يتنصل الكاتب السوري السيد ممدوح عدوان في "الحياة"، 2 آذار/ مارس الجاري من "السياسة" و"السياسيين"، وينكر عليها وعليهم البت في "أساسيات الوجدان". وهو لا يتناول السياسة، ومن يلتحق بها وبأهلها من مثقفين وكتاب عرب أو سوريين، إلا ونسبها إلى "الإنطلاق من مواقع الهزيمة"، أو إلى "التعامل مع القَتَلة" وإلى "التفاهم معهم ... على نسيان دمه" ودم أصدقائه وأحبائه. وإذا التزم الحذر وصف بعض السياسيين السوريين ب"الملوثين بالسياسة"، وأنكر عليهم إزماعهم مصافحة العدو إذا هو جلا عن بعض الأرض المحتلة، بينما ما زال "دم" الكاتب، ودم أهله وشعبه، "على يد" العدو، وما زال "الحق"، أي عروبة فلسطين كلها، مهضوماً أو منقوصاً. وفي مقابلة السياسة، وسعيها في "السلام" و"التطبيع" وقبولها المصافحة ورسم الحدود والإقرار بها، ينصب السيد عدوان أضداد السياسة ونقائضها. وهذه الأضداد والنقائض هي الوجود على الضد من الحدود و"نهر الدم العربي" على الضد من المصالحة والذاكرة المنيعة على الضد من "التهام تاريخ فلسطين" ومن "الحضارة" الكاذبة والخُلُق الإنساني الشريف على الضد من "آداب" مجالسة "القتلة فقط" و"الحشاشين واللصوص والزعران"، والحق والحلم على الضد من الأرض والوجع والألم والطموح و"الشجاعة الشعرية" والهوية على الضد من السياسة المتقلبة و"التنازل" والهزيمة و"التسامح مع القاتل" و"المرض" و"إشاحة الوجه عن الضحايا". وجماع أضداد السياسة هو "أساسيات الوجدان"، على ما مر. ويعرِّف عدوان السياسة، في معرض معارضتها بأضدادها، بما يتنكر للوجدان والحق والأخلاق والهوية، ويَحرِف الإنسانية والإجتماع الإنسي عن سويتهما، ويُسْلمهما إلى الإنهيار والإندثار والموت. وهو يعتذر، ساخراً ومتألماً وخطيباً، عن جهله التعامل مع القتلة: "فأنا لا أعرف كيف أتعامل..."، "أنا لا أعرف كيف أجالس الحشاشين واللصوص والزعران... والقتلة". وإلى هذا الجهل الكثير الأوجه والأنحاء "لا يعرف" الكاتب السوري أشياء أخرى كثيرة يبدو له "العلم" بها فظاعة لا تطاق، و"لا يريد" أشياء كثيرة تبدو له إرادتها، أو النظر فيها، انتهاكاً لأوائل الخلق وبدائهه. وقد يترتب على هذه الضدية الجوهرية أمران، يتردد الواحد في حملهما على "سياستين" بعد ما قرأه في صفة السياسة ونعتها. فإما أن يطلِّق المرء السياسة جملةً، ويَبين منها بينونة البتة، ويجلس إلى وجعه وألمه وحلمه وطموحه ودمه وذاكرته ولا يجوز تخفيفها إلى ذكريات أو إلى ذكرى" أو يتدبر استنتاجَ الوجع والألم والحلم والهوية والوجدان والخلق الشريف سياسةً مناسبة تليق بها. فإذا ارتضى الأمر الأول رضخ لفصل السياسة من الحق، وألقى بمقاليدها بين يدي أعداء الحق من منهزمين وملوثين ومتعاملين ونساة ومصافحين ومستفيدين. وإذا أراد الأمر الآخر وجب عليه استنباط علل سياسية تخالف علل السياسة المعروفة والسائرة وتؤدي، في آن، إلى مِلك "يدين" سياسيتين وفاعلتين، فلا يقال فيه ما قاله أحدهم في فلسفة إيمانويل كانط السياسية وفي صاحبها: "إنه طاهر اليدين ولكنه من غير يدين". والحق أن الشاعر والمسرحي والكاتب السياسي؟ السوري يريد الإنحياز إلى الأمر الآخر، ويرغب في استنباط علل سياسية تتفق ومقالته في الهوية والذاكرة والوجدان. وإذا هو نكص عن تحقيق إرادته ورغبته، وقعد عن إنجاز مترتباتهما، فقد يكون مرد النكوص والقعود إلى استحواذ الغضب والألم والإحباط عليه وإلى استبدادها به. وهو يلمح إلى مثل هذا التعليل في كلامه على "الإحباط وعدم الجدوى"، وفي وصفه مرارة حال المثقف أو الكاتب السوري، وهو المقسور على معانٍ لم يرد واحداً منها: "فهو إن صمت جبان ... وإن قال رأياً متفقاً مع السلطة فهو انتهازي ورخيص، وإن غامر وأعلن اعتراضه على رأي السلطة فهو مزايد وغوغائي أو أنه يلعب دوراً في تمثيلية وبالتنسيق مع السلطة". فإذا استحال عليه تطليق السياسة، ورغب في الجلوس إلى حلمه ودمه وذاكرته، من وجه، ونكص عن تدبُّر سياسة تناسب أفكاره في "صراع الوجود" وحِفْظِ ذاكرة الدم المسفوح وعروبة فلسطين كلها، ولم يطمئن إلى سكوت سياسي يحمله على محمل الخيانة، من وجه ثان - دخل فيما دخل فيه من القول. وعلى هذا ينبغي حمل مقالة السيد عدوان على إرادة التخلص من الأضداد والنقائض التي أوقعته فيها سياسة المفاوضة العربية المصرية والفلسطينية... والسورية، وربما أوقعت غيره فيها" وفي هذا الغير ومنه أصحاب سياسة المفاوضة أنفسهم. ويتخلص الكاتب السوري مما أُوقع فيه تخلصاً خُطابياً على معنى صناعة وجوه القول ومثالات المعاني، وليس على معنى الذم الأدبي من طريق نصب القتل العنصري، والإبادة المحض، ميزاناً لإدراك العدو، ولتناوله على حقيقته الكلية والجامعة. ويترتب على هذا الميزان، الأوحد والمستوفي تعريف العدوين المتحاربين، نتيجة وحيدة بدورها يختصرها السعي في إبادة متبادلة. فإذا لم يقتل "العرب" الإسرائيليين، أو لم يقتل "العربيُ" "اليهوديَ - الصهيوني" - والتجريد أقوى دلالة على الجوهرية - قتل الإسرائيليون أو "اليهود - الصهيونيون" "العرب" وأبادوهم واجتثوا شأفتهم. وهذا متضمن في تعريف الإسرائيليين "قَتَلةً فقط". وهو متضمن في إلحاف الكاتب في وضع الكلام على "الدم"، نهراً وروافد وسيلاً يتدفق معظمها من لبنان، وتكاد تقتصر شواهد الكاتب عليها على شواهد لبنانية. وهذا يضع السياسة، على هذا المنطق أم يكون هذا "المنطق" من مفاعيل "الخرق الثقافي الغربي والاستعماري للعقل العربي وناجماً عنه"، على قول السيد عدوان ناقلاً عن محمد البهي، المصري، وعن الإسلاميين السياسيين؟، على صراع الأنواع، الحيواني والبيولوجي، وعلى الداروينية الإجتماعية والسياسية. واستعارته "صراع الوجود" من اللغة القومية - الإجتماعية، "السورية"، يصدِّق هذا الرأي. ففي حلبة مثل هذه السياسة لا توسط بين العدو والصديق، أو بين القاتل والضحية. ولا توسط في العدو، ولا في الصديق. فالعدو عدو كله، وفي كل أوقاته وإلى قيام الساعة. والصديق، إذا كان ثمة صديق في خليقة على هذا القدر من القسوة، صديق كله، وعلى مر الدهر كذلك وهذه حكماً، فالأصدقاء كلهم قتلوا، والإقامة على صداقتهم توجب بكاءهم وإقامة ذكراهم إلى حين قضاء الأمر المفعول. ويحتاج السيد عدوان إلى تقرير "وقائع" القتل والإبادة والدم، على هذا النحو، وإلى الإشتطاط في تقرير عمومها ودوامها، احتياجه إلى المقدمات الحيوانية والبيولوجية التي يبني علىها السياسة أو السياسيات، سياسياته. فإذا هو لم يقرر وقائعه على النحو الذي يقررها عليه ويصفها لم تستقم مقدماته، أو مقدمته الوحيدة. وإذا لم يُوجب مقدمتَه الداروينية الإجتماعية والسياسية جاز تناول الوقائع على وجه الوصف والتقصي والإلتماس. وهذه، الوصف...