السعودية تدين وتستنكر استهداف المستشفى السعودي في مدينة الفاشر الذي أسفر عن مقتل واصابة عدد من الأشخاص    الديوان الملكي: وفاة والدة صاحب السمو الأمير فهد بن سعود بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    أمطار رعدية غزيرة وسيول على عدة مناطق    رواد المنتزهات وسكان أحياء نجران ل«عكاظ»: الكلاب الضالة تهدد حياة أطفالنا    5 بريطانيين يعيشون ارتحال البدو بقطع 500 كم على ظهور الإبل    لماذا تجاهلت الأوسكار أنجلينا وسيلينا من ترشيحات 2025 ؟    مربو المواشي ل«عكاظ»: البيع ب«الكيلو» يمنع التلاعب.. نحتاح «توضيحات»    آل الشيخ من تايلند يدعو العلماء إلى مواجهة الانحراف الفكري والعقدي    الدبلوماسية السعودية.. ودعم الملفات اللبنانية والسورية    وصول الطائرة الاغاثية ال 13 إلى دمشق    توجيه بإجراء تحقيق مستقل في حادث انقطاع الكهرباء في المنطقة الجنوبية    الوقوف في صدارة العالم.. صناعة سعودية بامتياز    «الكهرباء»: استعادة الخدمة الكهربائية في المناطق الجنوبية    دعوة أممية لتحقيق مستقل في جرائم الاحتلال في «جنين»    بمشاركة 15 دولة لتعزيز الجاهزية.. انطلاق تمرين» رماح النصر 2025»    جوجل تطلق «فحص الهوِية» لتعزيز أمان «أندرويد»    نيوم يتغلّب على الطائي بهدف ويعود لصدارة دوري يلو    هاتريك مبابي يقود ريال مدريد للفوز على بلد الوليد    في الجولة ال 17 من دوري روشن.. النصر والأهلي يستضيفان الفتح والرياض    شتانا ريفي    8 مناطق للتخييم في المناطق الربيعية    60 جهة حكومية وخاصة تشارك بمنتدى فرصتي    رئيسة وزراء إيطاليا تصل إلى جدة    10 سنوات من المجد والإنجازات    أدب المهجر    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    ضيوف" برنامج خادم الحرمين" يزورون مجمع طباعة المصحف    رئاسة الحرمين.. إطلاق هوية جديدة تواكب رؤية 2030    تدشن بوابة طلبات سفر الإفطار الرمضانية داخل المسجد الحرام    دراسة: تناول الكثير من اللحوم الحمراء قد يسبب الخرف وتدهور الصحة العقلية    4 أكواب قهوة يومياً تقي من السرطان    مريضة بتناول الطعام واقفة    تحت رعاية خادم الحرمين ونيابة عن ولي العهد.. أمير الرياض يحضر حفل كؤوس الملك عبدالعزيز والملك سلمان    تعليق الدراسة الحضورية في مدارس تعليم عسير اليوم    المالكي يهنئ أمير منطقة الباحة بالتمديد له أميرًا للمنطقة    ترحيل 10948 مخالفا للأنظمة خلال أسبوع    هيئة الهلال الأحمر السعودي بمنطقة الباحة جاهزيتها لمواجهة الحالة المطرية    لماذا تمديد خدماتهم ؟!    ممشى النفود    «البيئة» تدعو الطُلاب للالتزام بالممارسات السليمة    «ليلة صادق الشاعر» تجمع عمالقة الفن في «موسم الرياض»    «هانز زيمر».. إبداع موسيقي وإبهار بصري مدهش    "افتتاح بينالي الفنون الإسلامية 2025 في جدة بعنوان "وما بينهما"    بطولة الأمير عبد العزيز بن سعد للبوميرنغ تنطلق من" التراث للعالمية"    فريق أوكي يتوّج بلقب الجولة الأولى لبطولة العالم للقوارب الكهربائية "E1" في جدة    تحديد موقف ميتروفيتش وسافيتش من لقاء القادسية    الاتحاد يقترب من أوناي هيرنانديز    تمكين المرأة: بين استثمار الأنوثة والمهنية ذات المحتوى    أمير الرياض يعزي في وفاة محمد المنديل    الأمم المتحدة: نحو 30% من اللاجئين السوريين يريدون العودة إلى ديارهم    ما يجري بالمنطقة الأكثر اضطراباً.. !    