من يزود الولاياتالمتحدة بالنفط؟ لا أحد سوى عراق صدم حسين. فحسب "معهد البترول الاميركي" ومقره واشنطن، تضاعفت صادرات النفط الخام العراقي العام الماضي، لتصل الى 712 الف برميل يومياً. ولم تكن الولاياتالمتحدة تستورد النفط العراقي قبل 1966. والبلدان الاربعة التي تتصدر لائحة موردي النفط للولايات المتحدة هي المملكة العربية السعودية وفنزويلا وكندا والمكسيك. وعلى رغم انخفاض كمية النفط المستورد العام الماضي فإنها لا تزال تمثل 54 في المئة من النفط الذي تستهلكه الولاياتالمتحدة، وهو احد العوامل التي دفعت بعض منتجي النفط المستقلين الاميركيين الى حض ادارة كلينتون والكونغرس على كبح مبيعات النفط العراقية في اطار برنامج "النفط مقابل الغذاء". وقالت صحيفة "دالاس مورنينغ نيوز" ان بعض هؤلاء المنتجين المستقلين "يعتبر ان عودة العراق كمجهز رئيسي للنفط يمنح صدام حسين اداةً قوية على صعيد السياسة الخارجية". فقد خفض الزعيم العراقي، على سبيل المثال، صادرات النفط بشكل حاد في تشرين الثاني نوفمبر الماضي احتجاجاً على استمرار العقوبات المفروضة من قبل الاممالمتحدة التي تُلقى عليها مسؤولية المعدلات العالية لوفيات الاطفال. ويأتي تركيز الانتباه على هذه العلاقة البعيدة عن الاضواء في وقت تواصل فيه الطائرات الاميركية والبريطانية فرض منطقتي الحظر الجوي فوق العراق، وتطلق بعض الاحيان صواريخ مدمرة على هذا البلد الذي اصابه الخراب اثر فشل احتلاله الوجيز للكويت في 1991 ونتيجة العقوبات الدولية القاسية التي اعقبت ذلك. وحسب تصريح لوفد "الصليب الاحمر الدولي" في بغداد فإن المستشفيات العراقية هي الآن على حافة الانهيار. وافاد احدث تقرير لصندوق "رعاية الطفولة" التابع للامم المتحدة "يونيسيف"، بثته وكالة "فرانس برس"، ان الوفيات وسط الاطفال دون الخامسة في مناطق الوسط والجنوب في العراق الواقعة تحت سيطرة الحكومة ارتفعت بما يزيد على الضعف في ظل العقوبات، من 56 لكل الف طفل قبل 1990 الى 131 لكل الف طفل بحلول 1999. وقالت وزارة الصحة العراقية الاسبوع الماضي ان اكثر من 15 الف عراقي ماتوا - من ضمنهم حوالى 6500 طفل دون الخامسة - بسبب العقوبات الدولية في شهر كانون الاول ديسمبر الماضي، ما يرفع العدد الكلي لضحايا الحظر الى 26،1 مليون شخص منذ 1990. ويستأثر باهتمام العالم مرة اخرى كيف يمكن وقف هذه "العقوبات الاقتصادية الشاملة" التي وصفها طبيب اطفال ورجل دين كاثوليكي اميركي ب "آخر اسلحة الدمار الشامل في القرن العشرين واكثرها فتكاً". ويمكن ان يُعزى هذا الاهتمام الى القرار الصريح الذي اتخذته فرنسا والصين الاسبوع قبل الماضي بدعم معارضة روسيا لتعيين الديبلوماسي السويدي رولف ايكيوس، بتأييد من الولاياتالمتحدة، ليرأس اللجنة الدولية الجديدة للتفتيش على الاسلحة العراقية. وتحاشى المرشحون الرئاسيون الاميركيون، في موقف يتسم بقصر النظر، اي نقاش جدي للسياسة الخارجية، على رغم انه يمكن القول بثقة ان العراق سيكون من بين القضايا التي تتناولها "اكثر القرارات حسماً" للرئىس الاميركي المقبل عندما يتولى منصبه. في الواقع، ابدت واشنطن اخيراً عدم اكتراث ملحوظ ازاء النزاع المستمر على العراق، ويرجع هذا بشكل اساسي الى اعتبارات انتخابية اميركية او عجز الولاياتالمتحدة عن تقديم حل يحفظ ماء الوجه. ولا يحبذ نائب الرئىس آل غور، الذي يُعرف عموماً بمواقفه المتشددة على صعيد قضايا الشرق الاوسط، هزّ القارب العراقي في الوقت الحاضر خشية التأثير على فرصه الانتخابية. وعلى نحو مماثل، تفضل هيلاري رودهام كلينتون، التي تسعى للفوز بمقعد في مجلس الشيوخ عن نيويورك، ابقاء الملف العراقي مغلقاً كي لا تثير الناخبين اليهود الذين يبدون حساسية ازاء مخاوف اسرائيل وخططها. افادت تقارير ان اسرائيل ضاعفت طلبها الحصول على صواريخ "توماهوك" الاميركية كثمن لانسحاب قواتها من مرتفعات الجولان بحجة ان هذه الصواريخ الموجهة ستردع العراق وايران عن مهاجمة اسرائيل. وارتباطاً بهذا الوضع، وعد مندوب الولاياتالمتحدة لدى الاممالمتحدة ريتشارد هولبروك، الذي يعتقد كثيرون انه سيكون وزير الخارجية في ادارة يرأسها غور، بأن يواصل مجلس الامن تحت رئاسته الحالية التي تستمر لمدة شهر التركيز على قضايا افريقية. هذا "الاختطاف" الاميركي لاهتمامات مجلس الامن الاكثر الحاحاً يتماشى تماماً مع تركيز ادارة كلينتون على تأمين تركة لرئيسها يُعتقد في واشنطن ان تحقيقها اسهل منالاً على صعيد قضايا السياسة الخارجية - سلام عربي اسرائيلي، على سبيل المثال - بالمقارنة مع الانجازات الداخلية. واياً كان الامر، فإن كلينتون سيحسن صنعاً اذا فكّر في امكان العثور على حل - ليس بالضرورة بعيد الاحتمال - للكارثة العراقية التي ورثها من الرئيس جورج بوش وينبغي الاّ يقبل بتسليمها الى خلفه في البيت الابيض. واذا امكن للحظة ان يضع جانباً مخاوف غور او السيدة الاولى، فإنه سيفاجأ باكتشاف حجم التأييد الذي تلقاه وجهة نظر رئىس المؤتمر الوطني للاساقفة الكاثوليك، رجل الدين جوزف أ. فيورينزا، الذي قال ان العقوبات الشاملة ضد العراق "كفّت منذ وقت طويل عن ان تكون اداة مقبولة اخلاقياً للديبلوماسية". قد تكون اميركا "الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها" كما تتبجح وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت، لكن هذا لا ينبغي ان يتجلى فقط في مواصلة "استعمالها المتعجرف للقوة"، سواء في العراق او السودان.