لطالما قاله الكوفيون والبصريون واختلفوا عليه. وشائج اللغة المنصوعة ملفوفة بين فخمنة الحناجر وأوشجة الأصوات العراقية حين ترفع بالضم، وتكسر بالجر، وتنصب فتحًا بيانيًا عراقيًا مبيناً.. ألا يكاد يبين يا بغداد وأنتِ تعلمين أن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ، والشاهد على ذلك الأرصفة والمارة والأضابير على الأرفف التي تروى وفائفها بأقداح مستبكة منداة القراح بعضها للجواهري والسياب، وأخرى للنواب، وعبدالواحد، والملائكة تقسم أن العرق البارد الذي يفوح من جبين العراقيين يخلق نصًا نوويًا بتفاعيل كيميائية محظورة من جماهيرية نخبوية تمتد منذ الأزمنة الأشورية والسومرية كأجام متعرشة حديقة معلقة في بلاد سبع العجائب التي شده منها القوم، أو كعمود دخان بخور نوراني تظنه حين يصعد ويتمايل يضع يده على خصر قصيدة مدلهة مليئة بالشهوة والضراعة. أتعبت رجلك أيها العربي في رحلة الرقيم والدهاق تجوب أرض العراق قبل أن تغيب شمس النهار وهاروت وماروت مازالا يعلمان الناس السحر ببابل. هلّا عجلت وأوقدت لهما من سحر بنانك وأجمت أمامهما نارًا حامية وتمتمت تسجر بها آنًا بعد آن عين كاهن الحي على إحدى المواقد ومآقي القوم على مواقد أخرى ثم صعد البصر للبصرة وتبصر كرومها ستجد من بين فرجاتها النخل يهمس للحنطة والمراكب تحتضن موانئ الخليج، هلّا عقدت لنا موعدًا أيها العربي مع الريح بحضرة أصحاب الدراية والرواية والقصاصين نستمطر نوأهم ونقلب مواجعنا على ظهر (مركب المشحوف) ونحن نعبر الأهوار، هلّا سمعت المواويل على تضاريس دجلة والفرات، أتعبت رجلك أيها العربي تجوب العراق بخطاك الدائلة، هلّا أنخت ركابك لتستريح بالقرب من منزل ابن زريق البغدادي الذي ودع زوجته بهذه اليتيمة الخالدة لنذرف عليها الدمع ونعزيها بفقده: قرّاء الثقافية بعد أن قدمنا واجب العزاء لهذه الماجدة الأصيلة سنقف على قبر عبدالرزاق عبدالواحد ونذكره قبل أن يُسكت الله نأمته ويبقي صوته في الخلود في بطون الأوراق بآخر شهقة سخمة كانت له في بغداد ملأته بالحزن وأترعته بالكرب كان ذلك كله قبل أن يودَّع ويودعُ في اللحد البلقع: وادي الرافدين حضارة وإشعاع ظنوها من عوالم بعيدة! أصبح جليا للعيان قدم حضارة وادي الرافدين وثراء نتاجها الحضاري والأثر الذي انتشر في جميع الحضارات القديمة التي جاءت من بعدها وأن نخص الحضارات القريبة منها التي تأثرت بشكل مباشر من حضارة وادي الرافدين وأثرت في الوقت نفسه بها كحضارة وادي النيل والشام والحضارة الفارسية لا يعني بالضرورة أن الحضارات الأبعد عنها زمنيا وجغرافيا لم تنل قسطًا من هذا الموروث فحضارة مثل حضارة اليونان والرومان انتقل إليها أيضا الكثير من الموروث الحضاري لوادي الرافدين عن طريق علاقات تجارية أو عسكرية أحيانا وهذا ما أكده شاعر الفلوجة الباحث محمد الكبيسي الذي قال: إن عمق حضارة وادي الرافدين حيرت علماء الغرب كثيرًا حتى جعل البعض منهم يعطي تفسيرات عجيبة كالقول بأنها جاءت من عوالم بعيدة عبر الفضاء وذلك لثراء المقومات الحضارية التي نجدها في معظم أساسيات الحياة ومحاولة إيجاد تفسير لكل شيء. إن هذا التنوع من الموروث الحضاري بالتأكيد له أسبقية قد تكون بداياتها مجهولة لكنها على الأقل وصلت إلينا عن طريق السومريين أصحاب أقدم حضارة وأقدم لغة حيث لم يشهد العالم القديم خطًّا سبق الخط المسماري ولا لغة سبقت اللغة السومرية. كما أثبتت التنقيبات الأثرية عن وجود فخار حلف الملون (الألف الخامس ق.