الكتاب: رقصة الدم. المؤلف: بيتر شافر. المترجم: شوقي فهيم. الناشر: هيئة قصور الثقافة - سلسلة آفاق الترجمة - مصر لم يعد المسرح "أبو الفنون" فقد تنازعت على مكانته فنون عدة منها السينما والتليفزيون على مستوى العرض، أما على مستوى النص فاحتلت الرواية والسيناريو مكانة مهمة، لكنه ظل النص الوحيد القادر على إظهار قدرات الممثل الشخصية في حالات الاضطراب والقلق النفسي، لذا اتجهت معظم النصوص الحديثة لدى باييخو ودايرفو وهارولد بنتر وبيتر شافر وغيرهم من كتاب المسرح على رصد تناقضات الحالات الانسانية وقلقها الزائد، وهذا ما نراه في مسرحية رقصة الدم التي ترجمها شوقي فهيم في سلسلة "آفاق الترجمة" للمسرحي بيتر شافر. وشافر أحد الذين اهتموا بربط التاريخ بالواقع المعاصر في أعمالهم، كما أنه كتب من السيناريوهات للدراما الإذاعية والتلفزيونية، مما أفاده في تطوير رؤيته الى خشبة العرض وتوزيع الدراما المسرحية، وتشابك الأحداث عليها، فهو يكتب بعين تجمع إمكانات الفنيين في نص مسرحي، يمزج أحداث التاريخ القديم بين طيات مشكلات حديثة يعانيها أصحابها في الواقع تماماً مثل "سيد الماضي الجميل" التي عشقت فترات المجد الإنساني وأرادت إعادتها ولو بشكل مسرحي، على أرض الواقع المعاصر، لكن الحاضر لا يسمح بإعادة الماضي في داخله نظراً الى ما يحمله من أحداث لا تترك مساحة لغيرها، مما يسبب فشلاً لأبطال أعماله. ولعل هذه الإشكالية هي الركيزة التي دارت حولها قصه "هدية غرغون"، ذلك هو العنوان الأصلي - أو "رقصة الدم". فالبطل ادوارد دامسون مؤلف مسرحي شهير، أنجب ابناً لم يره سوى مرة واحدة في نهاية حياته، ولم يفصح عن شخصيته أمامه، ثم يجيء هذا الابن الذي لم ير والده مطلقاً وهو مدرس اكاديمي وناقد مسرحي، كي يؤلف كتاباً عن حياة والده الذي يعتبره أهم شخصية مسرحية، لكن زوجة أبيه - هيلين - ترفض البداية ثم توافق طالبه منه تنفيذ شرط واحد: أن يسجل كل ما تقوله وينشره في كتابه، وهنا تبدأ الأحداث على هيئة "فلاش باك" تحكي فيه هيلين عن علاقتها بدامسون منذ تعارفا في مكتبة الجامعة عن طريق تصادم جسدي بينهما فسقطت الكتب التي تحملها و...ذهبا الى بيته. تعرض المسرحية الشخوص الثانوية والذين اشتبكوا في صراعات أساسية مع البطل، كوالد هيلين الذي كان استاذه في الجامعة وطرده من المحاضرة، هذه الشخصية التي مثلت الاعتدال والبحث عن الجمال واللحظات الإنسانية الدافئة مقابل كل ما يحمله دامسون من تطرف وبحث عن لحظات التحدي والانتقام، كما تعرض لوالد دامسون الذي يكره الزنوج ويعشق الفودكا بعد ما هاجر من روسيا ليقيم في لندن على نفقات البيت الذي تؤجره زوجته لأميرة زنجية - من نيجيريا - وباحث في الاقتصاد، وباحث في الكيمياء العضوية، هذه الشخصية التي تمثل الفشل وخرج عليها دامسون ومقتها كثيراً ظلت قابعة في داخله ولم تظهر إلا في لحظات حياته الأخيرة بعدما أصبح كاتباً مسرحياً فاشلاً. علاقة