عبر مسلسل "الكواسر" التلفزيوني يتابع المخرج السوري نجدت أنزور ملامح مشروعه البصري الذي يهدف إلى تقديم رؤية مختلفة عن السائد. بدأ هذا المخرج بتقديم تقنيات سرد جديدة، تعتمد بشكل رئيسي على جماليات الصورة الكادر من جهة، وطاقة التعبير السينوغرافية المرافقة لأداء الممثلين من جهة ثانية، مما صنع حالة تلفزيونية متفردة ومغامرة في آن، ضمن الشرط المتاح للعمل التلفزيوني، خصوصاً من الناحية الاقتصادية. و"الكواسر" مسلسل تلفزيوني كتبه السيناريست هاني السعدي، تابع عبره تقديم ما يسمى تجاوزاً "فانتازيا تاريخية"، مما كرسه كمنتج أساسي لهذا النوع من الأعمال التي تذهب بعيداً عن الانضواء تحت العناوين الحرفية أو الانصياع للشرط المعرفي، فيبدو الانجراف نحو الماضي على رغم اضماره الزمن الكامل، كأنه تخلص من الشرط الموضوعي للكتابة، فيتقدم بنوع من السرد يشابه تماماً حكاية الجدة التي تنعطف بالمسرود حسب مقتضيات المصلحة التي تستطيع تقديرها وتبريرها بنفسها بذرائعية تناسب قدرتها على تقدير امكانات المستمع المعرفية، لذلك تبدو المقاربة واضحة باستغناء السعدي عن المكان والزمان، في إطار العودة إلى ماضٍ ما، مع ناس وجدوا هكذا في أرض ما قد ينتمون إليها أولاً... فيسعى دوماً إلى تقديم حدث يولد حدثاً في إطار حالة عامة تتناقض مع خصوصيتها الافتراضية، مما يضع المشاهد مباشرة أمام أسئلة اضطرارية، في محاولة لخلق مرجعية ذات صدقية لأن التلفزيون يختلف عن المسرح والسينما، كونه أداة تقديم المعلومة، وبالتالي فإن شرط التماسك المعرفي يبدو ضرورياً، إذ لا وجود لجدة يستطيع أن يسألها المشاهد مباشرة وأن تبرر له بذرائعية دافئة لامعقولية المسرود. لكن الأعمال الفنية التي تحتاج إلى تبرير بأداة أخرى خارجة عن العمل الفني ذاته، فإنها تبدو كأعمال احتاجت إلى الكثير من الدراية والمعرفة الواسعة، حتى لا تتحول العلاقة بين الدراما التلفزيونية والمشاهد إلى ما يشبه العلاقة بين الجدة والأطفال الذين يستمعون إليها بتسليم واعجاب، ولكن المفارقة تبدو واضحة بين ما تقدمها الجدة ونتائجه وما يقدمه الكاتب التلفزيوني ونتائجه، ومن هنا أيضاً يبدو افتراق واضح بين النص والسرد البصري للعمل، حيث تبدو الصورة سباقة، تحاول بمهارة واضحة تقديم عمل ممتع وجميل ومجدد، وذلك عبر التركيب المتكامل للأدوات المتاحة، من ديكور وملابس وإضاءة وضبط اللون في الكادر وحركة الكاميرا والايقاع المونتاجي عدا المكياج الذي يبدو كعامل مناقض للأدوات الأخرى ومرافق تماماً للنص في اصطلاحيته المرتجلة خصوصاً مكياج بطلة العمل سلافة. يذهب هاني السعدي في "كواسر" إلى زمن افتراضي، بدائي اجتماعياً، كشرط فني، ليقدم لنا حياة القبيلة بمعناها الأول، ضمن مفاهيم اخلاقية ايديولوجية معاصرة بحيث تتناقض قدرته الإنشائية مع أبسط معارف علم الاجتماع والتاريخ من جهة، ومع مفهوم التلفزيون من جهة أخرى، تاركاً لتسمية "فانتازيا تاريخية" مهمة تبرير حقه بالانشاء الكيفي للدراما تاريخياً واجتماعياً وأدبياً. أما المشاهد فعليه أن يتدبر أجوبة على أسئلة يبدو ان لا مناص من سؤالها... حين يرى على الشاشة قبائل "تنطبق عليها التعاريف العلمية الدقيقة أو المقولات المجازية، بحيث يحس بتناقضها مع ذاتها على رغم قبوله الشرط الفني بتغيب الزمان والمكان، لكنه لا يستطيع تغييب أسئلة تتعلق بطبائع العيش وغرائزه، بدءاً من تسمية القبائل هذه التسمية التي تتناقض مع مفهوم القبيلة ذاته، وتعتمد على قرابة الدم. فالقبيلة تتكنى بجدها الأول وليس بآخر زعيم فيها، ولا تتكنى بصفات مديحة على سبيل التمييز الدرامي، لذلك فإن تسمية "جوارح" و"كواسر"، تأتي من قبيل الارتجال بسبب عدم دقة المعرفة بالقبيلة كتاريخ واجتماع، وإلا ماذا يضير الفانتازيا في حال تسميتها منسوبة إلى جد مفترض... وقس على ذلك. فمن مفهوم القبيلة التي تعتمد على قرابة الدم في اجتماعها وعصبيتها، نراها في العمل مدينة صغيرة ثابتة في المكان، يحل فيها من ينسجم مع نظمها إلى درجة أن أرملة ابن رئيس القبيلة تتزوج بمباركة الجميع من رجل يعيش معهم، ومع ذلك لا أحد يعرفه أو يعرف عنه شيئاً، أما القبيلة المقابلة أي "الكواسر" فإنهم مجموعة من قطاع الطرق يجتمعون بشكل إرادي ليؤسسوا قبيلة تعيش على السلب والنهب الذي