م) في سوسه (بلاد عيلام). وأثبتت أيضًا التنقيبات في الطبقات الأولى من سوسه التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ عن وجود نوع من الفخار الجميل الملون الذي يمثل فخار العبيد (4500ق.م) ومع أن بعض الباحثين يرى أن أصل «حضارة عبيد» من سوسه إلا أنه ثبت أن فخار سوسه ما هو إلا مظهر من مظاهر حضارة العراق القديم. وفي مطلع العصر الشبيه الكتابي، عندما كانت الحضارة السومرية في تطور مستمر وجد في سوسه في الطبقات (ب، ج، د) فخار «الوركاء وجمدة نصر», كما عثر على هذا الفخار في تبة سيالك (جنوبطهران) وتبة كيان (قرب نهاوند جنوب همدان) ومناطق أخرى في أنحاء إيران. ومن ناحية أخرى نجد أن الأختام الاسطوانية «العيلامية» قد تأثرت بالأختام السومرية من ناحية الصناعة والمواضيع، وبعد اختراع السومريين للكتابة سنة 3200 ق.م وبعد حوالي 200 سنة ظهر في عيلام خط صوري مشابه للخط العراقي مع بعض الاختلافات البسيطة حيث حوره العيلاميين ليتلاءم مع لهجتهم، وسمي بين المختصين بالخط العيلامي القديم الذي دخلت منه عيلام العصر التاريخي. وقد انتشر الخط المسماري من بلاد الرافدين إلى دول كثيرة فاتخذه العيلاميون والحثيون والميتانيون والحوريون والفرس الأخمينيون واستخدمه الكنعانيون ومن هذا الخط المسماري الذي طوره الكنعانيون إلى حروف هجائية. وعن طريقهم أيضًا انتقل إلى بلاد اليونان الذين اقتبسوه من الكنعانيون فعرفت بلاد اليونان الحروف الهجائية كما يدل الإثبات الجغرافي الأشوري والدلائل الآثارية إلى أن سرجون قد وصل إلى «كفتارا» التي هي بلا شك جزيرة كريت الواردة في التوراة بصيغى كفتور، ولعل ما يؤيد هذه الحقيقة ما عثر عليه من أختام اسطوانية تعود إلى «العصر الأكدي» في جزيرة قبرص. بابل مركز العالم ورصد الأجرام السماوية وأضاف «الكبيسي» واعتبر سكان وادي الرافدين القدامى بابل مركزاً للعالم ثم انتقلت هذه الفكرة إلى بلاد اليونان حيث اعتبروا «جبل اولمبوس» مركزاً للعالم وكذلك الرومان حيث اعتبروا روما مركزاً للعالم. وكتب عادل زيتون بأن اليونانيون استفادوا من تراث الرافدين في ميادين كثيرة منها ميدان الرياضيات في شقيها العملي والنظري. كما تعلَّم اليونانيون من البابليين، ومن ثم الكلدانيين، مبادئ علم الفلك وطرائق رصد الأجرام السماوية وأدواته، والجداول الفلكية والخرائط الجغرافية والتقاويم الفلكية حتى أن التقويم البابلي والكلداني صار نموذجًا للتقاويم الإغريقية والرومانية قبل إدخال التقويم اليوناني. كما أن طاليس الفينيقي وأبو العلم كما لقبه اليونانيون المتأثرون به يعود إلى عائلة فينيقية وهو متأثر إلى حد بعيد بالمعرفة الفلكية البابلية وأنه بتجاربه بين أن هناك نواميس وأسساً وقوانين ثابتة يخضع الكون لها مما شكل خط الانطلاق للبحث العلمي. ويعزو طه باقر أن رياضيي العراق القديم يجمعون بين العلوم الرياضية ولا سيما الجبر والهندسة وهي مرحلة ناضجة في تاريخ العلوم الرياضية تستحق الإعجاب والدهشة والتي كانت سابقة تعزى إلى رياضي الغرب الحديث مثل «ديكارت» و»فرما». قبل «أرخميدس وفيثاغورس واقليدس» وتابع: كما سبق الجبر البابلي في معرفة مبدأ المتواليات الهندسية الذي كان يعزى فيما مضى إلى «ارخميدس» اليوناني من القرن الثالث ق.م.