إنجازات تكنولوجية.. استعادة النطق والبصر    الهروب إلى الأمام والرفاهية العقلية    ضبط (3) مواطنين في ينبع لترويجهم الإمفيتامين والحشيش    انقطاع مفاجئ للكهرباء يعطل الحياة في الجنوب لأكثر من 6 ساعات    مدير تعليم جازان يرفع التهنئة للأمير محمد بن عبد العزيز بمناسبة تمديد خدمته نائبًا لأمير المنطقة    وصول الوفود المشاركة في مؤتمر آسيان الثالث "خير أمة" بمملكة تايلند    الربيعي تحصل على المركز الثاني في مسابقة بيبراس للمعلوماتيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون العرب والانتحار: كتاب محمد جابر الأنصاري . هل كانت الهزيمة القومية حافزاً حقيقياً لانتحار خليل حاوي وآخرين ؟
نشر في الحياة يوم 07 - 08 - 1998

كلّما سعى بعض النقاد العرب الى الكتابة عن الانتحار كظاهرة ثقافية وجدوا أنفسهم أمام بضعة أسماء ما برحت هي نفسها منذ سنوات. ولئن أضيف أخيراً الى قائمة المثقفين العرب المنتحرين اسمان هما رالف رزق الله وأروى صالح فأن المثقفين المنتحرين لا يشكّلون حافزاً للبحث في قضية الانتحار كظاهرة ثقافية عامّة. فالمثقفون العرب المنتحرون إنما هم أفراد أقدموا على الانتحار في ظروف مختلفة كلّ الاختلاف وفي مراحل متباعدة بعض التباعد. أمّا انتحار الباحث اللبناني رالف رزق الله والكاتبة المصرية أروى صالح في فترة واحدة تقريباً فلا يعني أنّهما كانا يعانيان أزمة واحدة وهي كما يسمّيها بإصرار الكاتب محمد جابر الأنصاري "الأزمة القومية". فعالم النفس اللبناني الشاب الذي رافق الحرب الأهليّة وحلّل ظواهرها لم يكن معنيّاً بتلك الأزمة ولا بحال "اللاحرب واللاسلم" بحسب عبارة الأنصاري أيضاً وكذلك أروى صالح الكاتبة المصرية الشابة لم تكن معنية كثيراً بتلك الشؤون العامّة إذ أن اكتئابها دفعها الى حال من الانهيار التام وهو غالباً ما يؤدّي الى الانتحار ان لم يخضع صاحبه للعلاج مثلما يقول علماء النفس.
وإذا عدنا الى خليل حاوي "أشهر المنتحرين" كما يقول عنه الأنصاري لألفينا انتحاره في الثالثة والستين من عمره يختلف عن انتحار الكاتب الأردني تيسير سبول في الرابعة والثلاثين أو عن انتحار الشاعر السوريّ عبد الباسط الصوفي في التاسعة والعشرين من عمره. كلّ انتحار يملك معنى مختلفاً عن الآخر تبعاً لحياة المنتحرين وأزماتهم. ويصعب فعلاً افتراض سبب واحد رئيسيّ وأسباب أخرى هامشية. وما ينطبق على شاعرٍ في حجم خليل حاوي لا ينطبق على شعراء شباب لم يتسنّ لهم أن يعبّروا عن همومهم وأن يرسخوا لغتهم الشعرية وتجاربهم، ويصعب أيضاً اطلاق ما يشبه الرواسم الكليشيهات على انتحارهم وحصره ضمن مبدأ عام ولا سيّما وطني أو قوميّ. فلكلّ منتحر ظروفه النفسية والعصبية والاجتماعية ولكلّ منتحر كذلك قضاياه الكبيرة أو الصغيرة وأسئلته وهواجسه الخاصة.
