يتجلى المكان في جمالية لونية جديدة، والمكان هنا هو الشمال السوري وعوالم الصحراء وأطرافها، وعلامات ذلك هي الوجوه البدوية الجميلة التي تشرق فيما تخبو وتستتر، وتتكشف عبر شفافية الألوان وانفتاحها على التشكل. الألوان حادة ونارية، داكنة متدرجة كأنها مسكونة بمسام الضوء، السواد خلفية وإطار، لكنه ليس نفسه وانما يشحن باضاءات تخرجه من حالته الخام وتكيّفه في امتدادات ومجاورات. لا أسماء للوحات، إذ لا يمكن أن تختزل اللوحات بأسماء، أسماؤها دلالاتها وايحاءاتها، وزهير حسيب بارع في خلق لغة الإيحاء البصرية، متقن لأدواته، ذلك أنه يقتحم المشهد التشكيلي السوري بقوة المخيلة التي تصهر الألوان وتعيد، بها، تشكيل الموضوعات التي هي شخوص وظلال شخوص، أعراس واستجابات لموسيقى الحياة، لطيورها الوديعة المسالمة، ولذلك الامتداد الهائل للمكان وناره القدسية. ويوحي الأمر بأن اللوحة استحضار إيحائي لطقوس ضفتي الفرات، ذلك النهر الذي شهد، فيما يتدفق، نمو واندثار حضارات عدة. ويخيل للمشاهد انه يقف أمام لوحات نادرة، يغيب عنها التزيين، وتتجلى زينة أخرى: ألبسة الألوان المتبدلة، حسب تبدل الأشكال الموحية، حسب موقعها، على هوى الضربات المتقنة، التي يسيرها تناغم مدروس، حتى أنه يمكن للمشاهد أن يقول: ان المعرض لوحة واحدة توحي بأعراس الشمال. والشمال، هنا، ليس الشمال بالمعنى الجغرافي، وانما هو، أو قد يكون، العالم الذي شاء الفنان أن يجسده، ويستنهض ذكرياته، آثاره، وجوهه، وروده وأشجاره وظلاله، والقسوة الكامنة فيه، القسوة التي يشير إليها سيف مرفوع بين أشكال سوداء في أفق يتسع، لتتأكد، من خلاله، بقعة التشكيل، الحيز الدلالي الإيحائي لإحدى اللوحات، التي لا تمكن الاشارة اليها لأنها بلا اسم. كان من الأفضل أن يتم التعليق على لوحات زهير حسيب مباشرة، أي أن توضع اللوحة، مصورة على الورق، ويكتب تحتها، وما يكتب تحتها قد لا يدل عليها، قد لا يستكشف أبعادها، سيكون مجرد قراءة أخرى تنضاف الى قراءات عدة، بعدد الطبقات الإيحائية التي برع زهير حسيب في استنهاضها في هذا المعرض الذي هو تتويج لمعارضه السابقة، فبعدما برع في رسم الأشخاص، خصوصاً في لوحة المرأة بين نباتات الزينة، ذات التعبير الوجهي المتفرد الذي يحيرك فتضيع بين فرحه وحزنه، جاءت اللوحات التي تستنهض الشمال، الذي هو شمال الروح وشمال الذاكرة البصرية، التي أنقذت ألوانها ورققتها وشففتها، وخلقت بها جوها المدهش الغريب. لمعرض زهير حسيب نكهة خاصة، فعلى رغم تكرار الأشكال، في لوحات عدة، نجد أن هذا التكرار، يؤكد، وهو في موقعه إزاء تشكيلات أخرى، قدرة اللون، المسيطر عليه باتقان، على خلق عوالم مدهشة. وعالم زهير حسيب تفاصيل بسيطة، عالم حياة بريئة وخصبة وطيبة، لكنها تكتسب مسحة شاعرية عميقة من خلال سقوط شعاع اللون عليها. وكل لوحة لوحات، اللوحة فسحة تعدد أكثر مما هي تكثيف لموادها، ويخيل إليك أنها مهرجان ألوان. تقف أمام اللوحة وتتذكر الطقوس التي ذكرها أوكتافيو باث في حديثه عن لوحات مكسيكية، ثمة لوحات تحتاج الى من يتقن رؤيتها، الى من يعيش حرارة ألوانها وذاك العمق المتجلي على السطح. في اللوحات آلات موسيقية وحمام وأزهار ونساء وعشاق عراة ووجوه حزينة وأخرى تشرق بالحياة، وثمة ما يوحي بتغييب الموت وتهميشه لكي يستمر عرس الحياة الأبدي. يغيب التزيين - آفة الفن السوري - في هذا المعرض، وتنفتح بوابات المغامرة ليقاد اللون، رغماً عنه، الى مجهولات الأشياء، فتتلون البقع اللامألوفة وتظهر لتزهو وتوحي، فتتحول اللوحة الى نص سواد مخترق بألوان الضوء، تتأصل لغة تحاور العينين، وتستدرجهما الى بهاء الشمال. زهير حسيب يحمل ذاكرة بصرية عميقة الغور تصله بالينابيع الأولى للمكان، انه يبتكر، من جديد عوالم طفولته، يعيد بناء مملكته الخاصة، فتعلو صروح البناء في اللوحات، وينفصل الشمال عن الشمال، ليصبح جغرافيا الروح، جزيرة الروح وألوانها، في أرخبيل الفن العربي. كل كتابة عن اللوحة تجربة انحراف، وكل تشريح لها قتل من نوع آخر، وهي لا تكتسب قيمتها إلا من كونها تموجاً إيحائياً، خريطة توقعات، وذلك التموج الذي يولد بين اللوحة والأعين، التموج الذي هو اللوحة، حاضر وطاغ في معرض زهير حسيب. تشعر بالرهبة، كأنك في معبد الألوان، التي بعد أن تتوضع، تضاف إليها قصاصات ورق صحف، شبه مغيبة، ماء ذهب وورق قصدير ذهبي، نقوش وحناء، نقاط ضوء، تنبه فيما تخلق التناغم، فراغات أطر عديدة، وكل ذلك تثبيت للعابر وقبض على ما يفلت، ذلك أن ما يمسك به اللون لا يفنى، والمعرض بلوحاته المتعددة، المنصهرة في لوحة واحدة، يؤكد أن زهير حسيب قد قبض على الشمال، وأنقذه، وجيش تفاصيله، بانيا عالمه الخاص. * كاتب سوري.