، فضلا عن اكتشافهم لنظرية المثلث القائم أو ما تعرف بنظرية «فيثاغورس» والنظرية الهندسية المنسوبة إلى اقليدس, كما أدخل طاليس الذي توقع الكسوف قبل حصوله الكومون، وهو إشارة إلى ساعة شمسية لقياس الوقت بالظل الذي تسببه، ويقاس بواسطة الانتقال الشمسي والاعتدالين الذي أخذه الإغريق عن البابلييين. الأدب الملحمي حياة موت خلود حكمة كما تجدر الإشارة هنا إلى أن الأدب الملحمي الذي ازدهر في بلاد الرافدين، أثر بدوره على اليونانيين تأثيرًا واسعًا وعميقًا ونقلوه إليهم أيضًا ولعل أبرز مثال على ذلك تأثر الشاعر اليوناني هوميروس (الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد) في ملحمتيه «الإلياذة» و«الأوديسة» بملحمة جلجامش العراقية المشهورة. والتي تعد أقدم الملاحم البطولية في تاريخ الحضارات. وهي تعالج قضايا إنسانية خالدة مثل الحياة والموت والخلود والحكمة والمعرفة والحرية والبطولة. واختتم: كما لعبت الأساطير البابلية القديمة دورًا بالتأثير على أساطير اليونان لا سيما تلك المتعلقة بقصة الطوفان والخلق. هذا فضلاً عن أسطورة عشتار وتموز البابلية التي أثّرت في أسطورة أفروديت وأدونيس اليونانية. بغداد تنافس بيروتوالقاهرة شهدت سنوات السبعينات والثمانينات ازدهارًا لافتًا لواقع صناعة الكتاب في العراق، حتى ظن البعض أن العاصمة بغداد ستصبح منافسًا قويًّا للعاصمة بيروت وكذلك القاهرة. الأستاذ المساعد بجامعة الموصل الناقد الدكتور مازن موفق الخيرو كشف أنه بالنظر ل(دار الشؤون الثقافية العامة للنشر والتوزيع) هذه الدار وحدها أصدرت في النصف الأول من عقد الثمانينات (600) مطبوع سنويًّا، وهي ليست الدار الوحيدة، فهناك (دار المأمون للترجمة والنشر) و(دار الثقافة والنشر الكردية) ناهيك عن حركة النشر الأهلية، والتي كانت تعمل من خلال المكتبات العريقة في بغداد كمكتبة المتنبي والنهضة وغيرهما من المكتبات ما يجعل أنه يمكننا القول إن الحركة النقدية والأدبية في العراق مرت من خلال عدة حقب نجملها بالآتي: الحقبة الأولى 1869- 1908م من ظهور المطبعة والصحافة في العراق، حتى الانقلاب العثماني, ثم الحقبة الثانية 1908م- 1920م وامتدت منذ الانقلاب العثماني حتى إنشاء الدولة العراقية الحديثة فالثالثة والتي امتدت منذ تأسيس الدولة العراقية حتى حركة رشيد عالي الكيلاني وإنشاء الوزارة تلتها الرابعة والمسماة مرحلة حكم الوصي عبد الإله ونوري السعيد. فالخامسة وهي مرحلة تتويج فيصل الثاني حتى قيام الجمهورية العراقية, فالسادسة وهي حقبة الجمهورية الأولى أو عهد عبد الكريم قاسم, تلاها حقبة حكم الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف, وبعدها حقبة الجمهورية الثالثة عهد احمد حسن البكر. وما قبل الحقبة الأخيرة وهي الحقبة الأولى من حكم صدام حسين (حكم حزب البعث العربي الاشتراكي). وأخيرًا الحقبة العاشرة: [1991- 2003] وهي الحقبة الثانية من حكم صدام حسين وفيها زامنت الحركة النقدية والأدبية مرحلة الحصار الاقتصادي حتى انتهاء نظام صدام حسين . وهذا مؤشر على الحقبتين الأولى والثانية، تعدان مرحلة التأسيس السياسي والثقافي، والتي زامنت ظهور الرواد الأوائل في الثقافة والعقل العراقي وشهدت إلى جانب استئثار الأغراض الحكومية وموظفيها بسوق النشر غلبة الإنتاج الصحفي على مجالات التأليف. اشتغالات النقاد العراقيين وأوضح «الخيرو»: يمكن تقسيم النقاد العراقيين على مجموعات بحسب اشتغالاتهم النقدية إلى مؤرخي أدب, وفي طليعتهم عبدالقادر بن عمر البغدادي في كتابه (خزانة الأدب), وحيدر الحلي (العقد المفصل), وعباس العزاوي, (الأدب العربي في العراق وبلاد العجم ), والرصافي في كتبه (الأدب العربي 1921) . وهناك مؤرخو النقد ومنهم حسين مردان, في كتابه (مقالات في النقد 1955), وثابت الألوسي, (اتجاهات نقد الشعر في العراق 1958 1980), وعباس ثابت حمود (الشعر العراقي الحديث في ضوء النقد الأكاديمي.. