قُدّر لأدباء مصر - لأسباب موضوعية - ان يكونوا رواد العالم العربي في دراسة ادبنا القديم، فكان من دأب هؤلاء الأدباء ان يقارنوا بين ادبنا العربي والأدب الاغريقي لشيئين هما: حديث الأقدمين عن الثقافة اليونانية في كتبهم، وتشاطؤ مصر في الأبيض المتوسط مع اليونان. وكم كنتُ أودّ لو ان هؤلاء الأدباء - وعلى رأسهم الفقيد طه حسين - تنبّهوا الى انهم يدرسون أدباً عربياً، وشعراً - على وجه أخص - نشأ في الجزيرة العربية يُسمّى بأدب العصر الجاهلي، فانتقل بأغلب خصائصه الى شعر العصر الأموي، وأدباً عربياً عراقياً يُسمى بالأدب العباسي. وهكذا وجّه اشقاؤنا الادباء المصريون دراساتنا الأدبية صوب الأدب اليوناني توجيهاً بلغ من العمق بحيث اوصى الفقيد طه حسين دارسي الأدب العربي بضرورة ان يتعلّموا اللغة اليونانية القديمة. ولا انفي تأثير الأدب الاغريقي في الادب العربي، فحسبي من هذا التأثير ان ألّف الدكتور احسان عبّاس كتابه "ملامح يونانية في الأدب العربي". ولا انفي ايضاً تأثير الحضارة الفارسية في هذا الأدب، فحسبي من هذا التأثير وحسبُك ما دخل الى لغتنا عن طريق هذا الأدب من مئات الألفاظ الفارسية من مثل: كيمخت، وأسكدار، ونيمرشت، وديوان، واخرى سواها. ونظرة واحدة في كتاب أدي شير "الألفاظ الفارسية المُعرّبة" تؤيد ما اذهب اليه. واذاً لا انفي تأثير هذين الأدبين في ادبنا العربي وان بولغ فيه، ولكنني اريد ان أُنبّه الى بديهية لم يتنبه اليها الباحثون جيداً هي ان هذا الأدب نشأ - أزهى ما نشأ - في بيئتين هما شبه جزيرة العرب والعراق. وإذ يكاد يكون العراق جزءاً من هذه الجزيرة حتى لتجد البلدانيين العرب القدماء يتوسعون برسم حدود الحجاز الى سورية وفلسطين بَلَهْ العراق، فإن احداً من الباحثين لم يكد يُكلّف نفسه ان يسأل عن تأثير حضارة العراق القديم في هذا الأدب او حتى ان يفترض هذا التأثير افتراضاً، والا فإنه لمن العجيب ان يتأثر هذا الأدب بأدبيْ الفرس والاغريق وما يُشبههما ثم لا يتأثر بموطن نشأته التي هي حضارة العراق. واعترف بأنني لم اتنبه الى هذا التأثير حتى حققتُ كتاب "الأمثال المولّدة" لأبي بكر الخوارزمي المتوفى: 383ه، فقد كان لفت نظري فيه قول المولدين العراقيين: "قال الفيلُ للبقّة: لم احس بك اذ وقعت علي فأحس بك اذا طرت؟"، فقد وجدته تلخيصاً للقصة السومرية كما اوردها عالم الآثار العراقي الاستاذ طه باقر في كتابه "مقدمة في أدب العراق القديم" 182، هذه القصة التي تقول: "وقفت مرة بعوضة فوق ظهر فيل وهو يمشي، فقالت له: هل اثقلت عليك يا اخي؟ فان كنت فعلتُ فانني سأنزل عند بلوغنا مورد الماء، فأجابها الفيلُ: من أنت؟ لم احس انك كنت فوق ظهري، ولن اعرف عندما تنزلين". وكان لفت نظري فيه ايضاً قولُ شاعر مولّد من العراقيين: "ان الغريب وان أُعز ذليلُ"، اذ لم اجده يختلف كثيراً عن المثل السومري القائل: "ساكن البلد الغريب مثل العبد". وهل يعني العبدُ شيئاً غير الذلّة؟ واذ انشغلتُ بهذا الموضوع عاودت النظر يومئذ في كتاب المرحوم الاستاذ طه باقر الذي سبق ذكره، معاودة امعان فوجدته ينص في ص 49 على ان كلمة "أدب" في اللغة السومرية تعني انواعاً من الأغاني والترانيم" مما يجعلها قريبة من Literature، ومما يجعلك تسأل وأنت تعود الى مادة "أدب" في المعجمات العربية القديمة: أن كيف سمى العرب الشعر والنثر الفني أدباً؟ وما علاقة مادة "أدب" بما فيها من المأدبة والتأديب وما اليهما مما ينص عليه اصحاب المعاجم بها؟ الا يدعو هذا الى ان نربط بينها في العربية مصطلحاً فنياً يعني Literature وبين معناها في السومرية؟ وما تقوله عن كلمة "أدب" تستطيع ان تقوله عن كلمة "شعر"، اذ يلفت النظر في هذا المقام كلمة "شيرو" السومرية التي تعني - كما نصّ الاستاذ طه باقر نفسه في مقدمة ترجمته لملحمة كلكامش 29 "في أصلها الغناء والانشاد والترنيم". واذ تقرأ "قصة أحيقار الحكيم كاتب سنحاريب ملك آشور ونينوى" التي اعادت نشرها مجلة "عشتار" التي تصدر في كندا، في عددها الاول، بترجمة غريغوريوس بولس بهنام، تجد اشياء تلفت النظر في مدى تأثر الأدب العربي بأدب العراق القديم. وبعيداً عن آراء بعض السريان الآشوريين الذي يُلخصون كل حضارات العالم بحضارتهم تجد في هذه القصة، وهي قصة تقوم على التعاليم والحكمة، شيئين: اولهما انها في طائفة منها تعاليم سومرية انحدرت الى الآشوريين، وليس من دأبي الآن ان اشير الى اصولها. وثانيهما ان العراقيين تأثروا ببعض ما ورد فيها فأشاعوهُ في الأدب العربي. فمن هذا الذي تأثر به أدبنا العربي وثقافتنا قول أحيقار: "يا بني اني حملتُ الملح، ونقلتُ الرصاص، فلم أجد أثقل من الدين…". ولك ان تربط بين هذا القول، وقول العرب المأثور: "لا وجع الا وجع العين، ولا همّ الا همّ الدين". ومنه قول أحيقار: "أرسل الحكيم ولا تُكرّر عليه التوصية…". وهذا القول لا يختلف عن قول الزبير بن عبدالمطّلب لا في قليل ولا في كثير: إذا كنت في حاجةٍ مُرسِلاً فأرسِلْ حكيماً ولا تُوصِهِ ومنه قول أحيقار: "يا بني، الزّبد الذي في يدك خير من الدهن الذي في قدر الآخرين، ونعجة قريبة خيرٌ من بقرة بعيدة، وعصفور في يدك خير من ألف عصفور طائر…". وقد هذّب العربُ هذا القول من فضوله فقالوا: "عصفورٌ في اليد خير من عشرة على الشجرة". ويقول احيقار: "يا بني اذا سمعت كلمة سوء فادفُنها في الأرض عمق سبعة أذرع". ويقول الشاعر العربي محمد بن حازم الباهلي كما لو انه يُعلّل سبب ضرورة دفن كلمة السوء، وعدم التسرّع في نقلها، يقول: مقالةُ السوء الى اهلها/ أسرعُ من منحدرٍ سائل ولستُ ازعم ان الباهلي قد اطلع على ما قال احيقار فعلّله، ولكن من التراث الانساني ما يستحيل الى ثقافة شفوية ونمطٍ من تفكير. ويكفيني في الدلالة على هذا ان طائفة من العرب ما تزال توصي أطفالها اذا سقطت لهم سنٌ من الاسنان اللبنية ان يرموا بها صوب الشمس، وتوصيهم ان يقولوا حين رميها: "خذي مني سن الحمار وأعطيني سنّ الغزال". واذا تجاوزنا النص على الحمار والغزال رأينا ان التوجه نحو الشمس لا نحو الله تعالى هو من بقايا عبادة الإله شمس الذي هو إله الشمس في حضارة العراق القديم. بل انني اظن ان تقليد اسبوع العرس عند العرب، قبل ان يطرأ على تقاليدهم شهر العسل الوافد من اوروبا، قد جاء الينا من عادة عراقية قديمة دلّتنا على قدمها ملحمة كلكامش، فقد مكث أنكيدو مع المرأة التي هيأها له والد الصياد وكلكامش لكي يروّضا من وحشيته، أقول مكث معها ستة ايام وسبع ليال. أردت من هذا الاستطراد ان اقول: ان من التراث الانساني ما يستحيل الى ثقافة شفوية ونمطٍ من تفكير وعادات وتقاليد. ويروي ابو بكر الخوارزمي ان من امثال العباسيين المولدة قولهم: "ليس الجمال بالثياب". وهذا المثل هو معكوس المثل السومري: "العيون تتجه لأحسنهم ملبساً"، ومعكوس وصية احيقار التي اخذها عن الثقافة السومرية: "يا بني بهيُّ الثياب مقبول الكلام، وحقيرها مرفوضُه". ولم يقف هذا المثل في تأثيره عند العرب، وانما تعدّاهم الى الرومان - كما أفادني بذلك صديقي الأديب الجزائري القاص الدكتور ابو العيد دودو - فقالوا كما جاء ذلك في كتاب تعليم البلاغة لكنتيليان: "اللباس يصنع الرجل". وتعدّاهم الى الألمان فقال لو كاوس في "شعر الحكم الألمانية": "الثياب تصنع الناس". ومن اللافت للنظر ان تجد بعض مقاطع ملحمة كلكامش - كما أوردها الأستاذ باقر 33 بلغتها البابلية كاتباً إياها بحروف عربية - من مثل: "حيُّما عيلشْ لا نبو شَمامُو شابليشْ أمَّتُمْ شُوما لا زكْرَة" أقول: من اللافت للنظر ان تجد هذا البيت يمكن ان يُقطَّع عروضياً على ما سيسمّيه العروضيون العرب: "مخلّع البسيط". وهكذا هي الملحمة في جميع مقاطعها لا يختلف عنها المخلّع عند العرب الا في شيء واحد هو انه عندهم يتألف من ست تفعيلات، على حين أنه عند البابليين لا يتقيد بعددٍ من التفعيلات، بسبب ان الشعر البابلي لا يتقيّد بقافية. ولا اريد ان اطيل في مدى تأثير الأدب العراقي القديم في أدبنا والا سردتُ ما اخذه ابن المقفّع في "كليلة ودمنة" من امر الحبلين الأبيض والأسود والفأرة التي تقرضهما، وتفسيره لهما بأنهما رمزان لليل والنهار، اذ هو مأخوذ من احيقار بما يكاد يكون اخذاً واضحاً. لا اريد ذلك، ولو أردتُه لذكرتُ اشياء اخرى لا يتسع لها في العادة صدرُ جريدة يومية، وانما اردتُ ان انبّه الى ان كثيراً من أدبنا العربي القديم لا يمكن ان يُفهم على وجهه من دون النظر الى أدب العراق القديم. * باحث عراقي مقيم في بولندا.