قد تشكّل الجملتان اللتان استهلّ بهما الشاعر عيسى مخلوف كتابه "عين السراب" * مدخلاً الى العالم الملتبس الذي يزخر به الكتاب. فما يرويه الكاتب أو الراوي في صيغة الأنا أو النحن هو "الحكايات" التي كان يترقب أن يرويها له أحدهم. وتفيد الجملة الثانية من المستهلّ أن ما يرويه ليس إلا جزءاً ممّا لم يرَ ولو رأى لما روى. هكذا كان لا بدّ من أن ينصهر فعل الرواية في فعل الرؤية حتى ليصبح الراوي هو الرائي. وهذان الحرفان الواو والهمزة اللذان يميّزان بينهما قادران حقاً على اختلاق فضاء تأويلي: الكاتب يروي ما لم يره ولو رأى لما روى. لعلّها الكتابة إذاً تجسّد ما لا يتجسّد وتروي ما لم يُروَ بل تروي ما لم يهيّأ لها أن تراه. لا تخفي هاتان الجملتان اللتان تستهلان نصوص الكتاب نزعتهما البورخسية القائمة على جدلية الحضور والغياب، الحقيقي والمتخيّل. والكاتب أصلاً لن يتوانى عن رسم ما يشبه "البورتريه" للكاتب الأرجنتيني الكبير الذي أمضى حياته متلبساً دور الراوي الذي يروي ما يحلم به أو يحلم بما يرويه وخصوصاً عندما نظر في المرآة ذات صباح ولم يجد وجهه فأدرك أن وجهه أصبح واحداً هو والمرآة. غير ان ما يكتبه عيسى مخلوف ليس مجرّد حكايات. فهو أصلاً لا يروي إلا في المعنى الآخر للرواية، في المعنى السلبي إذا أمكن. يكتب عيسى مخلوف نصوصاً "حائرة" يصعب تصنيفها أو إدراجها ضمن مدرسة أو نوع مغلق: نصوص تتأمل وتسرد وتتخيّل من غير أن تتخلّى لحظة عن هاجسها الشعري. على أنها في بعض الأحايين تمسي أقرب الى قصائد النثر التي يخترقها الطابع الحلمي أو الوجداني والعشقي. فهي تعي بدقة وحذاقة غايتها وتدرك التخوم التي ترسمها لنفسها. لا كتابة آلية هنا ولا انجراف لغوياً ولا هذيان بل وعي ومقاربة حدسية وتأمل واستبصار. والكلام - سردياً كان أم شعرياً - لا يقع في عتمة الخواء ولا في عدم اللغة بل هو يشرق من تلك "الوهاد" الخفية ليضئ أسرارها. وظيفة الكتابة هنا أن تدلّ وتنير وتلغي الهاوية. انها سعي الى قول ما لم يُرَ بل الى قول ما يُرى. وإذ تتسم هذه النصوص بما يشبه الالتباس فإنما التباسها ناجم أيضاً عن قدرتها على تكوين ذاكرة خاصة بها انطلاقاً من شتات ذاكرة التاريخ والجغرافيا، ذاكرة العين والقلب، ذاكرة المخيّلة والروح. علاوة على انفتاحها الأدبي - المضمر والمعلن - على أنواع الكتابة ولكن من غير انحياز الى نوع دون آخر. تملك هذه النصوص قدرة لافتة على "التناصص" لا مع نصوص الآخرين أو آثارهم بل مع الأعمال والتجارب والأسماء التي عرفها تاريخ الأدب والفن قديماً وحديثاً. يضحي "التناصص" هنا استدعاء واستيحاء في وقت واحد. والنصّ يجاهر بذاكرته الجمالية أو الجغرافية المتوهّمة ولا يخفيها كي يتحايل عليها. يضحي "التناصص" أقرب الى "التقاطع" الذي تلتقي عبره مخيلة الكاتب مع ذاكرة التاريخ وهي نفسها لا تتوانى عن استدعائها. هكذا يمكن الكلام عن جغرافية شعرية حلمية متوهّمة يصنعها استحضار الكاتب بعض معالم التاريخ الآخر أي التاريخ الحضاري والجمالي الذي صنعته مخيّلة الإنسان وروحه قبل أن تصنعه يداه. إنّه التاريخ الحقيقي الذي يشي بالجذور الألهية لهذا الكائن الغريب والعابر، لهذا المخلوق الذي يحمل في صميمه جذوة الخلق. هكذا يحضر قصر البتراء وقصر الحمراء في الأندلس وقصر تاج محل وقصر اللوفر. وتحضر مغارة لاسكو أيضاً، تلك المغارة التي رسمت يد الإنسان على جدرانها قبل نحو عشرين ألف عام ثوراً مطعوناً وبالقرب منه يتمدد رجل ميت ويقف رجل آخر مغتلماً برأس عصفور. ويصف