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن النقاد العراقيون عنوا بعدة اشتغالات أصلت الحركة النقدية وفتحت المجال لمسالك منوعة من المدارس والطرق عززها وجود عدد كبير من أساتذة الجامعات العراقية مثلوا النقاد الأكاديميين الذين مارسوا النقد الأدبي, وهم ملتزمون بالمنهجيات الاكاديمية ومن بينهم علي جواد الطاهر في كتابه «مقدمة في النقد الأدبي» وعلي عباس علوان «تطور الشعر العربي الحديث في العراق 1978» وعدنان العوادي «لغة الشعر في العراق». هؤلاء النقاد يصنفون بحسب اشتغالاتهم لنقاد من اختصاصات علمية أخرى كعباس العزاوي (محام ومؤرخ ونسابة), وعلي الوردي _عالم اجتماع_ في كتابه «اسطورة الادب الرفيع». وهناك نقاد شعراء أمثال السيد حيدر الحلي, والزهاوي, والرصافي, ونازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر والمعاصر, والسياب في مقالاته في مجلة الآداب البيروتية, وعبد الوهاب البياتي في كتابه تجربتي الشعرية 1968, وبلند الحيدري. كما أن هناك نقادا عراقيين يصنفون بحسب الميول لنقاد انطباعيين ونقاد أيديولوجيين. ويصنف أيضًا بحسب المناهج النقدية الاتجاهات النقدية الكلاسيكية لنقد نفسي أظهرته نازك الملائكة في كتابها سيكلوجية الشعر ومقالات أخرى 2002م. وهناك نقاد المنهج الاجتماعي مثلهم داود سلوم في كتابه سيسولوجيا النقد العربي القديم 2002, ونوري حمودي القيسي في كتابه محاولات في دراسة اجتماع الادبي. وأخيرًا هناك النقد الحداثوي والراصد للحركة النقدية العراقية يلحظ أنه بدأ التفاعل العراقي مع النقد الحداثوي بمجموعة من المقالات والبيانات التي نشرها عبد الله إبراهيم وسعيد الغانمي ومحمد صابر عبيد وعواد علي في صحف عراقية ابتداءا من عام 1988, وهي فترة متأخرة. ومن ذلك الحين سعت النقدية العراقية إلى مواكبة الحداثة النقدية عبر أكثر من رافد أهمها المجلات والصحف. أنينُ النواعيرِ الفراتية يستنطق حنين الشعراء أنين الناعور الفراتي فتنة للشعراء تزرع بين سطورهم ذلك الشجن العراقي الموغل في القدم، وكأنه يروي حكاية حقب وقرون من الحراك الإبداعي الذي ينهض ويكبو لينهض من جديد أو حكاية راحلين مضت أحلامهم بهم على أمل عودة لم تتحقق إلا لاضطرار. في هذا المحور الذي نقدمه قبل ملف الشعر الذي سنستهل به العدد القادم يقول الشاعر مكي النزال: أنين أسماه سكنة أعالي الفرات في العراق «حنينًا» وصاروا يجلسون للناعور ليستمعوا إليه وكأنه مسرح منظور مسموع، نصوصه الحكمة وترانيمه الشجى. وبالنظر في معنى تسمية هذه الآلة التي تتدفق حياةً سنجد عمق الغرابة: عِرقٌ ناعورٌ ، وجُرحٌ ناعورٌ : لا يسكن دمُهْ ولا يجفُّ. فهو يئن (أو يحنّ كما يقول أهله)، وهو ينزف أيضًا كما يقول اسمه! وهو متفرد بهذه التسمية في العراق، ففي سوريا يؤنثون اللفظ ليكون (ناعورة) وهي كلمة لا تدل على ذات معنى المذكر، بل هي مجرد آلة لها هذا المسمى, كما يختلف الناعور في مصر وغيرها وله اسم «الساقية». وها هو أبو عبدالله محمد بن خليفة بن الحسن السنبسي الهيتي «515ه» عاشق وقائد يحن لصوت النواعير ولمدينته «هيت» ينشد قائلاً: «النواعير» الماء الهابط على جنان العراق ويضيف «النزال»: لقد أنجبت المدن الهادئة على ضفاف الفرات (مدن النواعير) الرعيل الأول من حملة الفكر والإبداع في حقبة نهضة العراق الحديث، ولم أحدّث أحدهم إلا