التاريخ والواقع لكن التجلي الإبداعي للنص يتضح من خلال العلاقة الثنائية بين التاريخ والواقع، فدامسون الشاب في الثامنة والعشرين كتب خمسين نصاً مسرحياً ولم يكملها، يبحث في التاريخ عن اللحظات التي تتشابه مع تطرفه، فهو يرى أثينا إلهة الحرب وليست مدافعاً عن المظلومين، ولذا يركز دائماً على أنها بزغت من رأس زيوس مدججة بالسلاح، وعلى أن أولى الأصوات التي خرجت منها كانت صيحات الحرب، حتى أن الشمس فزعت منها وجمدت في كبد السماء. يواجه هذا التطرف هيلين ووالدها، فأثينا بالنسبة اليهما تلك جاءت مدججة بالسلاح لحماية المظلومين، وصرخاتها لم تكن للحرب ولكن للتحذير وأن أهم إنجازاتها - على حد قول والد هيلين - أنها أهدت الزيتون إلى الإنسان وأن زيت الزيتون رمز الحياة المنزلية الهادئة وغصن الزيتون رمز السلام. لكن هذه الثنائية تتصاعد بشدة من خلال الربط بين شخصية هيلين ودامسون في الواقع والخلفيات التاريخية من خلال أربع مسرحيات وردت داخل النص. عندما تزوج دامسون من هيلين كان محتاجاً اليها لتمده بالعون والإلهام ضد الفشل الذي ملأ حياته تماماً، كما في مشاهد مسرحية "برسيوز"، وهي النص الأول - فبرسيوز احتاج الى هبات اثينا لينتصر على "الغورغون"، رمز الشر في الأساطير اليونانية، فأمدته اثينا بدرعها، والمنجل الحاد، وحذاءين يطير بهما وطاقية تخفيه عن الأعين، وكان برسيوز شاكراً لأثينا مثلما كان دامسون شاكراً لهيلين. لكن حين ضجر دامسون من اعتدال هيلين الزائد وكان يمثل الرقيب عليه ظن أنها تريد تدميره جعل أثينا تأمر برسيوز، بعد ما قطع رأس غورغون، أن ينظر إليها ليتحول الى حجر، فمن يلتقي نور عينيه بشعاع عيني غورغون يتحول إلى حجر في الحال، وهنا رفض برسيوز الامتثال لطلب اثينا وثار عليها. من هذا المثال تتأكد هيلين أن دامسون لن ينصت إليها على تضحيتها بعلاقتها مع والدها، وبمستقبلها الاكاديمي لكي تتزوجه. وفي مشاهد مسرحية الايقونات نرى دامسون يجنح تجاه تطرفه الدامي فيجعل الامبراطورة ايرين تدخل قضيبين حديد محميين في عيني ابنها على المسرح، لأنه حطم تماثيل المسيح، فلاپبد أن ينتقم منه بألا يرى الجمال الذي شوهه، لكن هيلين ترفض هذه النهاية المتطرفة فالجمهور لن يقبل كل هذا العنف والدم على المسرح، فيرضخ دامسون على مضض لطلبها ويغير النهاية بخطبة بدلاً من مشهد الانتقام، هذا الصراع بين الواقع والتاريخ وبين الاعتدالية الجمالية والتطرف العنفي ظل مسيطراً في مشاهد المسرحيتين الباقيتين. ففي مسرحية "الامتياز" نرى دامسون يريد أن ينتقم من القائد الانكليزي كرومول لأنه قتل الكثير من الإيرلنديين ومثل برأس القديس، لذا يرى دامسون أن يكون عقابه التمثيل برأسه ورفعه على حربة وسط صيحات الغضب والفرح بالانتقام، لكن هيلين التي يقبع داخلها والدها عضو جمعية السلام، ترفض ذلك، وبعد لأيٍ يرضخ دامسون ويغير النهاية، لكن هذه الانتصارات لا تستمر، فحين يعلم بتفجير