أسعد بين يوم وآخر بلقاء أو مكالمة أو مراسلة من بعض الشباب الأفاضل يحملون غالباً في ثناياهم سؤالاً متكرراً مفاده: ماذا تنقدون على الصحوة؟ وصيغة الجمع هنا تشير لي ولبعض الرفاق الذين مررنا بتجربة متشابهة، ونتقارب في كثير من الأفكار. وأود هنا أن أنقل الإجابة عن هذا السؤال من الحيز الخاص والحوار المباشر، إلى الفضاء المفتوح. وسأحاول الإجابة عن السؤال بإشارات سريعة ومقتضبة لتجربة مشتركة مررت بها مع بعض الأصدقاء.. أتمنى أن تكون كافية لتوضيح المقصود. تستطيع أن تعتبرنا أبناء صميمين للحالة الإسلامية المحليّة، عشنا في كنفها، واستلهمنا كل تفاصيلها، وتنسمنا هواء الصحوة بكل زخمه وعنفوانه في أواخر الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين.. معظمنا نشأ في ثنايا المجموعات الحركيّة السائدة في السعودية.. ومازال كثير منا يعتبر نفسه امتداداً لهذه التجربة، غير منفصلٍ عنها. اهتم العديد منا بتحصيل العلوم الشرعية في الفقه والأصول والعقائد، إضافة إلى الاهتمام بمتابعة الوسط الفكري والسياسي المحلي والعربي.. وربما كان هناك اهتمام مكثف بمتابعة تجربة الحركات الإسلامية في العالم العربي والاقتراب من مخزون خبراتها الكثيف والثري.. في منتصف وأواخر تسعينيات القرن العشرين، وبعد تجاوز شوط معقول من القراءات الشرعية والثقافية، بدأت مرحلة التقييم للمسار الفكري والحركي.. وبدأت التساؤلات المشفوعة بتصوّرات جديدة لما يجب أن يكون عليه التيار الإسلامي المحلي. سأحاول أن أرصد لك شيئاً من الهواجس التي كانت تجول بأذهاننا في تلك الفترة، وكان غالبنا إما دون سن العشرين أو تجاوزها بقليل. بدأت تتشكل مجموعة من التساؤلات النقدية عن الحالة الإسلامية المحلية. فمثلاً في الجانب الشرعي.. شعرنا أن ثمة تضييقاً فقهياً واضحاً في مسائل خلافية شائعة، ربما كان السائد المحلي مخالفاً فيها لرأي جمهور الفقهاء.. ورأينا في بعض التجارب كيف جرت محاكم تفتيش لبعض من رجّح خيارات فقهية متسامحة مقارنة بالسائد.. وفي الوقت ذاته كنا نرى كيف يخيّم الصمت تجاه كل الآراء وربما المزايدات التي رجّحت خيارات فقهية متشددة مقارنة بالسائد.. حتى صار (خيار التشدّد) دلالة صدق وورع ولا يستدعي المناقشة والردّ.. أما (خيار التسامح) فهو دلالة تمييع للدين وتذويب للشريعة ومغازلة للخصوم، ويستدعي الإغلاظ في الإنكار! ورأينا كيف لاذ كثير من المتصدرين للشأن الشرعي بالصمت حين كان التيار الجهادي يُنظّر للتطرف، ويرفع سيفه الفكري مردداً: هل من مُبارز! وفي الاتجاه الآخر كيف كان بعض أولئك الصامتين يشنون هجوماً كاسحاً تجاه أي اجتهاداتٍ يميل أصحابها إلى بعض الانفتاح والتسامح (القرضاوي، دبيان الدبيان، بيان التعايش ....