، قد تُبدي غير ما تُلزمها صرامة المقدمة إبداءه وإظهاره. فتتسلل إلى مقالة الشاعر السوري وقائع لا يدفعها، ولا ينكرها، ولا سبيل إلى تعليل وقوعها إذا لزم المرء منطق الكاتب الدارويني. فلا يعقل أن تولي العروبة السورية أو الفلسطينية... عليها من توليهم، وهم على القدر الذي يصفه عدوان من التهافت والغباوة والمرض "نقص المناعة"، ليس أقل، إذا صح أن معيار الأمم هو "الإلحاح في الدوام" أو التمسك بالبقاء، على قول بعض الفلاسفة. وإذا كانت الأمم على الوحدة والتماسك اللذين يفترضهما لها الكاتب السوري، بحيال العدو أو في نفسها، لما جاز أن ينتهك سياسيون وكتّاب "مثقفون" وحدة الأمة "العربية" وتماسكها على هويتها وصفتها وذاكرتها وشرفها وقتلاها. وما يرويه المسرحي السوري من فعل حكام بلده في شعب البلد وصحافييه وكتابه يفوق ظنون أكثر الأعداء عداوة. فهو لا يتردد في الكتابة: "لو قال المفاوض السوري الآن: أريد أن آخذ رأي شعبي، لبدا قوله مضحكاً للآخرين، ومفاجئاً للشعب نفسه". ويخلص من هذا إلى إعلان شكه في معرفة "هذا الشعب ... كيف يعبر عن رأيه بعد هذا العمر من الإغفال والتحييد". ولم يذهب إلى هذا لا الناطق باسم وزيرة الخارجية الأميركية، السيد روبين، في نفيه عن الدولة السورية التزامها ميل الرأي العام، ولا ذهب إليه السيد إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية. فما الذي يحمل ساسة أمة على مثل هذه الفعلة؟ وما الذي يحمل أمة على الإنقسام هذا الإنقسامَ العميق، فيناصبها حكامها وبعض مثقفيها عداءً يتهددها باندثار هويتها، بحسب الكاتب الشاعر؟ فإذا لم يغفل المرء عن تكلفة المنازعات الأهلية والداخلية الدموية الباهظة، وهي تفوق تكلفة الحروب "القومية" بكثير على ما لا شك يعلم السيد ممدوح عدوان، ويسكت" وإذا تذكر صنيع "بعض المسؤولين" في هوية شعبهم ورأيه وإبدائه رأيه وفي معرفته بسبل إبداء الرأي، لاجتمع من الأمرين ما لا يصح نسبته إلى العدو "الوجودي"، ولا تهمته به أو الظن فيه القدرة عليه. فلا يمتنع، والحال هذه، السؤال: لماذا تقصِر المقالة العداء على العدو "اليهودي - الصهيوني" إذا كانت فعلته لا تختلف نوعاً عن صنيع أهل السياسة والمسؤولية في أمتهم، وقد تقصِّر كماً عن هذا الصنيع؟ والأرجح أن الجواب عن السؤال، على خلاف السؤال، يمتنع. ولا يمتنع الجواب لنقص في شجاعة الشاعر "الشعرية"، على ما يقول. فهذا ما لا أزعم علماً به. ولكنه يمتنع، أو أزعم امتناعه، قياساً على مقالة الكاتب السوري وأحكامها ونسيجها. فالمقالة تفترض الشعبَ السياسي أمة، وتفترض الأمة كلاً وجميعاً وهوية. وتنفي المقالة من الكل والجميع والهوية الإختلاف والأهواء والمصالح والمراتب والأوقات والسياسة والقوة. فلا تستبقي إلا الموتى القتلى والذاكرة والإسم "أصر على القول إن فلسطين عربية". فلا تخلص