لا تعرف به القبائل الأخرى الايجابية على رغم ان القبائل لا تعمل لا في الزراعة ولا في الرعي، وإنما في التدرب على السلاح من أجل الدفاع عن حياتها، حيث يظهر مفهوم السلطة فنتازياً بشكل حقيقي فزعيما القبيلتين الجوارح والكواسر لا يمتلكان من أدوات السلطة إلا الاصطلاح الدرامي، فهما بلا انجاز ولا قوة ولا حكمة، فالأول ابن الوهاج يلعب به مستشاره ابن الرومية يسخر منه ومن ولده الوحيد في كثير من الأحيان والآخر شقيف الذي لا تميزه إلا قوته الهائلة وقوسته إلى درجة أنه يبدو معزولاً تماماً بسبب كره القبيلة له، ومع ذلك هما الزعيمان. هكذا بلا سبب، إلى درجة فقدان الصفة الأكثر التصاقاً بالسلطة القبلية وهي كثرة الزوجات والأولاد. ولكن نص "الكواسر" يقدم لنا نموذجاً سباقاً في الوعي القبلي لتنظيم النسل، فالأسر تمتلك ولداً أو ولدين على الأكثر، ونسف الكاتب ببساطة الركن الأساسي في تكوين السلطة القبلية لا بل التكوين القبلي ذاته. وبالانتقال إلى حديث الأموال والجواهر والنفائس والصراع الدائم عليها كي يتسنى للكاتب صياغة بعض المعارض وبعض الدسائس، إلى درجة ان المشاهد يعتقد أن هناك قبيلة سوق الصاغة، وان هناك سوبرماركت سوف يقايض أبناء القبائل الجواهر والنفائس المنهوبة بحاجاتهم الاستهلاكية، هكذا ببساطة يفترض الكاتب أن المال ذهب وجواهر ولم ينتبه أبداً إلى أن قيمة المال تأتي من قيمته الشرائية، ولا أدري إذا كان الكاتب سمع بأن النقود العربية الأولى سكت في العهد الأموي، لأنه افترض وبشكل حاسم ان القبائل عربية أو تعيش بين العرب، وهذا يقودنا بشكل أو بآخر إلى سؤال عن العرب كمفهوم طبعاً في زمن القبيلة الذي افترضه وفي الاسقاط المعاصر الذي قدمه. هل هم أصحاب دماء خاصة تدفع بهم إلى التصرف الصحيح، مثل خالد العربي أو الكاسر ليث، وعكسهم شقيف الذي لا يحمل دماء عربية مما يجعله النموذج السلبي في العمل، أم ان العرب بشر عاديون يمتلكون مثل باقي الشعوب قيماً اخلاقية واجتماعية خيرة... يتناقلونها مثل كل الاجتماعات البشرية بالتربية والتقاليد والأعراف وحتى بالقوانين المكتوبة، ولكن المؤلف أصر على تفسير الأمر بطريقة يمكن مقاربتها بالعنصرية، حين جعل الكاسر ابن شقيف بالتبني يشعر بتميزه بناء على إحساس مبهم ومعاكس لتربيته بأنه ينتمي إلى هناك، بحيث لا يجد المشاهد تفسيراً إلا أن يقول هذا حنين الدماء على رغم ان التربية كمفهوم اجتماعي وعلى الصعيدين الفردي والجماعي هي المسؤولة عن صناعة وصياغة ملامح الشخصية وتقود حياتها. وعلى ذكر الدماء، فإن المؤلف صنع من بثينة أرملة ابن زعيم القبيلة التي تهجس بالحرية لأنها كانت في السابق أمة وتحررت مما يؤهلها كي تكون النموذج الأجمل في العمل بسبب عشقها للحرية كقيمة انسانية إلا أنه جعل منها بسبب دمائها الملونة بالعبودية السبب الرئيسي في كل المشاكل التي تتعرض لها القبيلة المستقرة نظراً لقدرتها الفطرية على حبك المكائد والدسائس الخسيسة إلى درجة أنه قدمها ككائن لا يستحق الحرية لأنها تحمل في عروقها دماء العبيد ضارباً عرض الحائط القيمة الأكثر احتراماً لدى العرب... محولاً التوق إلى الحرية إلى نوع من العبث، مكرساً الفصل العضوي بين العبيد والأحرار ليس في واقع القبيلة وإنما في الرسالة الفنية للعمل، عندما صورها ككائن شديد النذالة يحول ما يقدم إليه من خير إلى خناجر يسددها إلى ظهور من أحسن إليه وكان الأصح أن تستمر في عبوديتها كي يستمر الصحيح في سيرورته. عبر هذا المنظور الحكائي قدم المؤلف شخوصه وأحداثه وصراعه وحتى قيمه، فبدا السرد والاستطراد فيه هو الغاية الأساسية للكتابة من دون الالتفات إلى مفهوم التلفزيون التي يعتبر المصدر الأساسي للمعلومة في عصرنا، وبالتالي تبدو صدقيتها دليلاً ليس على الحب والنوايا الحسنة فحسب، بل على المعرفة الشاملة والدقيقة لأدوات صياغتها. لأن المعلومة بصفتها العلمية الجافة أو بصفتها الفنية الجميلة، هي لب التجربة البشرية ومصدر دهشتها، وبالتالي فإن إهمالها أو تقديمها منقوصة أو غير دقيقة أو مرتجلة قد يساهم في صياغة وهي قاصر، لا يستطيع التعامل مع الواقع المعقد في المشهد المعاصر، ولذلك تبدو الاسقاطات المعاصرة التي يصر عليها كتّاب الفانتازيا التاريخية اسقاطات بسيطة ومسطحة وغير دقيقة... وحتى ساذجة.