مخلوف ليل تلك المغارة البدائية الشهيرة ب"ليلنا السحيق" حيثما يكون "الجنس والموت معاً، متحابين متفقين". وتحضر القاهرة التاريخية كذلك "القاهرة التي تتنزّه بين الأزمنة بلمح البصر". وهنا يسترجع الكاتب معالم تلك القاهرة العريقة: أهرام الجيزة، الأديرة القبطية، الصروح الفاطمية والأيوبية والمملوكية. غير ان استدعاء التاريخ الحضاري واستيحاءه لن يثقلا النصوص ذات الهاجس الأدبيّ. ظلال التاريخ ستكون مدعاة للبحث عن آفاق جديدة للكتابة التي لم تتوان عن الدمج بين الواقعي والمتخيّل، بين المجازي والأسطوري. ها هو الكاتب يخاطب الشاعرة الأغريقية الشهيرة سافو، شاعرة الحب الأنثوي قائلاً: "يحمل إليّ هواء هذا المساء صوتك". وفي نصّ آخر يتأمل ذلك "الضوء الذي لا نعرف من أين يجيء في لوحات كارافاجيو ورامبرانت". ويستسلم أيضاً الى موسيقى موزارت وصوت ماريا كالاس وبهاء منحوتة القديسة تريزا للفنان الإيطالي برنيني. وفي نصّ آخر لا يتمالك عن التفكير في المرثاة الأولى لدوينو. وقراء الشاعر الألماني ريلكه يعلمون أن هذه المرثاة تبدأ بجملة شهيرة، شديدة الرهبة: "كلّ ملاك راعب...". ويحضر الكاتب الأرجنتيني الرائد بورخيس وكان عرفه مخلوف شخصياً ووضع عنه كتاباً حضوراً طيفياً بارقاً في النص الذي حمل عنوان "ما وراء البصر". وهو أشبه بالسيرة المقتضبة التي تستعين ببعض الحقائق استعانتها ببعض المتخيّل أو المتوهّم: "لم يولد في الصحراء ولا بالقرب منها، لكنه كان يحلم منذ طفولته الأولى، في أن يجلس فيها يحصي الرمل حبّة حبّة". وهنا عودة واضحة الى رمزية "كتاب الرمل" الذي كتب فيه بورخيس اسطورته الشخصية. ويركز مخلوف على تجربة العماء لدى بورخيس، هذا الذي استفاق ذات يوم ولم يبصر وجهه في المرآة فتذكر "أنه كان يحلم بالشرق المشتق من شروق وذهب". لا يكتب مخلوف نصاً نقدياً عن بورخيس ولا يحلّل أدبه أو شعره بل يجعل منه شخصية هائمة كالطيف، ساحرة وفريدة: "سليل كوكبة من المبدعين العميان الكبار عبر العصور. يستيقظ الأعمى الآخر فيه، من هوميروس وميلتون الى أبي العلاء المعرّي". ويسترجع الكاتب رمزية حرف "الألف" الذي جعله بورخيس عنواناً لكتاب آخر له كأن يقول: "لفرط ما نظر الى حرف الألف توصّل الى رؤية الشمس ثم حاول أن يعبّر عما رأى، فكتب قصيدة لا معنى لها، كمثل جميع القصائد العظيمة، لأن القصيدة التي تغوص في لغز العالم تقرّر ألا تتكلم". وان كان عيسى مخلوف يبرّر انتحال بورخيس بعض النصوص التي كان يتمنّى أن يكون هو كاتبها انطلاقاً من مقولة بورخيس نفسه في أنّ الكتابة هي فعل تذكّر، فهو ينتحل بدوره شخصيات نادرة في التاريخ الصوفي الإسلامي والمسيحي. يتوارى مخلوف خلف أقنعة هذه الشخصيات ساعياً الى التماهي معها والتكلّم عبر لسانها مبتدعاً ما يشبه النصوص الذاتية التي يطغى عليها ضمير الأنا وقد ذاب فيه ضمير الهو أو الهي أي الحلاج ورابعة العدوية والقديس فرنسيس الأسيزي والقديسة تريزا الآبلية والقديس سمعان العمودي. يتماهى مخلوف في المقطوعة الأولى في الجزء الذي حمل عنوان "لحظة سكون" مع الحلاج صوتاً وتجربة كأن يقول: "أنا الحلاج المصلوب الكئيب. أنزف عطشي. أنظر الى أهلي ولا أعرفهم...". في المقطوعة الثانية يحضر صوت رابعة العدوية: "أنا رابعة العدوية لا يعنيني من الوجود غيره. أقصد هو. الكلّي المطلق...". وهكذا دواليك. أما ما تشي به هذه المقطوعات فهو العودة الى ينابيع التجربة الصوفية كما عاشها هؤلاء المتصوفة المسلمون والمسيحيون عبر استحضارهم