لا تنافس بين "المسارين" الفلسطينيواللبناني، لكن هناك روزنامة تسيء الصدفة صنعها أحياناً وتفاقمها التصرفات الخاطئة احياناً اخرى. لذلك تتقاطع الأحداث في فلسطين، وفي لبنان، بشكل يشيع المشاعر السلبية ويثير شبهة خاطئة بأن ثمة علاقة سبب ومسبب بين ما يحدث هنا وهناك بتزامن غير مستحب. فعندما وقعت مجزرة قانا، مثلاً، كان المجلس الوطني الفلسطيني منعقداً في جلسة تاريخية لتعديل الميثاق الوطني. بالطبع كان هذا الحدث مبرمجاً قبل فترة من اشتعال حملة "عناقيد الغضب" الاسرائيلية، لكن حصوله في ذلك اليوم ضخّم رمزيته القاتمة... وبتجاوز المصادفات السوداء الأخرى، تبدو تداعيات الحماقة التي ارتكبها رئيس الوزراء الفرنسي وكأنها تضيف فصلاً جديداً الى الروزنامتين المتناقضتين. للأسف، لم يفطن أحد في السلطة الفلسطينية الى ان الجزء الفلسطيني من زيارة ليونيل جوسبان سيبدأ غداة تصريحاته التي افتعلت أزمة. ولو فعل لكان كلف أي مسؤول فلسطيني بإصدار تصريح رسمي يعلن بوضوح عدم الاتفاق مع جوسبان في ما تفوّه به. ولو حصل ذلك لما كان المسؤول الفرنسي غير شيئاً من برنامجه، لأن لكل طرف رأيه وموقفه، ولكانت السلطة الفلسطينية فوتت الفرصة على شباب بيرزيت. وهي بذلك خسرت مرتين، مرة لأنها سكتت عن تصريحاته، وثانية لأن حملة الحجارة اساءت الى هيبتها وكشفت قصوراً أمنياً لديها. المشكلة تكمن في ان السلطة الفلسطينية لم تعد تقيم أي وزن للرأي العام في مجتمعها، بل انها دخلت في نفق انساها قيم المقاومة التي يفترض ان تكون رائدة الايمان بها. فالتصريحات التي ارتكبها جوسبان، كذلك الردود عليها، ليست صراعاً على حب "حزب الله" أو بغضه، وانما هي انكار مكشوف لحق المقاومة. وهو الحق الذي حاربته اسرائيل منذ انشائها حتى الآن، وبالنسبة الى جنوبلبنان مثل "تفاهم نيسان" أول اعتراف ضمني بالمقاومة وبضمان اميركي - فرنسي، بل بتوقيع اسرائيلي. ولا يمكن لأي اعتبارات سياسية صغيرة أو كبيرة، محقة أو باطلة، ان تحول دون ان تكون السلطة الفلسطينية - تحديداً - أول من يدافع عن حق المقاومة. ولا بد ان تجهر بذلك من دون تردد أو خجل. وكما فعل جوسبان، كذلك فعل مسؤولون فلسطينيون، اذ حاول كل ان يصلح الخطأ بعد وقوعه. كرر المسؤول الفرنسي ادانته للاحتلال الاسرائيلي في لبنان ولكن أحداً لم يعد يصدقه. واغدق مسؤولون فلسطينيون في الكلام عن "بديهية" رفضهم لتصريحات جوسبان، ولكن بعد وقوع الواقعة، وبعد ما ايقظتهم حجارة طلاب بيرزيت من السبات. في غضون ذلك كان الاسرائيلي يتفرج مغتبطاً وشامتاً من الأطراف جميعاً، فهو تلقى تملق جوسبان هدية مجانية، واستعد لتوظيف حملة الحجارة في مفهومه الأمني المقيت. وكما ان الاسوأ يتبع السيئ، فلم يكن إقفال جامعة بيرزيت كافياً بل كان يجب ان يدعم بحملة اعتقالات. ويبدو ان الاجهزة الأمنية اخذت بالمقولة العبقرية التي أطلقها الأمين العام للرئاسة الفلسطينية وهي ان الطلاب الذين هاجموا جوسبان "مجموعة تأتمر من الخارج"، أي خارج وأي إمرة ؟. كان في رد فعل الطلاب مقدار كبير من العفوية، المعبرة خصوصاً عن وجدان مجتمعهم بمعزل عن الانتماءات السياسية. لا يمكن ان تستقبل السلطة الفلسطينية جوسبان وتقلده وساماً حتى لو كان ذلك مبرمجاً مسبقاً غداة طعنة معنوية لمشاعر الفلسطينيين وضمائرهم، من دون ان تتوقع رد فعل، الا اذا كانت تعتقد نفسها سلطة "سويسرية". كان من الطبيعي ان يعتذر الرئيس الفلسطيني لضيفه على الحجارة التي أصابت رأسه، فهو يتطلع ايضاً الى مصالح فلسطين مع فرنسا، ولكن كان من الضروري ان يسأله إذا كانت الإصابة نبهته الى خطأه. كان من الطبيعي ايضاً الاكتفاء بإقفال جامعة بيرزيت وعدم تسميم أجواء المجتمع بحملة اعتقالات. اذا كان المقصود بالاعتقالات فرض هيبة القانون، فهذا أمر جيد، لكنه يبدأ بمكافحة الفساد في مؤسسات السلطة قبل ان يستشرس على الشارع.