لا يكتفي السيد هشام الدجاني في "الحياة" 9/2/2000 "أصوات الرأي العام السوري..." بالتنديد بصمت المثقفين السوريين إزاء "قضية مصيرية كقضية السلام"، بل انه يمنح نفسه حق تفسير هذا الصمت، على أنه يعني الموافقة على السلام، وكأنه قاض شرعي يريد أن يعقد قران فتاة خجول تعلن عن موافقتها بالصمت. انه يورد في مقالته عبارة "الغالبية الصامتة، خصوصاً في أوساط المثقفين، التي تؤيد ضمناً عملية السلام". وأنا لا أعرف على أي أساس بنى حكمه على غالبية صامتة، وتفسيره لصمتها" ولا لماذا يتجاهل، من جهة أخرى، معرفته بأسباب هذا الصمت. إذ أننا نستطيع بداية أن نسأله: لماذا لم يقم، هو نفسه، بنشر مقالته تلك في الصحف السورية، وهي المقالة المندفعة في تأييدها للسلام الى حد الدعوة الى المصافحة والاحتضان بيننا وبين العدو. وإذا كان لا يستطيع أن ينشر، أولم يحاول أن ينشر لأنه يعرف أنه لا يستطيع، فلا أعرف كيف يتوقع أن يستطيع النشر أولئك الذين يعترضون على مسيرة السلام من جذورها. كما لا أعرف كيف يسمح لنفسه بعد ذلك أن يعتبر عدم قدرتهم على النشر صمتاً، ثم يفسر صمتهم قبولاً. ولو أن هذه الغالبية المثقفة الصامتة موافقة على عملية السلام - كما قال - وبما أن القيادة السياسية السورية تسعى الى هذا السلام بالسبل الممكنة والمتاحة، "ومع الحفاظ على الثوابت"، كما نعرف، لكانت المسألة "زيتاً على زيتون"، ولما كان هناك مبرر لهذه الغالبية أن تظل صامتة. أليس من الممكن إذاً أن يكون لصمتها معنى آخر وغير ما تفضلت به عن انشغالها بمعيشتها اليومية وتقلص اهتمامها بمجريات الأمور المصيرية، وانصرافها الى مناقشة صغائر الأمور؟ ثم ألا يلفت النظر أن صحافياً ايرانياً هو حميد حلمي زادة يقضي أياماً في دمشق فيخرج بكتاب كامل عن التطبيع والإرهاب، ويستعرض فيه مواقف عشرات المثقفين المعادين للتطبيع ممن التقى بهم، بينما يعيش السيد دجاني بيننا، ويعيش مراسلون آخرون لصحف عربية، ولا يستطيع، هو أو هم، تلمس شيء من مواقفنا إلا الصمت القابل للتفسير بالقبول؟ ألا يحق لنا أن نقول، على طريقة محمود درويش، ان كل انسان "يرى ما يريد" أن يرى؟ ان المثقفين السوريين صامتون فعلاً. وليس لدى الجميع الهمة الكافية لمراسلة صحف خارج البلد، إذ يخشون أحياناً أن لا تتعامل معهم كما يريدون. هذه هي المرة الأولى التي أغامر فيها بإرسال مقال، من دون تكليف، الى صحيفة محترمة مثل "الحياة". ولعلنا يجب أن نعترف أن هناك الكثير من المثقفين صاروا يستنكفون عن إبداء الرأي لإحساسهم بالإحباط وانعدام الجدوى. فالمثقف، في النهاية، جزء من الشعب المهمش، والذي لم يتعود أن يهتم أحد برأيه أو يطلب منه هذا الرأي. وهنا أوافق السيد دجاني على أن الرأي السوري المعارض، لو أتيح له أن يُعلن، كان من الممكن أن يكون سنداً للمفاوض السوري، مثلما أن الرأي الإسرائيلي المعارض سند للعناد وذريعة للابتزاز لدى المفاوض الإسرائيلي. لكن العادة تفرض نفسها وقيمها، إذ لو قال