قنبلة عند نصب تذكاري للحرب يموت على إثرها كثيرون يكتب نصاً - هو نص المسرحية الرابعة "الجيش الجمهوري الايرلندي" يموت فيه ابن عضو البرلمان التي تطالب بالسلام فتقرر السيدة خطف رئيس الارهابيين ثم تقيده على المسرح وتذبحه، طالبة من الجمهور مسح أيديه من الدم الذي علق بها، وتصور دامسون أن الجمهور سيفعل ذلك بفرح شديد. وعلى رغم تحذيرات هيلين ورفضها يعرض دامسون النص وهنا يواجه بفزع الجمهور ورفضه، ويتحول الى كاتب مسرحي فاشل تسليته الوحيدة إدمان الخمر - كوالده - ومصاحبة الفتيات السائحات وإهمال زوجته التي صورها على أنها اثينا التي رغبت في هدمه. إيقاع النص يربط بين اضطراب شخصية البطل ورغبته في العنف والدم مما يجعله يسرع الى التقاط ما يؤازر رؤيته تاريخياً ويظهرها، لكن رؤية هيلين المسالمة الباحثة عن الجمالية الابداعية، إن خالفت التاريخ، كانت تجبره على التعديل والتحايل. رقصة الدم لم يكن العنوان الأصلي للنص "رقصة الدم" ولكنه "هدية غورغون" تلك الهدية التي طلبتها اثينا من بروسيز كي تضعها على درعها، لكن المترجم - شوقي فهيم - رأى أن رقصة الدم اكثر تعبيراً، فرقصة الدم أو فرحة الانتقام هي الركيزة الأساسية لدى دامسون هذا الكاتب العنيف الذي يرى الانتقام هو القصاص العادل المخلص من الخطايا، فحين ضحى أغاممنون بابنته لإرضاء الهة الرياح التي غضبت حين قتل غزالة وهو في طريقه الى احدى الحملات على طروادة فارتأت زوجته - كليتمينسترا قتله عارياً في الحمام وأن ترقص رقصة الانتقام، فكانت رقصة الدم هذه التي أرادها دامسون مع قسطنطين السادس ابن الامبراطورة ايرين، ومع كرمويل البطل الانكليزي، وأتمها مع السيدة التي خطفت الإرهابي ولأن هذه الرقصة هي محور النص كاملاً، فإن شافر - مؤلف النص - يصعد الأحداث ويجعل دامسون يرقص طالباً من زوجته هيلين أن ترقص معه. وحين يفشل ويهاجم ابنه ويتخلى عنه للمرة الثانية بعد ثمانية وعشرين عاماً، وحين تعلم هيلين أنها خدعت، عندما قال لها انه ليس لديه أطفال سوى اعماله المسرحية، وأن عليها الا تنجب أطفالاًَ تفاجأ بأن له ابناً لم يحدثها عنه، وأنها فشلت تماماً فلم تنجب طفلاً حقيقياً، ولم تعد أماً للاعمال المسرحية، بعد ما فشل دامسون وأصبح صفحة ممقوتة في النقد المسرحي. فقررت الرحيل عنه، لكن دامسون المتأكد من أنه لا شيء في غيابها لا يترك الفرصة من دون تحميلها ذنباً عظيماً ويلقنها درساً تتعلم منه أن هناك أخطاء لا يغفرها سوى الانتقام: استعطفها وطلب منها أن تغسله من آثامه فأحضر لها صابونة مغروز فيها شفرة حادة وطلب منها تدليكه في الظلمة بشدة، ولما فعلت أدركت بعد حين أنها أصبحت - رغماً عنها - كليتمينسترا التي قتلت زوجها لأنه ضحى بابنته. وكان عليها أن تشعر بالذنب، والكره لنفسها كلما شعرت بلزوجة الدم بين أناملها، فقررت أن ترقص رقصة الدم أو الانتقام بأن تنشر كتاباً تحكي فيه سيرته وكيف كان كاتباً فاشلاًَ، وترفض