المقالة من وصفها تسلط "المسؤولين" وانحراف "السياسيين" إلى وجوب مقاومتهم، وإلى الحق في مقاومتهم ومعارضتهم، على ما ذهب إليه الفكر السياسي والحقوقي الأوروبي في القرن السابع عشر، وتذهب إليه المواثيق الدولية المتحدرة منه. وتَلزم المقالة وصفَ الأمة، واجتماعها السياسي، وصفاً يعفيها من طلب فضائل الإجتماع، من كف التظالم وبسط العدل وحماية الحرية والأمن على النفس والمِلك والتحكيم بالتي هي أحسن. فالأمة، على مذهب الكاتب السوري، عصبية محض أو اجتماع من غير فضيلة سياسية روبيرت فيلمير، وليس عليها أن تسعى في فضائل السياسة. ويشبه هذا، من حيث درى الكاتب أو لم يدر، مدينة السِدِّ، وهي مدينة المحدِّثين الإماميين الفاضلة، التي انتهى إليها الإسكندر المقدوني بعد فتحه مشارق الأرض ومغاربها. فأهل مدينة السد يدفنون موتاهم في أفنية دورهم، ولا شغل لهم إلا الحزن عليهم وتذكرهم وانتظار اللحاق بهم، ولذا فهم لا يعرفون التفاضل ولا التسابق، ولا السياسة ولا السلطان. ولا شك في أن هذه "الميتا -" مدينة على مثال ميتا-فيزيقا هي ما تقصد إليه الدعوة إلى جعل "كلِّ أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء". وتحكيم هذه الدعوة في السياسة وَلَدَ ما خبره معروف في بلاد العجم والعرب، وما يبدو أن حنين السيد ممدوح عدوان إليه قريب من حنين الناقة إلى فصيلها. وهو ليس وحده على هذا الحنين وهذه الحال. فمعه جيش لجب من النخب العربية المتحدرة، خطابةً وأحكاماً، من الناصرية والبعث ومِلله و"الفلسطينية" والحزبية الإسلامية وفرقها و"القومية - الإجتماعية" الشعبوية. وتنزع الملل والنحل هذه إلى إنشاء مثال خطابي يتشارك في نفي المنازعات الداخلية من المجتمعات العربية والإسلامية، ومن تناولها وتدبرها، وينسب الإختلاف إلى فعل الخارج وسيطرته العامة في الداخل الواحد والمجتمع على نفسه. وما تعتقده النخب الثقافية هو نفسه ما تعتقده النخَب السياسية الحاكمة، وهو سند تصريف النخب السياسية الحكمَ وعليه مبنى أعمالها و"نضالاتها". وقد يكون الإشتراك في المعتقد أو اللغة، على وجه أكثر حياداً هو السبب في قصور نقد النخب الثقافية التسلطَ والعسف السياسيين والإجتماعيين. فمن العسير استيلاد الهوية والوجدان والإسم والذاكرة دساتير وشرعات ديموقراطية، أو حريات وأمناً وحقوقاً عامة وخاصة. ومن العسير إنشاء مقالات سياسية وتاريخية تتناول "الأشياء على ما هي" ماكيافيلي، فتبني عليها فعلاً سياسياً يقر بحقائق العالم وتقرّبه هذه الحقائق، إذا أقامت النخب الثقافية والسياسية على الجهل بالمنازعات والإنقسامات الداخلية وعلى التستر عليها، وحملها على أمراض وجراثيم "أميركية" و"صهيونية"، وبين الوقت والآخر "فرنسية". فتخلو المقالات والسياسات من تدبر "حماس" و"الجهاد" و"حزب الله" و"الجماعة" والأكراد والبربر والبورجوازيات والمسيحيين والعمال والمهاجرين والعاطلين عن العمل وأنصار الحقوق و"المتغربنين" والمصافحين باليد وناصبي اللواقط والسواتل والنساء... إلى غيرهم. * كاتب لبناني. والمقالة هذه كتبت قبل قرار صحيفة "تشرين" السورية استئنافها نشر كتابات ممدوح عدوان راجع "الحياة" في 7/3/2000.