لم يشكّل انتحار المثقفين العرب إذن ظاهرة يمكن الوقوف عندها كظاهرة عامة. ولعلّ توزّعهم عبر مراحل متباعدة نسبيّاً ساهم في جعل انتحارهم ظاهرة خاصّة وخاصّة جداً. وقلّة عدد المنتحرين انعكست بوضوح على معظم الأبحاث أو المقالات التي تناولتهم إذ عجز أصحابها عن الاستفاضة في موضوع هو من أخطر الموضوعات. وبدا من الصعب فعلاً تناول الانتحار كحركة جماعية وكان لا بدّ من تناول المنتحرين كأفراد في بيئات مختلفة وأزمنة مختلفة. وليس من المفاجىء مثلاً أن يقتصر بحث خليل الشيخ "الانتحار في الأدب العربي" على نصف الكتاب الذي حمل العنوان نفسه، وقد تضمّن النصف الثاني دراسات في جدلية العلاقة بين الأدب والسيرة وهي دراسات لا علاقة لها بالانتحار. أمّا كتاب محمد جابر الأنصاري "انتحار المثقفين العرب" فلم يضمّ سوى مقالات قليلة عن الانتحار فيما طغت عليه قضايا أخرى سياسية وثقافية. تُرى ألم تكن كافية حالات الانتحار التي عرفتها الثقافة العربية ليُفرد لها كتاب أم أنّها فعلاً على ندرتها لا تؤلّف مادّة وافية لتستقلّ في كتاب خاص؟
انتحار المثقفين العرب
عنوان كتاب محمد جابر الأنصاري "انتحار المثقفين العرب"* قد يكون مجرّد عنوان نظراً الى ضحالة المادّة النقدية التي أدرجت تحته وهو في أي حال عنوان لافت ومثير جداً حتى وإن لم تفهِ المقالات عن الانتحار حقّه. عنوان عريض لكتاب هو في الواقع مجموعة مقالات صحافية في معظمها وكتبها صاحبها في مناسبات مختلفة. ولو ظلّ الكتاب كمجموعة مقالات متفرّقة لكان من الممكن القبول به، أمّا أن يحمّله صاحبه هذا العنوان الكبير مدّعياً البحث في شؤون انتحار المثقفين فهذا ما جعل الكتاب دون غايته بل دون المستوى الذي يفترضه البحث في قضايا مماثلة. واللافت أنّ الباحث يتطرّق الى موضوع الانتحار من غير أن يعود الى مرجع علميّ واحد عن الانتحار فهو يكتفي بإطلاق بعض النظريات الأقرب الى الشعارات والمقولات الخطابية أو الإنشائية. وقد يعلم الباحث خير العلم أنّ الخوض في موضوع شائك كالانتحار يتطلّب الكثير من الدقّة والموضوعية والمرجعية. وفي حين يدل العنوان الى انتحار المثقفين العرب يكتفي المؤلف بشاعر واحد منتحر هو خليل حاوي، معتبراً اياه "أشهر المنتحرين". ولئن كان خليل حاوي فعلاً أشهر المنتحرين فهو لا يختصر البقية التي أقدمت على الانتحار ولا يمثّل حالات المنتحرين جميعاً. وكان حريّاً بباحثنا أن ينقّب عن أولئك المنتحرين ولا سيّما المجهولين منهم كالمسرحي التونسي الحبيب المسروقي والباحث اللبناني رالف رزق الله. أمّا أن يعتبر التطبيع الثقافي انتحاراً فذاك ما يحتاج الى بحث مستقل يتخطى حدود "العجالتين" اللتين أدرجهما أيضاً تحت عنوان عريض هو: "التطبيع الثقافي: حوار أم انتحار".
يقرأ الأنصاري ظاهرة الانتحار على ضوء "الهزيمة القومية" وما تركت من آثار سلبية في الحياة العربية الثقافية فيربط مثلاً بين انتحار أروى صالح و"ما يعتمل في حياتنا العربية تحت الرماد"، ويرجع قليلاً الى الوراء وتحديداً الى هزيمة 1967 معتبراً أنّ هذا التاريخ هو مرحلة فاصلة وبعده أضحى الانتحار "فكرة قابلة للطرح" متناسياً أن المثقفين العرب الذين انتحروا إنّما أقدموا على الانتحار قبل هذا التاريخ أو بعده. ولا يكفي انتحار بعض العسكريين والسياسيين خلال تلك الفترة لتكون الهزيمة في مثابة الحافز على الانتحار الثقافي أو الأدبي. ولعلّ أول انتحار أدبيّ لم يتمّ إلا بعد ستّ سنوات على الهزيمة وأقصد انتحار تيسير سبول غداة حرب السادس من تشرين الأوّل أوكتوبر 1973 التي أعادت الى العرب بعض عزّتهم المفقودة. أمّا خليل حاوي فظلّ صامتاً بعد الهزيمة صمتاً طال قرابة ثلاثة عشر عاماً وكان يردّد أنّه استشرف الهزيمة في قصيدته الشهيرة "لعازر 1962" وهكذا عاشها قبل أن تحصل بسنوات. ولا يخفي الأنصاري توقّعه في أن ينتحر المزيد من الشباب في المرحلة الراهنة "مرحلة السلام المستحيل في ظلّ التفوّق الإسرائيلي والضعف العربيّ الشامل". ولا أحد يدري من أين أتى بهذه الخلاصة ما دامت الوقائع لا تشير اليها. تُرى هل الجيل الشاب هو الذي صنع الحرب وهُزِم فيها لينتحر أم أنّه نشأ وسط الهزيمة التي ورثها عن الأجيال السابقة؟ وأيّ جيل يقصد الأنصاري: الجيل المثقف الذي تنتمي اليه أروى صالح أم الجيل اللامنتمي واللامبالي الذي يسود معظم المجتمعات العربية الراهنة؟
ولا أحد يدري أيضاً لماذا يصرّ على هيمنة الأزمة القومية الشاملة على معظم حوادث الانتحار العربية، علماً أنّ الانتحارين الأخيرين أروى صالح ورالف رزق الله لا ينحصران ضمن هذا التأويل ولا سيّما انتحار الكاتب اللبناني الشاب الذي عاش هزيمة أشدّ سوداوية من الهزيمة القومية وأعني هزيمة القضية اللبنانية وسقوطها في هاوية الطائفية والاقتتال الأهليّ واليأس. أما ما يلفت جداً في الكتاب فهو اعتبار المؤلف أنّ الانتحار يقتصر في معظمه على المثقفين وهذه هفوة فادحة فالمثقفون المنتحرون لا يؤلّفون إلا نسبة ضئيلة من المنتحرين عموماً. وليت المؤلف عاد الى الصحف التي تصدر في لبنان مثلاً أو مصر وسواها ليطّلع على واقع الانتحار في حياة الناس العاديين ومعظم هؤلاء لا تعنيهم لا الهزيمة القومية ولا حالة "اللاسلم واللاحرب" ولا التفوّق الإسرائيلي، انهم ينتحرون إمّا لأسباب نفسية وإمّا لأسباب اجتماعية وما أكثرها. ولم يكن مستغرباً أن تزداد نسبة الانتحار في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية وما أحدثت من خراب في البنى النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويسعى الأنصاري الى تحديد حالة الانتحار تحديداً غير علميّ تبعاً لعدم استناده الى أيّ مقولة علمية أو مرجع فإذا الانتحار في نظره "حالة نفسية انسانية بالغة التعقيد ومتشابكة الأبعاد". ويحدّد أسباب انتحار "المبدع المنتحر" في أمرين أساسيين، اضافة الى معاناته لقضيّته المبدأية إذ أن المثقف في نظره ينتحر من أجل القضيّة - يا لهذا الاكتشاف والأمران الأساسيان هما: استحالة الانسجام مع الآخرين أو مع العالم أو حتى مع النفس، عجز أو قصور جنسيّ أو غرامي أو اخفاق مرير في علاقة زوجية. ولم يوضح المؤلف كيف استخلص هذين الأمرين ولا من أين أتى بهما ولم يدعمهما بأي اثبات علميّ. وهو يدرك أن الخوض في مثل هذا التحديد يفترض الماماً عميقاً بما يُسمّى الآن أكاديمياً "علم الانتحار" ويتطلب تعمّقاً أو تخصّصاً في علم النفس وفي علم النفس الاجتماعي. ولتحديد أسباب مماثلة للانتحار لا بدّ من العودة الى نظريتين أصبحتا من النظريات الكلاسيكية وهما نظرية فرويد ونظرية دوركهايم صاحب الكتاب الشهير "الانتحار"، وقد صدر في العام 1897. ولو عاد القارىء الى أي موسوعة في علم النفس لوجد أنّ العلماء ميّزوا بين نوعين من الانتحار: الانتحار كفعل عقليّ يُنجز تبعاً لاعتبارات أخلاقية أو اجتماعية أو دينية أو فلسفية أو شخصية والانتحار كفعلٍ مَرضيّ يحدث خلال تنامي بعض الآفات النفسية كالانهيار العصبيّ والهذيان المزمن والاختلال وسواها أو عبر بروز أزمة وجودية حادّة تأخذ ظاهر اضطراب عدوانيّ ذاتي1
وبعد أن يتأمل في الانتحار تأملاً "فكرياً" طليقاً كما يقول في المقدّمة بغية سير الظاهرة الانتحارية العربيّة المعاصرة، ينصرف المؤلّف الى التطبيق مختاراً الشاعر خليل حاوي نموذجاً للمنتحرين من أجل "القضية".