الخ). ورأينا كيف أن عدداً من المفكرين والمثقفين الذين وصمهم بعض شيوخنا بالانحراف والضلال، وأنهم (عصابة تروّج لزندقة عصرية)، وأقيمت لهم مشانق (الموازين) كي تحسب مع أنفاسهم مدى صفاء منهجهم وعقيدتهم.. أن عدداً من هؤلاء هم من أكثر المثقفين المهمومين بالدفاع عن الإسلام والانتصار له والرد على خصومه، ومن متصدري المواجهة الفكرية مع مثقفي اليسار وروّاد التجديف تحت راية (البحث العلمي).. وأن كل جريرتهم أنهم لم يتبنوا الإسلام بصيغته السعودية! وفي الجانب الثقافي.. لمسنا حجم التبخيس لقيمة العمل الفكري والثقافي، على الرغم من أنهما مفتاح اندماجنا مع العصر الحديث، وطريقنا لفهم الخريطة الفكرية المحيطة بنا، ومسلكنا الرئيس للمواءمة بين الشريعة والحياة.. هذا التبخيس أنتج بساطة ثقافية مُرعبة. جعلت تياراً إسلامياً عريضاً يحتفي بإنتاجات فكرية أقل ما يمكن أن يُقال عنها إنها سطحية وساذجة، كانت تردّد علينا أن الفلاسفة الغربيين هم مجموعة من اليهود المهمومين بتدمير الإسلام!.. وأن الحداثة تتلخص في سطورٍ رمزيّة كتبها معتوه بعد كأس من الفودكا وأسماها قصيدة نثر! وأن الشيوعية مؤامرة يهودية هدفها نشر الإلحاد! وأن الليبرالية ديانة وثنية تسعى لنقض الإسلام! وأن التيارات القومية عميلة للاستعمار!.. وأن أعداءنا كل أعدائنا يتحالفون ضدنا لتدميرنا على الدوام. كما تحالف الاتحاد السوفييتي مع أمريكا ضدنا في الماضي! وكما تتحالف إيران مع أمريكا اليوم! ويتحالف حزب الله مع إسرائيل لذات السبب! ورأينا كيف يتم التعامل مع الظواهر النقدية الصادقة بارتياب وتشكيك قد يصل لمرحلة الاتهام بالخصومة.. مع ما تشكله الظواهر النقدية من ضرورة؛ لكونها تمثل أهم مفاتيح التطوّر والإصلاح للمفاهيم والتصوّرات الفكرية والشرعية والسياسية عند أي تيار أو حركة، حتى لا تنفرط سبحة الأخطاء، وتتزايد كرة الثلج وهي تتداعى نحو قاع التشدّد والانغلاق. ورأينا كيف كانت تُثار معارك ضروس في الوسط الثقافي من أجل رواية، أو لحلقة من طاش ما طاش، أو لقضية إدارية بسيطة كقرار الدمج، أو لخبر عن هيئة الأمر بالمعروف، أو لمقال كتبه أحد مراهقي الليبرالية في إحدى صحف الدرجة الرابعة.. وفي تلك المعارك رأينا كيف يكون البغي على المُخالف، وسوء الخُلق، والفجور في الخصومة، لمجرد أن يكون الطرف الآخر ليبرالياً أو حتى إسلامياً أكثر انفتاحاً من السائد.. ولك أن تنظر إلى مقدار الكفاءة الثقافية والشرعية لمن يتصدون لمشروعات الاحتساب والإنكار في الإعلام، لتعرف أين تكمن المشكلة! وفي الوقت ذاته رأينا كيف تغيب القضايا الكبرى عن هذا التيار.. قضايا العدالة والحقوق والشورى وحق الأمة في الاختيار والمحاسبة والمراقبة.. وكيف أن هذا التيار بدل أن يشكل جبهة ضاغطة تطالب بالإصلاح.. شكّل جبهة متخصصة في تدبيج قصائد المديح ومدوّنات الثناء، وذلك ساهم دون شك في دحرجة قاطرة المجتمع إلى الوراء سنين عديدة. ورأينا كيف يتم التعامل مع مشكلة التغريب الثقافي والأخلاقي في المجتمع عن طريق التركيز على تدبيج مقالات الشتيمة