اكثر كتّاب اميركا اللاتينية اطلاعاً على التراث العربي الاسلامي ونهلاً منه، فإن ذلك لم يكن كافياً لاستقباله في مرحلة أولى كانت تعج بالأوهام المنتصرة ايديولوجياً. ومن المعروف ان بورخيس ظل يتهمه نقاد بلاده، قبل نقادنا، بأنه يكتب إلى نخبة محدودة. وهو لم ينف ذلك بل اعترف بأنه لم يكتب غالباً إلا لبضعة أصدقاء، مبشراً بنوع من "الفوضوية الارستقراطية". وقد وضعه ذلك في موقف مهادن لأعتى الدكتاتوريات في أميركا اللاتينية على رغم ذهابه إلى ضرورة زوال الدولة. أبطال بورخيس يصيبهم نوع من الغثيان عندما يؤمّون الامكنة المزدحمة بالناس، والمدن التي تتشابك شوارعها مثل "المتاهة" لذلك يضيع أبطاله دائما في متاهات هي إحدى الموضوعات الاساسية في كتابات بورخيس. وتتخذ المتاهة اشكالاً متنوعة رمزية أو ملموسة المدينة، الشطرنج، جلد النمر، النص المكتوب أو المخطوط، الصحراء الخ... وتبدو لنا المتاهة كشكل فني في قصص بورخيس متأتية من الشكل الذي كتبت به حكايات الف ليلة وليلة حيث كل حكاية تصب في حكاية اخرى، وحيث يعيد بورخيس كتابه الحلم المؤدي إلى الكنز في حلم شخص آخر. غير ان بورخيس يغني هذا الشكل الفني بموقف مثالي ازاء الواقع. لا تفصح موضوعة المتاهة عن نفسها مباشرة، دائماً، كما في حكاية "المحارب والأسيرة" و"بحت ابن رشد" في كتاب الالف لان التيه والضلال هنا يأخذان طابعاً ذهنياً. لكنهما يتجسدان أحياناً في متاهات ملموسة وواقعية كما في حكاية "الملكان والمتاهتان" حيث يتيه البطل جسداً لا روحاً. يخوض بورخيس غمار التجربة الصوفية الاسلامية. ويستخدم رموزها كما في قصة "الالف" ليعبر عن الاستغراق وكلية الوجود "ان حرف الالف هو احدى نقاط المكان التي تتضمن كل الامكنة" واذا كانت كل مواضيع الكون موجودة في الالف، فإن ذلك يعني ان الالف يتضمن ايضاً "كل المصابيح وكل منابع النور" هذه المفاهيم الصوفية تمكن بورخيس من تحريك ابطاله على رقعة هي في آن : مكان قد يكون الهند والارجنتين معاً، وزمان واحد : قد يكون العصر العباسي والقرن الذي يعيش فيه بورخيس. عندئذ يختلط الواقع بالحلم "وحسب المذهب المثالي فإن الفعلين "عاش" و"حلم" مترادفان حكاية "الظاهر" فأيهما الحلم وأيهما الواقع : الارض ام الظاهر؟ ويضيف في آخر حكاية الظاهر "حاولتُ ان اتذكر ذلك المقطع من "الاسرار نامة" الذي يؤكد بأن الظاهر هو ظل الوردة وكشف الحجاب. ثم اقمت الصلة بين ذلك الحكم وهذه الملاحظة : كان الصوفية من اجل الغناء في الله، يرددون اسماءهم او اسماء الله التسعة والتسعين، حتى ينعدم معنى تلك الاسماء بالتكرار". تضعنا قصص بورخيس امام ثنائيات مثل الموت والخلود، الهمجية والحضارة، الكل والجزء... وهي تناظرات تعكس هوس الكاتب بالمتناهي واللامتناهي. والعودة الابدية كحل للافلات من وجود قيود تحدد وجود الذات مثل الزمن المتعاقب والمكان المتصل - وهي الدليل على حدود الكائن وفنائه. لذلك يلج بنا دهاليز ومتاهات ومرايا عاكسة متعددة وقاعات متشابهة تسجن الكاتب وأبطاله - وُجوهَهُ - في متاهة شاقة يشببها بورخيس بالكون : المرآتان المتناظرتان تعكسان صورة الشخص إلى ما لا نهاية. وخارج المرآة ايضاً، يوجد خطر التعدد والكثرة اللامتناهية . يقول بورخيس مستنكراً : "المرايا والجماع أمران فظيعان لانهما يضاعفان عدد الناس". هذا التعدد للواحد الذي يصير كثرة لامتناهية وخطراً محدقاً، تراه إحدى الشخصيات في إحدى القصص كما يلي :"ذات يوم او ذات ليلة - ما الفرق بين أيامي ولياليَّ؟ - حلمت بأن على ارض زنزانتي حبة رمل . عدت الى النوم لامبالياً. حلمت انني استيقظ وان هناك حبّتي رمل اثنتين. عدت الى النوم. حلمت ان حُبيْبات الرمل كانت ثلاثاً، ثم تضاعفت هكذا، حتى ملأت الزنزانة، فمتُ مختنقاً بالرمل اللامتناهي" هكذا، عند بورخيس، يوجد الانسان أينما كان، في قلب انعكاسات متعددة يتعذر تمييزها والخلاص منها. ومهما حاول الانسان فإن المنفذ يظل بعيد المنال: "ادركت اني كنت أحلم، فاستيقظت بعد بذل جهد مضنٍ. لكن يقظتي كانت بلا طائل: كان الرمل يختفي. وقال لي احدهم: "انت لم تستيقظ من نوم البارحة، بل من حلم سابق. وهذا الحلم يوجد داخل حلم آخر، وهكذا دواليك إلى اللاّنهاية التي هي في عدد حبوب الرمل. والطريق التي يتوجب عليك ان تسلكها القهقرى هي طريق لا تنتهي: سوف تموت قبل أن تستيقظ فعلاً". في قصة "بحث ابن رشد" يضيع الاخير في متاهة البحث عن كلمتين أو مصطلحين اوردهما أرسطو في كتاب "فن الشعر" كان ابن رشد في صدر تأليف كتابه "تهافت التهافت" ردّاً على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة". وعبثاً عاد ابن رشد الى كتب الاسكندر الافروديسي وترجبات النسطوري حنين ابن اسحق وابي بشر بن متى: فالكلمتان تنتشران و"تفرّخان" في كتاب "فن الشعر" ومن المستحيل استجلاء معنييهما: انهما كلمنا "تراجيديا" و"كوميديا"! بعد يوم من البحث والارهاق يعود ابن رشد إلى بيته طلباً للراحة. يخلع عمامته وينظر في مرآة معدنية فيختفي هو وكل ما حوله ومن حوله. وما ابن رشد إلا بورخيس طبعاً، منظوراً إليه عبر مثالية بركلي وهيوم وشوبنهاور "وجود كونه مدركاً" لا يوجد العالم إلا اذا فكرت فيه. انا الموجود الوحيد ولا يوجد الآخر إلا عبر إدراكي له. وهكذا ينهي بورخيس قصة "بحث ابن رشد" بهذه الخاتمة المدوخة: "ادركت في الصفحة الأخيرة ان قصتي هي رمز الرجل الذي كنته وانا اكتب القصة، ولكي اكتب هذه القصة توجّب علي ان اصير ذلك الرجل، ولكي اصير ذلك الرجل، توجب علي ان اكتب تلك القصة، وهكذا إلى ما لا نهاية "لقد اختفى ابن رشد في اللحظة التي انقطعت فيها عن الايمان به". - 3 - كيف يتم استقبال بورخيس في منطقة عربية ظلت تحترق بحثاً عن خلاص؟ أكان لا بد من سقوط ايديولوجيات - كانت تحمينا من بورخيس - كي ينتصر بورخيس في النهاية ويسكن في ازمتنا؟ ايعود ذلك إلى ان بورخيس هو الواقعي، في حين ان الواقع هو لسوء حظّ واقع؟ وعلى رغم من رفض ترجمات بورخيس المبكرة قدمها صاحب هذه السطور في بيروت اي منذ نهاية الثمانينات، وقد اتت الحرب على مخطوطاتها، فقد ظل بورخيس يتسرب في اقل من كتاب مكتمل: قصة هنا، وقصة هناك... ثم اطلت ترجمات كتبه متتالية في اكثر من عاصمة عربية. وحتى نوضح الصورة اكثر، نقول إن القصة القصيرة ايضاً. لا تحظى بالكثير من الترحيب من اجل الترجمة. لدى دور النشر، مقارنة بالرواية وبمبيعاتها. ولا بد من التوضيح ان بورخيس نفسه لم يتم تقبله في بلدان اميركا اللاتينية في سهولة او حياد تجاه مواقفه السياسية المعلنة إلى جانب الدكتاتوريات. وهو لم يعد إلى بلاده عودته الأدبية القوية إلا عبر المركز الاوروبي، اي الاعتراف العالمي، ليفعل فعله لاحقاً. فالرجل تنكر لمواقفه الاولى مثل تمجيد الثورة الروسية في ثلاث قصائد تخلى عنها لاحقاً، وبعد مواقفه القريبة من الجمهوريين الاسبان ومناهضة النازية، أيد فرانكو، كما ابد غزو كوبا و"استحق" وسام بينوشيه. لكن... كل ذلك لم يكن سوى أوهام... جرت في عالمٍ، لسوء الحظ واقعي، اما بورخيس فكان لحسن الحظ بورخيس: لقد مات الرجل وتغيرت الخارطة وزالت دكتاتوريات وجاءت اخرى... وما زال بورخيس يوهمنا بأنه غير موجود في حين اننا نراه ونقرأه ونصطدم لديه بوجوهنا القديمة...