إلا أنّه لا يتخلّى عن تأملاته حتى حين يمعن في تحليل ظاهرة الشاعر المنتحر. فما ان يستخلص أنّ حاوي "قصر معظم شعره ان لم يكن كلّه على قضايا الانبعاث القومي والحضاري في مواجهة عقم الانحطاط" حتى يمعن مرّة إخرى في تحديد الانتحار وعلى طريقته نفسها. فالانتحار كما يصفه "هو ذروة الحرب الأهلية داخل النفس الإنسانية..."، وهذه الحرب في نظره "تبدأ عندما تشعر النفس أنّ الأهل قد تخلّوا عنها". ويُغرب في تحليله "الأخلاقي" لظاهرة الانتحار العربيّ معتبراً أن مسيرته تبدأ عندما تدخل الجماعة "حالة اللاسلم واللاحرب" علماً أنّ تيسير سبول مثلاً انتحر في مرحلة الحرب وفي أجوائها وكذلك خليل حاوي الذي انتحر عشية احتلال الأعداء الإسرائيليين مدينة بيروت. أمّا أن يرتأي المؤلّف أن حالة "اللاحرب واللاسلم" هي حالة مؤاتية للانتحار فلا أحد يدري من أين أتى بهذه النظرية التي يعاكسها الواقع تماماً. وإن كانت الحالة هذه حافزاً على القلق والاضطراب والخوف على المصير فهل تراها تكون حقاً حافزاً على الانتحار؟
يحلّل الأنصاري الأسباب التي دفعت الشاعر اللبناني الى الانتحار ويختصرها في ثلاثة: سقوط الكلمة، سقوط الأمّة وانحسار الأصالة الجبلية. ولئن استطاع أن يبرّر السببين الأوّلين تبريراً غير منهجي طبعاً فأنّه لم يوفّق في تبريره السبب الثالث. فهو دعم هذا السبب بخبر غير صحيح استنتج منه انحسار "الأصالة الجبلية" التي كانت تعني الكثير لشاعر "نهر الرماد". أما دليل الباحث فهو سرقة بيت حاوي في قريته وقد قام بها بحسبه أحد أبناء القرية وقبل أيامٍ من انتحاره. والصحيح أنّ السرقة ارتكبها بعض الأغراب وقبل عام من انتحاره. وكان روى حاوي لأصدقائه القصة التي آلمته وكيف التقى السارقين واشترى أثاثه المسروق منهم بأبخس الأثمان. أمّا الأصالة الجبليّة فظلّ حاوي وفيّاً لها وكان حتى سنواته الأخيرة يصرّ على مشاركة أهل قريته صلاة الجمعة الحزينة في دير النبي الياس من دون أن يكون تقليدياً في ايمانه المسيحي. ولعلّ هذه الأصالة التي لم تنحسر ولم تمت في وجدانه هي التي جعلته يصمد أمام غائلة الزمن وحيال الخيبات التي حفلت بها حياته. وليت الأنصاري قرأ كتاب الناقد ايليا حاوي عن أخيه المنتحر ففيه من التفاصيل ما يوضح أبعاد انتحاره وبعض أسبابه. وهو أغنى من المرجع اليتيم الذي اعتمده وهو العدد الخاص الذي أصدرته مجلّة "الفكر العربي المعاصر" غداة انتحار الشاعر العدد 26، 1983، وعاد الباحث طبعاً الى بعض القصائد سعياً لاكتشاف بضع علامات ترسّخ نظرته.
قد لا يُلام الأنصاري على تسرّعه في إطلاق الأحكام وفي تحليله الأفقيّ لظاهرة الانتحار عموماً وظاهرة حاوي كنموذج ما دامت "تأملاته" هي مجرّد مقالات نشرت في بعض الدوريّات العربية. ومقالته الأولى عن حاوي كتبها بُعيد انتحاره في العام 1982 فيما كتب مقالته الثانية في الذكرى السادسة لانتحاره. وكان في وسع المؤلف أن يصوغ مقالتيه من جديد جاعلاً اياهما منطلقاً لبحث علميّ عميق. لكنّ الكتاب لم يهدف الى ما يفوق تجميع المقالات من مجلّة وأخرى. ولكي يكتمل الكتاب كان لا بدّ من إدراج مقالات لا تربطها بالانتحار إلا خيوط واهية جداً اضافة الى القضايا الأخرى التي يصفها ب"الراهنة". هكذا مثلاً تطرّق الأنصاري الى انتحار أحد المثقفين اليهود وكذلك الى التطبيع والى أبي حيّان التوحيدي معتبراً احراقه كتبه حادثة انتحارية. وهذه القضايا كانت موضوعات لمقالات أخرى.
