يعتبر الحرير من أهم مكتشفات الشعب الصيني قديماً، ومبتكرته الحضارية عبر العصور. تزايدت أهمية الحرير التاريخية والاقتصادية والفنية بمرور الزمن حتى غدا الحرير من أهم مواضع التبادل التجاري والتجارة الخارجية العالمية، ومع تزايد هذه الأهمية لتجارته سمي طريق القوافل التجارية التي تنقله من الصين إلى روما باسم "طريق الحرير". إن أهمية هذا الطريق وأثره الكبير في التبادل التجاري والحوار الفكري والتفاعل الحضاري جعل منظمة اليونيسكو تطالب مجتمعات العالم لاستقصاء ومتابعة آثار طريق الحرير عبر أقطار عدة في قارات آسيا وافريقيا وأوروبا لفتح حوار حضاري يسهم في تقارب الشعوب والأمم. لقد كان طريق الحرير في الماضي موضوع بحث علمي ورمزاً لانجاز حضاري وعامل اتصال تاريخي وحضاري بين عالم الشرق والغرب، أما في العصر الحاضر فقد غدا موضوع بحث لحوار فكري وتفاعل حضاري بين أقدم الحضارات الإنسانية العالمية التي نشأت وازدهرت في كل من الصين وكوريا وتركستان وافغانستان وشبه القارة الهندية وإيران وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ومصر واليونان وايطاليا.. إن لاكتشاف طريق الحرير أكثر من قصة أو اسطورة، وتوارثت الأجيال المتعاقبة تلك الاسطورة. وذكر في ما بعد المؤرخون والباحثون هذه القصة أو اسطورة هذا الاكتشاف الذي تم في نحو 2640 ق.م عندما لاحظت الامبراطورة اسي لينغ تشي، زوجة الامبراطور هوانغ في، ان الشرانق تنحل إلى خيوط دقيقة وطويلة في الماء الساخن المغلي، فكانت هذه الملاحظة بداية قصة اكتشاف خيوط الحرير وحسن الافادة منها. ونسب لاحقاً إلى هذه الامبراطورة الفضل في تعليم الصينيين زراعة أشجار التوت وتربية دودة القز على أوراقها. وتشير النصوص القديمة ان الصين عرفت نسيج خيوط الحرير قبل حوالي خمسة آلاف سنة، فاشتهرت بهذه الصناعة ومنها انتقلت أسرار معرفة الحرير إلى مختلف الأقطار المهجورة. وجد في الماضي صعوبة في اجتياز طريق الحرير وذلك بسبب الفتن والاضطرابات التي كان يثيرها أفراد قومية شيو نغتو الهون القديمة في الصين وكانت من أشد الأسباب صعوبة في اجتياز طريق الحرير قديماً مما كان يؤدي إلى خسارة مادية وأزمات اقتصادية لها نتائجها الخطيرة، مما جعل الامبراطور وو وي 140ق.م - 87ق.م من أسرة هان الغربية الملكية يهتم بهذا الموضوع ويرسل مبعوثه إلى أقطار آسيا الوسطى واجراء اتصالات مع دويلة داروتشي القديمة ودوسون في حوض نهر ييلي في شمال جبال تشيان، وقد وصل هذا المبعوث تسانغ تشيان إلى أقطار عدة مجتازاً نحو خمسة آلاف كيلومتر في فترة تزيد عن العشر سنوات استطاع من خلالها ان يتعرف على مناطق مختلفة، مما جعله باكتشافاته بمثابة كولومبو الصين. وبعد عودته إلى بلاده أعد تقريره الرسمي طالب فيه بإقامة العلاقات الودية مع سادة تلك المناطق المختلفة، وهذا ما أسهم في تسهيل عملية مرور القوافل التجارية في طريق الحرير عبر أراضيها. انطلقت هذه القوافل التجارية من تسانفان عاصمة أسرة هان الملكية في طريق الحرير مجتازة الولايات الأربع، فكان هذا الطريق الرئيسي يتفرع إلى طريقين فرعيين جنوبي وشمالي وكانت هذه القوافل تنطلق من بلاد الصين من مدينة تسانفان في طريق الحرير البري عبر ممر اشتهر باسم ممر قانسو. وبعد انهيار حلم أسرة تانغ 618-907 والملكية وضعف سيطرة الحكومة المركزية على شمال غربي الصين وظهور سلطات محلية انفصالية أثارت الفتن في المناطق القريبة وشمال ممر قانسو، ما أدى إلى تراجع فعاليات التبادل التجاري على طريق الحرير البري وازدادت أهمية طريق الحرير البحري في اتصال الصين بأقطار العالم، وهذا ما أسهم في مجيء أفواج الرحالة الملاحين والتجار والمسافرين ومن بين الرحلات المشهورة رحلة ماركو بولو 1254-1323 حين أسهمت مشاهداته في اطلاع الأوروبيين على حضارة الصين وأسرارها الغامضة. كذلك ازدهرت المناطق التي مر بها طريق الحرير الدولي وحدث تفاعل