المفاوض السوري الآن: "أريد أن آخد رأي شعبي"، لبدا قوله مضحكاً للآخرين، ومفاجئاً للشعب نفسه. وأشك أن هذا الشعب كان سيعرف كيف يعبر عن رأيه بعد هذا العمر من الإغفال والتحييد. ولكن، مع ذلك ليس صمت المثقفين مطبقاً حتى داخل سورية، إذ لا يجوز لنا أن نتجاهل سيل المقالات التي تنشر في دوريات اتحاد الكتاب في دمشق، والمقالات التي كتبها العبد الفقير، وكتبها غيري، في صحف أخرى خارجية، والتي لا تخفي اعتراضاتها على عملية السلام، وتعلن أن الصراع مع العدو هو صراع وجود وليس صراع حدود. لكن المثقف السوري، بشكل عام، صامت فعلاً. وذلك لأنه، أولاً، ليس لديه منبر يعلن منه عن رأيه المخالف، أو المحايد أحياناً. وليس هناك مناخ يتعود فيه، ويتعود منه الناس فيه، أن يعلن عن الرأي في المشكلات المصيرية - وحتى اليومية - التي تواجهها الأمة. بل ان منابر الإعلام المحلية قد اتسمت بالرسمية بأكثر من حقيقتها. وحيث أن القارىء السوري، أو غير السوري، صار يحق له أن يعتبر أن كل ما ينشر في الصحف السورية يعبر عن رأي السلطة أو بتوجيه منها، حتى لو كان ما ينشر هو نقد لأسلوب البيع في مؤسسة الخضار والفواكه. ولا شك أن مسؤولية ذلك تقع على العقلية التي يدار بها الإعلام السوري. فإذ تهتم هذه العقلية بإبراز وجهة النظر الرسمية والترويج لها وهو أمر مفهوم ومطلوب، ويفعله أي إعلام رسمي، فإن هذا لا يبرر أن تفرض على هذا الإعلام الوصول الى حد اعتبار نقد الدراما التلفزيونية السورية مساساً بالمقدسات الوطنية، ولا اعتبار نشر خبر عن مثقف سوري، لا يحبه هذا المسؤول أو ذاك، خروجاً على المسيرة أو الثوابت الوطنية. وهذا ما يوصلنا الى معضلة "الراعي الكذاب". فالقارىء السوري، وغير السوري طبعاً، بات لا يصدق أن هناك معارضة يمكن أن تعبر عن نفسها في الصحف السورية، أو أن هناك امكانية لنشر أي رأي في أي موضوع إلا ويعتبر رأياً رسمياً. وحتى لو نشر مقال فيه وجهة نظر مستقلة، أو معارضة، فلن يفهم أحد إلا أنه قد نشر بتوجيه. وإنني أواجه أحياناً أسئلة من قراء سوريين وغير سوريين تطلب تفسيراً لنشر مقال معين لكاتب ما، أو حتى السماح بدخول صحيفة غير سورية الى سورية وفيها مقال منشور عن قضية لها علاقة بسورية، وكثيراً ما استمعت الى تفسيرات وتكهنات - محتجة، أو متسائلة بصدق - حول الهامش الذي تتحرك فيه دوريات اتحاد الكتاب، حيث تستطيع أن تنشر ما لا ينسجم تماماً مع الخط الإعلامي الرسمي: لماذا تتاح هذه الفسحة؟ ولماذا يترك هذا الهامش؟ بل ان النقاش الذي دار حول السينما، منذ فترة، تحمّل من المعاني ما يصل الى حد محاولة قراءة التغييرات المحتملة في الحكومة السورية، أو في الخط السياسي السوري. وحتى ما يكتبه المراسلون المقيمون في دمشق الى صحفهم خارج سورية تخضع للتساؤلات نفسها: كيف سمح لهذا المراسل بإرسال هذه المادة أو تلك؟ ومن الذي طلب من المراسل الآخر أن ينشر المادة الفلانية. ولذلك قد نجد العذر لأي مراسل مقيم في سورية، لأية صحيفة عربية في الخارج. حين لا ينقل وجهة نظر المثقفين السوريين في عملية السلام أو غيرها من القضايا. ولعلنا بذلك نضيف سبباً آخر لغياب موقف المثقف السوري، وليس صمته، حتى عن الصحف العربية التي تصدر في الخارج. فحتى هذه الصحف لها حساباتها المتعلقة بالدخول الى سورية أو عدمه، والتعاون مع مراسليها أو عدمه، والسماح لها بفتح مكاتب أو عدمه. ولهذا نجد أن الصحف في الخارج تنقسم الى فئتين في ما يتعلق بالشأن السوري. فهي إما أن تكون، في هذا الشأن، نسخة عن الصحف المحلية، مع بعض الحرية الإضافية لأنها لا تُعتبر ناطقة رسمية. واما أن تكون معارضة ومتجنية الى درجة أن المثقف السوري يأنف من التعامل معها، ويوقع نفسه في شبهة رخيصة إذا فعل. وكثيراً ما يكون على مراسل الصحيفة العربية الصادرة في الخارج نقل وجهة النظر الرسمية، ومن دون الإشارة الى المصدر، الذي يكون في أغلب الأحيان مسؤولاً كبيراً في الدولة. وأستطيع أن أعطي مثلاً متعلقاً بي شخصياً. فقد أعطى أحد المسؤولين ذات يوم تعليماته بمنعي من الكتابة. فصار حتى الأصدقاء في الصحف المحلية لا يستطيعون نشر أي خبر متعلق بنشاطاتي. وتبين لي بعد فترة وجيزة أن المنع لا يتوقف على الصحف السورية، بل وعلى الصحف التي تدخل الى سورية "الكفاح العربي" البيروتية و"المحرر" الباريسية مثلاً. ومشكلة المثقف السوري هي أيضاً في الحكم المسبق عليه ممن هم في الخارج، وبعض الذين في الداخل. فهو ان صمت جبان ومنشغل عن قضية أمته أو موافق بصمته، على حد تعبير السيد دجاني. وان قال رأياً متفقاً مع السلطة فهو انتهازي ورخيص. وان غامر وأعلن اعتراضه على رأي السلطة فهو مزايد وغوغائي، أو أنه يلعب دوراً في تمثيلية وبالتنسيق مع السلطة. وكأنه مقدر عليه، أو محكوم عليه سلفاً، أن لا يكون معترضاً، أو حتى صاحب رأي، إلا إذا كان مهاجراً. أما البقاء في الوطن فهو بقاء في موقع الشبهة. ومع ذلك كله فإن المثقف السوري لم يكن يخفي موقفه، لا في هذه "القضية المصيرية" ولا في غيرها. بل انه كان يبادر الى اعلان موقفه دائماً. ويجد لديه الاستعداد للدفاع عن مثقفين عرب آخرين، ولإعلان مواقف من قضايا عربية خارج بلده لا تنسجم دائماً مع رأي السلطة. ولا بأس أن نقول انه كان يدفع ثمن ذلك أحياناً. وأظن أن بعض القراء قد تابعوا مواقف المثقفين السوريين ابتداء ببيان تل الزعتر، مروراً بحرب الخليج قبل اندلاعها وبعده، والتضامن مع كتاب العراق ومصر ولبنان، وحتى، أخيراً، التضامن مع مارسيل خليفة. وكان المثقف السوري يرى أنه بذلك يقدم الحد الأدنى من الواجب الذي يمليه شرف الثقافة، وحتى من دون أن يَسأل: لماذا لم يصدف أن تضامن المثقفون العرب الآخرون مع أية قضية سورية؟ أو مع معاناة أي أديب سوري؟ وكيف ساعد الضباب المقصود على امتناع ذلك المثقف العربي عن الاهتمام بالقضية السورية، لأنه يراها متماهية مع النظام؟ ثم يرى أن مشكلة المثقف في الداخل شأن داخلي لا يعنيه؟ ولا أعتبر نفسي هنا في معرض الرد على مقالة السيد دجاني وحدها، بل ان بعض المراجع التي أثارها هذا المقال هي التي تملي عليّ الكتابة. ماذا يعني أن يطلع علينا مثقف، يٌٌفترض أنه يتحدث في أساسيات الوجدان، بالمقولات ذاتها التي يتحدث بها السياسيون المنطلقون من مواقع هزيمتهم؟ يقول لنا: "تريدون الأرض؟ هذه هي شروطها. تطبيع واقتصاد وسياحة ومصافحة... وما الى ذلك. ماذا يعني، بعد ذلك، إذا تحدث مثقف عربي مع مثقف اسرائيلي أو اشترك معه في مؤتمر؟" المنطق الشكلي لا يرى فارقاً. خصوصاً حين يُدجّج بأقوال من نوع: "ها هم السياسيون والاقتصاديون يطبّعون. وقفت على المثقفين المتشنجين؟ لم لا يطبّعون؟ وما الضرر في ذلك؟". هذا ما يقوله السيد دجاني في مقالته. وقد قاله سابقاً المرحوم - أخيراً - هاني الراهب، وسبق أن قاله علي سالم ولطفي الخولي وأشباههما في مصر. لكن الحقيقة، التي يعرفها، حتى هؤلاء، ويتجاهلونها هي أن الفارق كبير. ومعظمه مستتر وراء ذلك الخرق الثقافي الغربي والاستعماري للعقل العربي وناجم عنه. خذ مثلاً: منذ أن لوح العدو والغرب الأميركي للعرب ببوادر احتمال حل سياسي، أطلق اليهود مقولة اليد الملوثة بالدم اليهودي. وبدأ العرب يقدمون مبرراتهم، وتراجعاتهم أحياناً حتى درجة الرغبة في غسل الأيدي، على طريقة غسل الأموال، لكي يصيروا مقبولين لدى "المنطق" اليهودي - الصهيوني المحتل. ولم يبق إلا أن يقدم العرب الاعتذارات عن مقاومتهم للاحتلال، أو عن اختبائهم في الملاجىء أثناء الغارات المعادية، أو حتى عن بكائهم على قتلاهم. وفي هذه المعمعة سيكون من قبيل المزايدة القبيحة - هكذا يُحكم عليها من قبل العدو والغرب، والأنكى من ذلك من قبل المثقفين العرب المتعاملين مع القضايا الوطنية بالمراسلة وبحسب الموضة - أن يسأل أحد منا عن اليد اليهودية الملوثة بالدم العربي. لم يجرؤ عربي على القول: أنا لا أقبل التحدث مع رجل مثل باراك تنكر في هيئة امرأة، ودخل الى بيروت ليقتل بيده. وليس من المسموح لعربي - في بلده أو أمام المنطق الغربي المتحكم بالإعلام الغربي، أو المنطق العربي المستعبد بالمقولات الغربية والصهيونية - أن يقول إذا تصالحتم معهم على الأسس السياسية، فأنا لا أسامحهم على نهر الدم العربي الذي ما يزال يتلقى روافده حتى الآن في بيروت. لا أعرف كيف يطالبنا "المثقفون" بأن ننسى تلك المجازر التي ارتكبها الصهاينة بحقنا، والتي كان فيها الدم العربي دائماً قابلاً للسفح والهدر ثم للنسيان وأحياناً للتبرير والاعتذار. سيبدو علينا أننا متشنجون، وعبيد لماضينا، لا نعرف كيف نخرج منه، إذا ذكّرنا بالمذابح التي تعرضنا لها والآلام التي كابدناها. فكيف إذا عدنا الى المطالبة بحقنا في الوطن هذه الكلمة التي صارت تثير لديهم القرف والنفور أكثر من الجرب؟ وحتى حين يقوم فنان مثل عادل امام بزيارة لمقابر شهداء قانا، يقال له انه يعمل على بعث الكراهية وعلى ايقاظ الأحقاد، وعرقلة مسيرة السلام، كما لا يليق بفنان أن يفعل. لكن الإسرائيليين يبدون حضاريين حين يطالبون بجثث قتلاهم، وحتى حين يشنون علينا الغارات، ويتسللون لقتل الناس في بيوتهم، وتدمر طائراتهم محطاتنا الكهربائية وجسورنا وبيوتنا ومخيماتنا - أحياناً مقابل مقتل جندي من جنودهم في مواجهة مسلحة مع المقاومة، وفي أغلب الأحيان من دون أن يحتاجوا الى تقديم أي تبرير. إذا كان هناك من يحب أن نعلن أمامه موقفنا - الذي يثيرنا السيد دجاني لإعلانه - والذي كنا نعتبره واضحاً لكثرة ما كررناه، فلا بأس من أن أقول: أنا أفهم السلام. لكنني ضد التطبيع. وهذا ليس فقط لأنني لا أريد أن أتعامل مع العدو التاريخي "لكي نواجه عصراً جديداً"، بل لأنني لا أعرف كيف أتعامل مع هذا العدو. فأنا لا أعرف كيف أتعامل مع القتلة. هؤلاء قتلة. وقتلة فقط. وهؤلاء لم يتعاملوا معنا حتى أولئك الذين يبدون منهم الآن متعاطفين مع السلام إلا بوصفنا أناساً من الدرجة الثانية كان يجب قتلهم، أو أن قتلهم ليس مسألة تستحق الاهتمام أو المناقشة. وحين اكتشفوا أنه من المستحيل قتلنا كلنا، قالوا "سنسمح لهؤلاء الناجين بالبقاء، بإسم السلام، في مجمعات اسمها دول أحياناً، وأحياناً اسمها حكم ذاتي. فتعالوا لنوقف حمام الدم الآن. دعونا نسترح قليلاً. نحن تعبنا من القتل. تعبنا من قتلكم". أول مطلب يطلبه هذا العدو من العرب هو التخلص من الذاكرة. ليس علينا أن نتذكر شيئاً مما جرى لنا، ولا أن نتذكر أنه كانت لنا أوطان. بينما يحق لهم التهام تاريخ فلسطين، بإسم الحق التاريخي الذي يتذكرونه، مثلما التهموا أرضها لتصبح وطنهم الذي وعدهم به ربهم، ذلك الوعد الذي يفاخرون بأنهم لا ينسونه. العربي الذي يتذكر ما جرى يوم أمس متشنج ومتخلق وحاقد وغير حضاري. واليهودي الذي يتذكر الماضي القريب أو البعيد صاحب قضية ومشروع مفهوم ومبرر. قد يستفيد السياسيون من وضع معين للأعداء. وأنا لا أريد الاستفادة. لأن أية محاولة للتفاهم معهم تنطوي على نسيان دمي. وتنطوي على منح الشرعية لكل القتل الذي مورس ضد شعبي طوال هذا القرن الذي مضى. أنا في النهاية أعرف أن هؤلاء قتلة. والمشكلة هي أنني أعرف القتلى جيداً. ولقد عرفت، وبشكل شخصي وقرابي حميم، عشرات ممن قتلوا وهم يحاربون أحياناً. ولكنهم قتلوا في حالات أخرى وهم ينامون مع زوجاتهم، أو وهم يلاعبون أطفالهم، أو يشربون المتة. لا أريد أن أقف عند الملوثين بالسياسة، والذين يكتفون بالقول: كيف أصافح من يحتل أرضي؟ الأمر الذي يتضمن الاستعداد للمصافحة بعد زوال الاحتلال. أنا أريد أن أقول وبالفم المليء: أنا لا أصافح من ما يزال دمي على يده، حتى لو استعدت أرضي منه. ولا أطبّع مع من لا يخجل من دمي الذي على يده، ويقدم هذه اليد ذاتها، لكي يصافحني بها، منطلقاً من أنني أستحق الذبح كلما شاء. أنا لا أعرف كيف أجالس الحشاشين واللصوص والزعران... والقتلة. كيف سأجالسهم لكي نتحدث في الشعر والثقافة، لمجرد أن يرضى عني المصابون بنقص المناعة في ذاكرتهم، أو نقص القيمة في نظرتهم الى أنفسهم، ويعتبروني "حضارياًَ"؟ ولنقلها بصراحة: هذا السلام ينهي مشكلة الذين كانوا منذ بدء "النكبة" يعتبرون أن الصراع هو حول استدرار الشفقة على هؤلاء "اللاجئين المساكين" لأنهم - يا حرام - صاروا بلا بيوت، وصاروا يعيشون في العراء. هؤلاء وجدوا نصف الحل حين حولت الأونروا الخيام الى منازل طينية. ويجدون النصف الثاني من الحل الآن في "التوطين"، وفي شروط أوسلو القابلة للتقلص مثل القماش المغشوش. لماذا؟ لأنهم يخجلون من التحدث عن أن هذا الفلسطيني قد ولد في قرية قرب حيفا أو يافا، ومن حقه أن يعود اليها ويطرد الساكنين في بيته ذاته. وكم كان هؤلاء في حاجة الى واحد مثل ياسر عرفات، يفعل ما فعل، لكي يمنحهم التغطية ويمكّنهم من القول: "خلصنا. ها هم الفلسطينيون يقبلون. حمل نزل عن أكتافنا". ويعترفون للمرة الأولى، والآن فقط، بأن ياسر عرفات يمثل الشعب الفلسطيني كله. فيتبين لنا أن علاقتهم بهذه القضية لم تكن تختلف عن العلاقة بالصلاة عند ذلك الذي وجد حجة في أن لا يصلي لأن الجامع مغلق. الأرض؟ فليأخذها الذين يريدونها. وليدفعوا الثمن الذي يُفرض عليهم. أنا ليست مشكلتي الأرض. أنا مشكلتي الحق. ولذلك أصر على القول ان فلسطين عربية. فليأخذ المتحكمون الفلسطينيون والعرب ما يستطيعونه من الأرض على قلبي أحلى من العسل. وليقدموا التنازلات التي تضطرهم اليها المعطيات السياسية والدولية تعودت عليهم وهم يخسرون ويفرّطون. ولكني، أنا الجالس موجوعاً، مع آلامي وطموحاتي وهويتي. لا أريد أن أنسى أن فلسطين، كلها، عربية. وزيادة على ذلك أريد أن أعلن، في أدبي على الأقل، أن فلسطين هي ذلك الحلم العربي الذي لا أريد، ولا يحق لأحد، التنازل عنه. وانني ما زلت أراها عربية. ولا أريد التنازل عن شبر فيها. وقد أعلن في لحظة شجاعة شعرية أن من يفرّط بذلك هو خائن للحلم العربي وللشرف الإنساني. هل هذا خطاب الخمسينات أو الستينات؟ فليكن خطاب العصر الحجري. هذا ما أؤمن به من أعماق قلبي. ولست أكترث بمعاييركم وتصنيفاتكم. ولذلك أضيف أنني، فوق ذلك كله، وبعد ذلك كله، وحتى لو استعدت فلسطين كلها، سأظل حاقداً عليهم فرداً فرداً من أجل الدماء التي سفكت، والعذابات التي كوبدت طوال القرن الماضي. فليضطهدني السياسي حين أعلن ذلك. وليضطهدني المثقف الذي يرتدي الموضة الحضارية. أنا أفهم مقولة الجلاد، مثقفاً أو عسكرياً أو مدنياً. فقد تعودت، أيضاً، على أن لديه دائماً ظروفاً "موضوعية" للتفريط وللقمع. أما حين يضطهدني مثقف عربي، وبإسم الثقافة والتحضر المتصحر، لقبول "الحقيقة الموضوعية" المتنازلة والمهزومة حتى عن الحد الأدنى من حلمها، وحتى التسامح مع القاتل الذي ما تزال يداه ملوثتين بدمي، وحتى إشاحة الوجه عن الضحايا فيصبح حديثه قبولاً بالأمر الواقع الذي ينطلق منه السياسي ذاته، الذي يتوهم هذا المثقف أنه يناوئه ويعارضه، فإنني أحس بحجم الانهيار الذي أصابنا، وحجم الهزيمة المريضة التي عششت في عقولنا "المثقفة". * كاتب سوري.