معرض فناني محافظة درعا، الذي أقيم في صالة نقابة الفنون الجميلة، جاء هذه السنة أكثر غنى وتنوعاً، سواء في الموضوعات التي استلهمها الفنانون المشاركون، أو في الأساليب الفنية التي عكست في اختلافها، تياراتٍ وأشكالاً على صعيد اللون وكيفيات استخدامه، وعلى صعيد النظرة الخاصة التي يحملها كل فنان للواقع ومفرداته. يمكن بالإجمال الحديث عن ثلاثة مستويات فنية، هي في الحقيقة ثلاثة أجيال تبدو واضحة من خلال الخبرة التي تصل عند بعض الفنانين الى حدود متميزة ترقى الى مثيلاتها عند التشكيليين السوريين الكبار، فيما نرى هذه الخبرة هجينة ولا تزال في حاجة الى مزيد من العمل والتجريب عند الأكثرية، بينما يراوح عدد آخر من الفنانين في موقع متوسط فيصعد من خلال الموهبة العالية في بعض لوحاته ويعوّض ما ينقصه من تلك الخبرة. رئيس فرع نقابة الفنون الجميلة في درعا، الفنان محمود جوابره، قدم في المعرض ثلاث لوحات لافتة، قدم من خلالها رؤى فنية تعتمد كثيراً على الأسطورة - أو على الأقل بعض مفرداتها - وتعيد تشكيل تلك الأسطورة في صياغات فنية ذات وشائج قوية بالمرحلة الراهنة. لوحات محمود جوابرة الثلاث تزدحم بتفاصيل ورموز تجد دلالاتها في طغيان اللون الأزرق المائل الى السواد، وفيما يشبه حواراً - أو إذا شئنا الدقة صراعاً مفتوحاً - مع ألوان قليلة أخرى، هي في المآل الأخير رموز ومفردات وتفاصيل لها دلالاتها غير المباشرة. لوحاته هنا تقصد أن تجيء موضوعات تفرض على المشاهد الحوار معها، والمساهمة مع الفنان في استكمال دلالاتها ومغازيها. أما الفنان المعروف هيّال أبا زيد فنرى من خلال لوحاته المشاركة في المعرض بوضوح شديد قوة الأداء الفني، وتقنية التشكيل، حيث يعمد أبا زيد الى تكثيف رؤى ودلالات من خلال رموز بسيطة وان تكن مشحونة، تكتسب قوة أكبر بالألوان الأكثر تعبيرية، والتي يجسد الفنان من خلالها شغفه اللامحدود بالبيئة المحلية ومفرداتها، في صياغات فنية خاصة، حيث نراه يقدم مفردات بيئة حوران ورموزها، ولكن ليس كما هي في الواقع، بل كما يراه الفنان، وكما يرغب لها أن تكون في ذاكرة الناس من الأجيال القادمة. هذه الرموز تأتي غالباً بسيطة، مفردة، وان كان أبا زيد يزجها - خلال التشكيل - في علاقات جديدة. لوحات هيّال أبا زيد تجيء شديدة التكثيف في موضوعاتها حيث نلمح مع ذلك التركيز حرفية ظاهرة في استخدام الألوان ومنحها تناغماً وانسجاماً، ما يعطي اللوحة وحدة موضوعية متماسكة وقادرة على اثارة حوار دائم مع المشاهد. مفاجأة المعرض كانت حقاً في المشاركة اللافتة للفنان حنا بشارة من خلال لوحتين حملت كل واحدة منهما تجربة جديدة وغير مسبوقة في الفن التشكيلي السوري كله. يحار من يشاهد لوحتي بشارة في تقديم تفسير "عقلاني" لجزئيات وتفاصيل فنية كثيرة تزدحم بها اللوحة، ولكنه في كل الأحوال يجد نفسه مشدوداً الى ما تقدمه اللوحة من مشهدية يطغى فيها عنصر الجمال وتتصاعد خلالها تأثيرات فنية قوامها الأساس اللعب المتقن بعناصر اللون وكيفيات استخدامه وتوظيفه من خلال استخدام مواد جديدة أو غير مألوفة حتى. لوحتان جاءتا كنوع من التعويض الجميل عن قلة انتاج هذا الفنان الموهوب، خصوصاً وقد كانت آخر مشاركاته الفنية من خلال منحوتات متميزة أيضاً. في النظر الى لوحتي حنا بشارة، تصعد اللوحة كلاً واحداً لا يجدي معه التدقيق في مفرداتها التفصيلية، إذ أن اللوحة تقدم مشهدية بانورامية يتوجب النظر اليها في كليتها، ويسترعي الانتباه عمل الفنان الناجح على تسخير الألوان العادية المعروفة والمتداولة على تقديم إيحاءات برّاقة ومفعمة بالدلالات القابلة للتفسير في اتجاهات متعددة. من بين الأسماء المعروفة قليلاً، والتي أكدت حضوراً متميزاً في المعرض تجربة الفنان جهاد طعيسان، الذي قدم ثلاث لوحات لفتت الانتباه واستقطبت الأنظار بسبب من جمالية استخدام الرموز ونجاح الفنان في توظيفها على نحو شديد التأثير. أيضاً رأينا في لوحات طعيسان لغة بصرية ذات جمل تشكيلية خاصة تغرف من جماليات البيئة وتضيف اليها أفكاراً، فتصنع رؤى ومشاهد ذات خاصيات درامية أو شبه درامية، إذا جاز لنا القول. فنان يعد بالكثير. الأناقة في الألوان الزاهية وما تشيعه من أجواء التفاؤل هي السمة الأهم في أعمال الفنانة سميرة بشارة، إذ نجد في لوحتها اصراراً على الرموز البسيطة ولكن في عمق، وأيضاً الاختيار الموفق لتفاصيل قريبة من الروح الشعبية، تفاصيل مشبعة بالطبيعة، وفيما يشبه اعادة اعتبار لها. وسميرة بشارة التي درست الفن في العراق، وتعرفت على جماليات الفن التشكيلي العراقي، تستفيد بالتأكيد من تلك التجربة، ولكنها تقدم في لوحاتها قراءتها الذاتية، التي تقدم لوحة تعتني الى حدود قصوى بالإنسان ومشاعره الداخلية، وتضيف الى ذلك كله في هذا المعرض، نضجاً فنياً ومفهومياً واضحاً. ثمة في المعرض لوحات مفردة، أكدت حضور مبدعيها، منها لوحة الفنان علي العبود بألوانها المشغولة بعناية واقتدار، والتي تشير الى فنان قادم بقوة، خصوصاً وأن عبود من الفنانين النشطين على صعيدي الإبداع والمشاركة في المعارض.