حضاري وصلات إنسانية بين سكان الأقطار المتباعدة جغرافياً وتاريخياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، من هذه المناطق كانت تدمر مدينة القوافل التجارية ومحطة طريق الحرير الرئيسية. تدين تدمر بازدهارها الاقتصادي إلى أهمية موقعها على طريق تجاري أصبح في ما بعد طريق الحرير الدولي الممتد من بلاد الصين شرقاً حتى روما غرباً، وذلك عبر أقطار الشرق القديم، ان موقعها المميز في قلب البادية الشامية وفي منتصف الطريق بين مدن حوض الفرات شرقاً ومدن الساحل السوري غرباً وفتح حوض الفرات للتجارة العالمية والقوافل التجارية جعل طريق الحرير العالمي عبر تدمر هو الطريق الأقصر مسافة والأكثر سهولة والأفضل مروراً وعبوراً وأمناً للقوافل التجارية وأصحابها التجار وعلى ممتلكاتهم المختلفة، وهذا ما جعل الطريق التجاري البري الدولي يتفوق على أهمية طريق الحرير البحري الذي كان يمر عبر البحر الأحمر ويزدهر ويتخلف تبعاً للظروف. وكان طريق الحرير الدولي عبر تدمر قادراً على المنافسة الرابحة والمضمونة على طريق الحرير البحري، فكان بمثابة الشريان الأهم لفعاليات التجارة الدولية حينئذ وأسهم في جعل تدمر تسود التجارة الدولية وطريق الحرير البري وتسهم في تنظيم حركة نقل الحرير وعمليات تجارة الحرير الدولية، فبعدما كانت تدمر في الماضي شبه مقفرة، أصبحت محطة شبه اجبارية للقوافل التجارية المتجهة من الشرق إلى الغرب ومخزناً لبضائعها المختلفة وعاصمة لرجال القبائل العربية وزعماء القوافل. إن شهرة السوريين القدامى في ميادين التجارة الداخلية والخارجية وخبراتهم ورحلاتهم توضح إسهام التجارة في ازدهار تدمر ودورهم المهم في تنشيط فعاليات التجارة العالمية في عصر كانت فيه القوافل التجارية تهتم بكل ما أبدعه الفنانون والصناع من نفائس وتحف وروائع فنية كان يتهافت على اقتنائها الملوك والأمراء وكبار الاغنياء. وجعل مدينتهم مركزاً تجارياً مهماً ومحطة للقوافل التجارية في طريق الحرير البري الدولي. وقد حققت هذه القوافل التجارية لتدمر وللتدمريين مكاسب عدة وبخاصة في ما يتعلق بتوسع فعاليات التدمريين التجارية في الخليج، وخصوصاً في خرقيدونيا ومكاتبهم في خرقس في شمال الخليج وصلاتهم بمراكب الهند وبناء اسطول تدمري في الخليج ووصول فعاليات تدمر الاقتصادية إلى الصين. كذلك تمتع التدمريون بفضلها بنفوذ كبير في مناطق كانت تسيطر عليها الامبراطورية الساسانية في عصر بدت فيه تدمر كأنها سيدة التجارة الدولية وطريق الحرير الدولي كذلك فإن الازدهار الاقتصادي جعل تدمر عاصمة الترف والغنى والرفاه، وهذا ما أسهم في تقدمها العمراني والفني والثقافي والاجتماعي. وهذا ما أوضحته وأكدته الكتابات التدمرية الأثرية والمنحوتات، كذلك فإن بناء معبد بل الضخم عام 32م يعتبر بمثابة نقطة تحول مهمة في تاريخ العمارة التدمرية الدينية والمدينة وان المباني الجميلة في تدمر تجسد ذلك الرفاه والازدهار والفعاليات التي تحدث المؤرخون عندما اطلقوا عليها اسم "تتراديون". أسهمت تدمر في حماية طريق الحرير والقوافل التجارية وأصحابها في مختلف البقاع والأقطار وقدمت خدماتها المختلفة في سبيل آمن طريق الحرير وسلامة القوافل التجارية في ذهابها وايابها، كما أفادت من الرسوم المالية التي كانت تجنيها بموجب نصوص القانون المالي 137م، إلا أنها واجهت أيضاً خطر شابور الأول 241-272 الذي استولى على المنفذ البحري لفعاليات تدمر الاقتصادية في الخليج، ما جعله يصطدم مع أمير تدمر اذينة. كما واجهت خطر اورليان 270-275 الذي قضى على مملكة تدمر في عهد زنوبيا عام 273م. وهكذا قضت الحروب العدوانية على مسيرة الازدهار الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والثقافي في تدمر. والآن تبدو تدمر بأطلالها الخالدة وكأنها تتحدث عن ذلك الازدهار العريق والاشعاع الحضاري يوم كانت تدمر عاصمة لفعاليات اقتصادية وترف اجتماعي.