والعنف الهجائي للشرق والغرب، وبخاصة لليبراليين السعوديين الذين يطالهم أعنف النقد، في ذات الوقت الذي تُدَبّج فيه أعظم المدائح للمُلاّك الحقيقيين لتلك المؤسسات التي يديرها الليبراليون!! وتستمر هذه الوصلات الهجائية لتستهلك كل الجهد الذي كان يجب أن يُبذل ولو بعضه في بناء مؤسسات ثقافية وإعلامية كبيرة ومرنة، تستطيع المنافسة في السوق الإعلامي والثقافي المفتوح، وتهدف إلى إيجاد بدائل إعلامية وثقافية محافظة تستطيع أن توفر للمشاهد قدراً من المتعة والجاذبية التي كان يلقاها في المؤسسات الإعلامية الأخرى، خاصة مع توفر أهم العناصر اللازمة لإنشاء هكذا مؤسّسات، وأقصد بذلك الوفرة المالية المُتاحة للتيار الإسلامي عبر الجمعيات الخيرية والعديد من التجار المُعتادين على تمويل المشروعات الدعوية.. وحتى تلك المؤسسات والقنوات المُحافظة التي تم تأسيسها بعد ذلك، كانت في غالبها إن لم يكن جميعها نِتَاج مُبادرات فردية ربما لاقت في بداياتها بعض الامتعاض من رموز التيار الإسلامي! * * * * طبعاً هذه التساؤلات لم تكن في أذهاننا بمعزلٍ عن إدراك أن تلك الأفعال لا تمثل كل التيار الإسلامي، بل تمثل بعضاً منه، ولكنه (البعض) صاحبُ الصوت المُرتفع، في مقابل البعض الآخر الذي يلوذ بصمتٍ ربما امتزج باستياءٍ مكتومٍ على طريقة أضعف الإيمان.. ولم تكن تلك التساؤلات لتجعلنا نغمط الصحوة حقها وفضلها ونشرها لعلوم الشريعة وحلقات التحفيظ، وسعيها الدؤوب لتدعيم الفضيلة والدفاع عن الأخلاق، وأذرعتها الممتدة للدعوة والعمل الخيري. كل تلك الهواجس والتساؤلات التي تدافعت في أذهان شبابٍ صحويين لم يتجاوزوا الثالثة والعشرين من العمر، كانت مدخلاً لبعض الاستقلال الفكري، والخروج عن ثقافة التواطؤ على المجاملة والصمت تجاه أخطاء الإسلاميين تحت مسوّغ أنهم (ربعنا).. ورفْض التعامل مع المخالفين باعتبارهم خصوماً ومتآمرين وأعداء للإسلام لمجرد اختلافهم في الأفكار أو العقائد.. والتواصل مع الإنتاج الثقافي والفكري العربي والغربي برؤية فاحصة هادئة تَمِيزُ الصواب من الخطأ، بدل أن توضع كل تلك الجهود الفكرية في سلّة المُهملات. ومع ذلك بقي هؤلاء الشباب يشعرون دوماً أنهم أقرب للصحوة وربما امتداد لها .. ولكن مع إيمانٍ بأن هذا القرب الوجداني يجب ألاّ يرتبط بانحياز أيديولوجي صارخ تضيع في ثناياه الحقيقة. * * * * وبعد أن رويت لك شيئاً من هواجس تلك المرحلة، لا أدري إن كان يسوغ لي أن أقوم اليوم بتصنيف هذه المجموعة على الخارطة الفكرية المحليّة.. إذا ساغ لي ذلك فأعتقد أن هذه المجموعة بأفكارها ورؤاها هي في صميم الإطار الإسلامي، ولكن تقع على يسار الحالة الإسلامية المحلية.. أي أنها أكثر انفتاحاً من الناحية الشرعية والثقافية والسياسية من مجمل التيارات التقليدية والحركيّة المحليّة. هي كما أراها مجموعة تلتزم بنصوص الوحيين، وبمرجعية الشريعة، ولا تختلف