وكان للناعور في ذكرياته نصيب. حكاية الماء الهابط من الجنة العلوية ليصنع جنات أرضية ساحرة في مدن (عنة) و (راوة) و(حديثة) و(هيت) ونصّب الماء عليها حراسًا يعرفون قدره ويحيطونه بالرعاية لتبقى أرواحهم نضرة كجنائنهم. رجال ونساء انتشروا في العراق والشام، معلمون ومهندسون وضباط وأطباء وشعراء، فنشروا حضارة جذورها آشور ومادتها تاريخ مشرق حفظته صدور أهلها. وتابع: يتميز الناعور العراقي عن غيره في كونه مصنعًا من الخشب – لا الحديد – وهنا يكمن سرّ الشجن والحنين في عزفه الرخيم الذي يمتزج بنغم خرير الماء ليعزف لحنه الساحر. أية سكينة جوار ذلك الحنين المنبعث عن تلامس الرياح والخشب والماء والأرض ونبض الشعراء!. وفي قصيدة للشاعر عبد العزيز حبيب العاني كتبها عام 2002 بعنوان (نواعير الفرات) نحس عمق الشجن الناعوري الذي يؤول لحياة دافقة: وأشار «خيرو» إلى أنه لم يقتصر تأثير الناعور على أماكن تواجده، بل تعداها لأسفل النهر ولقد قال شعراء العامية الدارجة العراقيون الكثير فيه ولعل أشهر ما قيل كان لشاعر عاشق مشهور هو (عريان سيد خلف) يشكو تجاهل حبيبته له: وهو هنا يقول إنه مل تقاطر الدمع على خده وأن الدهر جعله كالناعور لا يفعل شيئًا سوى أن يملأ ويسكب وهي صورة لا تليق بالمفهوم الحقيقي لعمل الناعور الذي يسكب الحياة، لكن لا اعتراض على شاعر عراقي غاضب ومفاهيمه الصورية مهما كانت غريبة، سيما وأنه ليس من أبناء النواعير ولا من المتبتلين حولها. إن روح الناعور المنبعثة من حنين الشعراء تأصلت في ثقافة مدن الفرات وصارت حكايا النواعير جزءًا مهمًا من تراث يرويه الآباء لأبنائهم الماكثين على ضفاف النهر الخالد والآخرين القاطنين في عاصمة الرشيد وغيرها من المدن الحاضنة لمن جاءوها بالروح النقية والعلم النافع والإبداع الثر. وما من مبالغة في القول أن آلافًا من اللوحات تزينت بالنواعير وكأن العراقيين يعلقون الفرات على جدران بيوتهم لينعموا بالرواء الروحي المتجسد في إبداع الرسامين. وها هو ذا التشكيلي العراقي نوري الراوي لم ينس نواعير مدينته الأم – راوة - في لوحاته، فالناعور عنده رمز لحياة الروح الملتفتة للمسجد على ضفاف الفرات، والناعور هو من يمد كل شيء بالحياة, وهو أيضًا ذكرى لم تفارقه حتى فارق الحياة. وقد نتفق مع رؤية من زاوية بعيدة لإحدى لوحاته وكأنه يقول: إن الناعور يسارع في دفق الفرات المتأني لكي يصل غدقه إلى من هم أسفل مجرى النهر! النواعير تعزف الموسيقى أما الموسيقى فلها قصص وحكايات أخرى مع الناعور، فالعازفون يعرفون أن معزوفاتهم لا يمكن أن تنافس عزفه الفريد وأنهم بعزفهم إلى جواره مجرد ناهلين مستلهمين وأن أنغامهم أصداء لسحر صوته المترنم بعطائه الممتد لآلاف السنين. كيف لعازف أن ينافس عملاقًا أسطوريًّا آلته الفرات وأوتاره الماء والرياح؟ لكنهم يتقربون منه باحترام التلميذ الذي يسعد أن يُسمِع أُستاذه. وعوْدًا على بدء فلكاتبكم وهو الشاعر الذي يعود بجذوره لأعالي الفرات، أكثر من بيت من الشعر يذكر فيه الناعور. فلقد قال في قصيدة غزلية: وقال في أخرى: كما قال وهو في منفاه الطوعيّ: وأحب أن أشير ختامًا لقول حسن الحسيني: «لا أدري لماذا تتوقف النواعير عند مدينة الرمادي لتبقى محصورة التواجد في غرب العراق فقط وتختفي في باقي الأماكن», وقال نقلاً عن صديق له: «أعدنا الحياة لناعور مزرعتنا في «جزيرة آلوس» وهو يعمل ويروي الزرع، لكن الغريب أنه صامت وكأنه أبكم! ترى ما سرّ صمته المطبق؟! ومتى تعود عجلات حياتنا للدوران؟».