وفي مقالته الثانية عن حاوي يورد المؤلّف أو يكرّر بعض ما ارتآه من أسباب لانتحاره ومنها: غياب الأيمان المطلق، خيبة الانبعاث الحضاري، نضوب حيوية الشاعر، المشكلة مع الذات الفرديّة. وان حدّد مشكلة الشاعر مع ذاته الفردية في ما سمّاه "البعد الشخصي" ويتمثل في رهافته وعصبيّته ومزاجيّته وفردانيّته وإخفاقه العاطفيّ فأنّه يؤكّد أنّ شاعر "الخصب والانبعاث" انتحر بعدما "رأى كلّ شيء يحترق من دون أن يتحرّك عصب حيّ في هذه الأمّة". وكان عزا من قَبْل انتحارَ حاوي الى عجز مثاليّته عن "رؤية جيش مناحيم بيغن يقترب من بيروت" من غير أن ينفي الأسباب الأخرى التي باتت معروفة جداً. وليت الأنصاري توقّف قليلاً عند الانتحار الفاشل الذي قام به حاوي قبل عام من انتحاره الفعليّ أي قبل عام من الاجتياح الإسرائيلي. فالانتحار الفاشل هذا لم تنقذه منه إلا إحدى صديقاته وهي تلميذة وفيّة له حين دخلت بيته ورأت حناجر الفاليوم متناثرة وما كان عليها إلا أن تستعين برجال الاسعاف الذين نقلوا الشاعر مرغماً الى المسشفى. وربّما في طوايا هذا الانتحار الفاشل تكمن حقيقة التجربة الصعبة التي خاضها حاوي معانياً كلّ أنواع الآلام وفي طليعتها ألمه الشخصيّ كيلا أقول العصبيّ والنفسيّ. ولم تخطىء الكاتبة ديزي الأمر حين شكّت بعض الشكّ في تعليل انتحاره بالهزائم العربية وتساءلت: "ألم يكن خليل من البشر؟ ألم تكن له حياته الخاصّة؟".
وتقول الأمير أيضاً في سياق شبه بوحيّ: "انتحر خليل حاوي ولم تكن نهايته هي المرّة الأولى التي قرّر فيها أن يترك الحياة، في المرّة السابقة أُنقذ وقيل إنّه تسمّم خطأ ولكنّه اعترف لي أنّه أراد التخلّص من الحياة". وفي كلام الكاتبة العراقية التي كانت من أقرب الناس الى الشاعر ما يدل فعلاً على حقائق أخرى تختلف عن الحقائق التي باتت شبه معمّمة ومستهلكة. تُرى لو لم يُنْقَذ الشاعر رغماً عنه من انتحاره الأول فهل كان الكلام عن بطولته القومية وافتدائه الأمّة العربية أمام جيش العدوّ ليأخذ الحجم الذي أخذه؟
وختاماً لا بدّ من العودة الى كتاب الأنصاري الذي عجز مضمونه عن وفاء عنوانه الكبير والضخم حقّه. فهو ليس الا مجموعة من المقالات التي كان من الممكن قراءتها كمقالات فقط. ولم يكن جمعها في كتاب إلاّ ظلماً للكتاب وعنوانه أوّلاً وللكاتب والمفكر البحرينيّ المعروف بجرأته وعمقه ثانياً وللقارىء العربيّ الباحث عن أسرار الانتحار العربيّ بنهم ثالثاً. ترى هل يكفي الكلام الصحافي عن انتحار خليل حاوي ليكون كلاماً عن انتحار المثقفين العرب؟
1 يمكن مراجعة "موسوعة علم النفس" الصادرة عن دار لاروس في باريس 1991 أو كتاب "فعل الانتحار" الصادر بالفرنسية في باريس 1988 عن دار "هوم إي غروب" أو كتاب "الانتحارات" للباحث جان باشولييه الصادر عن دار كالمان ليفي، باريس 1981.
* صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1998.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.