تدخل الابن المدفوع بحب غريزي لوالده، لكن القدر يجعله يلح حتى يعرف ويرفض، ويأتي شبح الأب لكي يطالبها بأن تفعل ذلك وحين تفعل ترقص رقصة الانتقام / الدم، وتصبح متطرفة مؤمنة بأن هناك من الاخطاء البشرية ما لا يغفرها سوى الانتقام، لكن هيلين تقرر في اللحظة الأخيرة أن توافق فيليب الابن فلا تكتب ولا ترقص. تقنيات السينما يقول بيتر هول الذي أخرج المسرحية في كانون الأول ديسمبر 1992 في لندن "إن الأمر أشبه برؤية فيلم تم مونتاجه واصبح جاهزاً للعرض فالشخصيات، على المسرح، تغير المكان والزمان والانفعال في جزء من الثانية، ومن المحتمل أن الجمهور الذي لم يعتد على اللقطات القافزة والانتقال المفاجئ على الشاشة الحديثة، قد لا يفهم بسهولة هذا التكنيك الجديد، لكن شافر استخدم دراية جمهوره بإمكانات السينما الهائلة لكي يدعم واحدة من امكانات المسرح". ومن هذا يتضح لنا أن بيتر شافر استفاد من تقنيات السينما والتليفزيون، هذه التقنيات التي طوعها لتوافق إمكانات المسرح المحدودة في مكان ثابت هو خشبة العرض، فالنص في مجمله "فلاش باك"، يقوم على التذكر، لكن صعوبة العمل تكمن في الانتقال السريع على الخشبة نفسها لتجسيد أربع مسرحيات لا يقل شخوصها عن ثلاثة أو أربعة، الى جانب انتقال الشخصيتين الرئيسيتين بين الماضي والحاضر أكثر من مرة من دون إغلاق الستارة أو لحظات لتغيير الديكور، وعلى العمل أن يصبح بتقنية الانتقال من لقطة تلفزيونية الى أخرى، علماً أن السينما تستغرق دقيقة أمام المشاهد ويتم الانتقال الى غيره. ربما استطاع بيتر هو بالاتفاق مع بيتر شافر ايجاد حيلة لتنفيذ مثل هذا النص المعضل والمتفرع في اكثر من خط درامي باستخدام عدد من الستائر الشفافة لتشكيل غرفة المعيشة أي مكان إقامة هلين مع دامسون، هذا الى جانب ارضية المسرح الامامية الخالية من الاثاث عدا مكتب وعدد من الكراسي المحايدة، مما يسمح بتمثيل المسرحيات من دون أثاث يحتاج الى تغيير كما أن لعبة الإضاءة هي العامل الفاصل فكما تستخدم السينما لغة اللقطات يستخدم المسرح لغة إضاءة جانب واظلام آخر، وبذلك ينقل الجمهور الى لقطة جديدة أو مشهد آخر من دون إحساس بالتغيير. لا يمكننا أن نزعم أن هذا كل شيء فانا لا أتحدث سوى عن نص وعن ارشادات مؤلف وحلول أو تصورات إخراجية لما احتاجه من تقنيات أخرى لتطويع امكانات المسرح المحدودة، ولاپبد أن بيتر هول استخدم عدداً من الاثاث والرموز التجريدية التي تصلح لكل المشاهد ويمكن إغفالها أو اظهارها بإستخدام تقنيات الاضاءة المسرحية. من الجلي أن شافر موقن بأن المسرح لم يعد أباً للفنون، إذا لم يتسع أفقه لاستحداث تقنيات الفنون الأخرى بما يتوافق مع امكاناته، وتتجسد أولى عقباتها في ثبات المكان ومحدوديته، ولذا فإنه لا يقدم نصا تجريديا فحسب، تاركا المخرج يبتكر ما يساعد على إخراج نصه، لكنه يقدم عدداً من الحلول هي مخارج مبدئية لما وضعه من عقد ومعضلات إخراجية في النص.