على الإطلاق في اختياراتها العقائدية مع التيار السائد.. إلاّ أنها تختلف عنه في بعض رؤاها الفقهية والفكرية والسياسية، وفي تعامله مع المنظومات الثقافية والسياسية الأخرى.. وهذا لا يعني أنها لا تشارك التيار السائد مثلاً في موقفه السلبي من الغرب، وفي قلقه من كثافة التغريب الاجتماعي والثقافي الذي يتعرّض له المُجتمع. ولكنها تصوغ هذا الموقف وذاك القلق بطريقة مختلفة، ربما كانت أكثر هدوءاً، وأقل صخباً، وأكثر ولوجاً في التفاصيل وقراءة للدوافع والأسباب. وفي ختام إجابتي سأحاول أن ألخص لك شيئاً من أفكار هذه المجموعة ورؤاها، وإن كان باختصار يشوبه بعض الخلل رغبة في عدم التوسع أكثر.. هذه المجموعة تسعى ل: بذل الجهد في القضايا الكبرى، قضايا العدالة، والحقوق، والمشاركة الشعبية في القرار السياسي، ودفع مشروعات التنمية بالاتجاه الصحيح. الانفتاح الشرعي نظرياً وعملياً على أقوال المذاهب والعلماء المُعتبرين، والتسامح حيال التنوّع الفقهي. حتى لا يكون المجتمع أمام خيارين اثنين، إما الأخذ بالرأي الذي ينزع إلى التشدّد الفقهي، أو الانحراف عن الشريعة. الانفتاح الثقافي، وكبح جماح الاندفاع الغوغائي نحو التسفيه والتجريم والتخوين، وتعميق القراءة الواعية للمنتجات الثقافية والفكرية والفلسفية، لنستطيع التمييز بين الخطأ والصواب، وذلك بهدف الاستفادة من الأفكار الخلاّقة سعياً لتطوير منظومتنا الثقافية كي تساهم في إيجاد حلول حقيقية لأزمات التخلف، والتعليم، والتنمية، والاستبداد، والفساد المالي والإداري، والتدهور الحضاري بوجهيه المادي والقيمي. توجيه الاهتمام على مستوى المؤسسات والحركات وربما الأفراد بالمشروعات العمليّة على جميع المستويات الثقافية والسياسية والإعلامية والاجتماعية والتربوية. إدراك المسار الكوني للعالم، وفهم طبيعة التحوّلات العولمية التي يشهدها المجتمع الدولي، وفي أي اتجاه تسير.. وعندئذٍ بدلاً من الانشغال في المُمانعة والمجابهة التي لم ولن ينتج عنها شيء، بذل الجهد في توظيف هذه التحوّلات وتبيئتها لتتواءم مع منظومتنا الثقافية، بل واستغلالها لتعميق قيمنا وهويتنا وترويج ثقافتنا في العالمين. * * * * ويمكن أن ألخص لك كل تلك الهموم والتصورات والمَطالب بجملة واحدة هي: (نهضة المُجتمعات المسلمة)، أو (النهضة بشرط الإسلامية) كما يعبّر الشيخ عبد العزيز القاسم.. لذا ليس ثمة توصيف أكثر دقة من وصف هذه المجموعة ب (التيار الإسلامي النهضوي).. علماً أن (مركزية النهضة في الخطاب الإسلامي) هي ليست حكراً على هذه المجموعة، بل هي همٌ يشغل كثيراً من العاملين في الإطار الإسلامي داخل السعودية وخارجها. وبالطبع إن النهضة المرجوة ليست فقط بوجهيها السياسي والاقتصادي، بل كذلك بوجوهها الثقافية والاجتماعية والتربوية والأخلاقية أيضاً. أتمنى أن أكون قد استطعت توصيف شيءٍ من أفكار هذه المجموعة وتصوّراتها وهمومها.