أطلت المرأة «بكامل مشمشها»، بحسب تعبير الراحل محمود درويش، وحضرت بكل وقارها وهدوئها وجمالها، في معرض الفنان التشكيلي السوري زهير حسيب الذي افتتح في صالة «السيد» في دمشق، ويستمر حتى نهاية الشهر الجاري. خمس عشرة لوحة بأحجام مختلفة، كبيرة غالباً، ومنفذة بتقنيات مختلفة (التصوير الزيتي، الكولاج، الغرافيك...) تتجاور على سطح اللوحة وفق أسلوب عُرف به حسيب الذي بقي أميناً لمناخات وأجواء عالمه التشكيلي، إن كان في هذا المعرض أو في معارضه السابقة. فهو لا يمل العودة الى بيئة الطفولة الأولى في الجزيرة السورية حيث ولد عام 1960 ليستمد منها مفردات أو عناصر لوحته. وهو لا يكتفي بالتأويل المجازي والرمزي، بل يصل به الأمر حتى الاستعانة بأشياء مادية من تلك البيئة، يضعها على سطح اللوحة، كالطين والرمل ومزق النسيج والقصب اللامع المزركش والخرز الملون والخشب العتيق... وبعد عشرات المعارض الفردية والجماعية، يلاحظ المرء أنّ كلما اتسعت مسافات الغياب الطويلة، يكبر الحنين إلى مرابع الطفولة والصبا في قلب الفنان، فيأتي النتاج أشدّ وضوحاً وإشراقاً، من دون أن يتمكن الوهن من ريشة لماحة؛ رشيقة. فهذا العناق الحار بين اللوحة والذاكرة الغضة والبعيدة، لم يشغل الفنان عن الاهتمام بتطوير جماليات لوحته، والاعتناء بمعالجات لونية تبدو، للوهلة الأولى، متكررة. لكن التدقيق في أشكالها ورموزها وخطوطها يكشف الجهد الذي يبذله حسيب في سبيل تقديم لوحة غنية بالمعاني والدلالات، ودائماً عبر ألوان توحي بالبهجة والصفاء، وتثير الإعجاب. وفي حين لم يترك حسيب شيئاً من بيئته الكردية الأولى إلاّ خلده في هذه اللوحة أو تلك، فهو، في هذا المعرض أراد أن يحتفي بالمرأة على طريقته الخاصة. موثقاً صور المرأة في شتى حالاتها الإنسانية، ومركزاً على أحد أسمى المعاني، وهي الأمومة، من دون أن يسجل ذلك انعطافاً في مساره التشكيلي المتناغم، فلئن كانت المرأة، هنا، هي العنوان الأبرز، فإننا نجده أيضاً يلهو ضمن مساحات البراءة الأولى في الجزيرة السورية الحافلة بالرموز والإشارات والحكايات... وهذه تصلح للوحة لا تنجز أبداً، كما أن تلك الوجوه الغارقة في الدعة، والبساطة لا يمكن أن تربك الناظر الذي سيخمن، بلا عناء، من أين أتت، ولِمَا هي منطوية على روحها الكسيرة... يعود حسيب، مراراً، الى تلك البدايات مانحاً لوحته عناصر جمالية خاصة، وقوة تعبيرية بالغة الثراء حتى ليخيل للمشاهد أن اللوحة الواحدة تحوي عشرات اللوحات. والمرأة، بصفتها رمزاً للخصوبة والعطاء في مختلف الآداب والثقافات الإنسانية، فإن الرسام الكردي السوري لا يغفل عن هذه الحقيقة بل يستثمرها على نحو تشكيلي فاتن، كأن نرى في لوحاته مهرجاناً لونياً هادئاً يستطلع شجون الأنثى وهمومها، وهو يميل الى الحجوم الكبيرة بغية التنويع في التفاصيل. ويبدو أن المرأة المفصلة وفق مقاييس الحداثة والموضة لا تستهويه بقدر ما تجذبه المرأة الريفية البسيطة التي تختال وسط عوالم لونية ساحرة، فتبدو اللوحة، مشهداً مسرحياً ينبض بالحركة، ليظهر المرأة الحزينة، القلقة، الهشة، المنتظرة، الخائفة، والراغبة في التحرر والانعتاق... إنهن نسوة زهير حسيب اللواتي لا يظهرن كعارضات أزياء نحيلات؛ غانيات، بل كرموز خصب ينشدن أغنية حزينة بملامح صامتة تكاد تختزل الكون في امرأة. في هذا المعرض، يثبت حسيب من جديد حرفيته، ومهارته في استخدام تقنيات مختلفة للوصول الى الحساسية البصرية التي ينشدها، فهو يتعامل بموهبة فطرية وعفوية مع المادة الخام التي تتحول عبر «مطبخه» التشكيلي السري الى مزيج بصري متجانس على رغم التشابك والازدحام. والواقع أن حسيب لا ينفي تأثير ذلك المخزون البصري في مجمل تجربته التشكيلية، فعلى رغم دراسته الأكاديمية (دبلوم فنون)، واطلاعه على التجارب التشكيلية شرقاً وغرباً، وإقامته الطويلة في دمشق، لم يستطع حسيب أن يفارق أمكنة الطفولة، بل ظل مسحوراً بذلك الفضاء النائي والملون، يرقب طيور الحجل والقطا، ويرنو الى الأفق الفسيح المشبع بالضوء حيث حقول القمح، وزهور عباد الشمس التي تشع، ويا للمفارقة، وسط جغرافية مترعة بالحزن والألم. ويقر حسيب بأن هذا المعرض هو امتداد لتجربته الفنية، وأنه يستقي رموزه الفنية من ذاكرة الطفولة الأولى في منطقة الجزيرة السورية التي أثّرت به في تفاصيلها الغنية، وهو يجتهد كي يقدمها بحساسية فنية معاصرة تتأرجح بين التلقائية الفطرية والحداثة المكتسبة. ويشير حسيب إلى أن السنوات الأولى لأي فنان تظل تفاصيلها كالوشم في الذاكرة لا يمكن أن تزول، «وإذا تأملنا نتاجات المبدعين الكبار نجد أن الطفولة كانت معينهم الأول».