المتخيل وإفساح المجال أمامهم ليتكلموا "تجربتهم" وعنها. وان هم تكلموا عبر فعل الكتابة أو بقلم الكاتب نفسه فأنهم لا يبتعدون عن منابت تجاربهم ومكابداتهم ومشاهداتهم ورؤاهم. وفي إزاء الانشغال الصوفي والجمالي والتاريخي والميتافيزيقي تحضر انشغالات أخرى وهموم وشجون تجعل من بعض النصوص مقطوعات ذاتية بامتياز. موضوعة "السفر" ترين على ذاكرة الكاتب وعلى مخيلته معاً، بل على وجدانه ولا وعيه. وليس من المصادفة أن يبدأ كتابه بهذا الهاجس، هاجس السفر. فالسفر ليس انتقالاً من مكان الى آخر أو من مدينة الى مدينة بل هو انتقال زمني ووجودي، اقتلاع وغربة، منفى وانتظار: "نسافر حتى نبتعد عن المكان الذي أنجبنا ونرى الجهة الأخرى من الشروق"، يقول الشاعر. ويضيف: "نسافر... ليكون الوداع مليئاً بالوعود". ويتذكّر "شمعة الغياب" التي تشعلها الأمهات منتظرات عودة الأبناء. وهي الشمعة التي تحدث عنها كفافي في قصيدته "ابتهال" وكانت تشعلها الأم أمام تمثال العذراء من أجل أن يعود ابنها الذي ابتلعه البحر. وموضوعة السفر لن تقتصر على ألم الفراق وبؤس المنفى وعذاب الانتظار بل ستكون مدخلاً الى ماضٍ تختلط فيه مآسي الزمن البعيد والزمن القريب: مآسي الطفولة الأولى، مآسي الحرب الأهلية القاسية، مآسي الموت الفردي والموت الجماعي، مآسي الخراب الروحي والمادي. "كلّ ميتة قتل. حتى الموت الطبيعي" يقول الكاتب. تُرى كيف يكون الموت إذا كان قتلاً حقيقياً؟ إذا كان جريمة كتلك التي اقترفها قايين قاتلاً أخاه هابيل؟ بين هذين الموتين، الموت الطبيعي الأليم والقتل الأشد ايلاماً، يكتب عيسى مخلوف بضعة نصوص أدرجها تحت عنوان واحد هو "الاستغراق في الغناء". تأخذ الكتابة هنا حقاً طابع الغناء الملجوم والمجروح، طابع الغناء الذي ليس إلا رثاء لأشخاص ووجوه، لماضٍ وزمن ومكان، لصباح لم يكن له أن يشرق، لحلم لم يتحقق... في مقطوعة "الغياب الأول" يسرد الكاتب في عفوية تامة قصة ذلك الطفل الذي شرب من ماء النبع وعاد الى البيت لينام نومته الأخيرة: "غرق في الماء الذي ارتوى منه ولم يصحُ من ليله". يسرد الكاتب عبر عيني الطفل الذي كانه هو ما شاهد من غير أن يستوعبه تماماً. عينا طفل بل ذاكرة طفل تسترجع مشهداً مأسوياً لا يُنسى. ومن الماضي البعيد المشبع بالروح المأسوية الى الماضي القريب، ماضي الغربة: يعرف المسافر أنه ليس سوى "ظلّ شجرة". هنا تحضر الحرب العبثية والمجنونة والمخضّبة بالدم، دم الأهل الذين أصبحوا "أعداء" ودم "الإعداء" الذين كانوا أهلاً... يسترجع الكاتب بعضاً من ملامح الحرب الأهلية والطائفية هاجياً اياها وساخراً من صانعيها ومن وحشيّتهم وقسوتهم. ولكن وسط تلك الجحيم التي أتت على الماضي والحاضر يظلّ يرتفع صوت النهر آتياً "من وراء بساتين الليمون والزيتون حاملاً معه عبقها...". هذا النهر "كان يخترق نومي ويحرسه" يقول الكاتب. ولئن اقتربت هذه النصوص من ملامح السيرة الذاتية فهي لم تلتزم حدودها أو شروطها. فالذاكرة الشخصية والحميمة هي منطلق الى كتابة حرّة ذاتية وموضوعية في الحين عينه. ولعلّ بعض النصوص غدت قصائد نثرية وبعضها مقطوعات تتحايل على الواقعي والمتخيل لتنسج عالمها ولغتها. على ان نصوصاً أخرى لم تخفِ طابعها التأملي تمعن في استعادة العالم بغية النظر فيه... ولعلّ هذا التنوّع في الجواء لا يعني التشتت والتعثر بل هو دليل غنى هذه التجربة التي خاضها عيسى مخلوف ناثراً وشاعراً في مراحل متباعدة زمناً ومتقاربة في الجوهر. * صدر الكتاب عن دار النهار، بيروت 2000.