سلِم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على نحو يثير الاستغراب، خلال زيارته الاخيرة الى واشنطن وفي لقاءات عدة مع الصحافة والاعلام، من توجيه اسئلة استفزازية اليه حول الوضع المؤسف للديموقراطية في فلسطين او الاصلاح الموعود لمؤسسات الحكم الفلسطينية. ومن المستبعد ايضاً ان تكون هذه المواضيع اُثيرت في اجتماعاته مع الرئيس بيل كلينتون او وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت. والشىء المحيّر بالنسبة الى معظم المراقبين المعنيين بالشأن الفلسطيني في واشنطن هو عدم تحرك الولاياتالمتحدة او المجتمع الدولي بقوة لدعم الديموقراطية في فلسطين التي كان الكثير من الفلسطينيين وغيرهم يرون ان آفاقها ستكون واعدة حالما يشرع الفلسطينيون باستعادة ارضهم. لكن ما يفوق ذلك اهمية في الوقت الحاضر هو اخفاق الحكومتين الاميركية والاسرائيلية في ادراك العلاقة المباشرة بين الديموقراطية في المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية وعملية السلام. فكلاهما يمتاز بقصر النظر اذ يركز اهتمامه على قضايا الامن كما لو كانت المسألة الاهم. وقال الباحث ديفيد شينكر: "يبدو ان المسؤولين الاسرائيليين يفضلون التعامل مع عرفات اكثر من التعامل مع المجلس التشريعي الفلسطيني المجهول او الذي يصعب التنبؤ بموقفه"، مشيراً الى ان الاسرائيليين يعتبرون عرفات "احسن ضامن لأمنهم". شينكر هو مؤلف دراسة متميزة تحمل عنوان "الديموقراطية والحكم في فلسطين: تقويم للمجلس التشريعي" اصدرها الاسبوع ما قبل الماضي "معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى"، احد مراكز الابحاث النافذة. وتمثل هذه الدراسة الموثقة ادانة قوية للسياسات الاميركية والاسرائيلية التي تعطي الديموقراطية في فلسطين موقعاً متدنياً في جدول اولوياتها. كانت الدراسة قيد الطبع عندما تحدث محمد دحلان، رئىس قوات الامن الوقائي الفلسطيني في غزة، في اجتماع مغلق في المعهد خلال زيارة عرفات الى واشنطن. السجل الاميركي على هذا الصعيد لا يستحق التثمين، على رغم المساعدة المالية التي تبلغ 36 مليون دولار المقدمة الى المجلس التشريعي الفلسطيني. فالرئيس كلينتون لم يشر الى الديموقراطية سوى مرة واحدة خلال زيارته التاريخية الى غزة في كانون الاول ديسمبر 1998. وفي 1996، رداً على سؤال عما اذا كانت الديموقراطية شرطاً اساسياً للسلام في الشرق الاوسط، قال السفير الاميركي في اسرائيل مارتن انديك ان الولاياتالمتحدة تقبل البلدان العربية "كما هي عليه". كما انتقد خليل الشقاقي، منظم استطلاعات الرأي الفلسطيني المعروف ومدير "مركز الابحاث والدراسات الفلسطينية"، عدم قيام الولاياتالمتحدة او المجتمع الدولي عموماً ب "حث" الزعيم الفلسطيني في ما يتعلق بقضية الديموقراطية. وقال في كلمة القاها في "مركز تحليل السياسات المتعلقة بفلسطين" سي بي أي بي في واشنطن الاسبوع ما قبل الماضي ان الحكومة الاميركية لم تدع للديموقراطية وسط القيادة الفلسطينية في السابق، وشكك في احتمال ان تغيّر موقفها لانها، حسب رأيه، لا ترى ان "الديموقراطية ضرورية لعملية السلام او لرفاه الفلسطينيين". وقال، الذي سيغادر مركزه الموجود في نابلس ليفتح مركزاً آخر في رام الله، حيث توجد مكاتب عدة للسلطة الفلسطينية، ان "عرفات لا يعتقد ان الشعب الفلسطيني بحاجة الى اصلاحات ويرى ان كل شىء على ما يرام". واعتبر شينكر ان الحياة السياسية في فلسطين تقف اليوم "على مفترق طرق بين الديموقراطية والديكتاتورية". والقى المسؤولية عن فشل المجلس التشريعي الفلسطيني في انتزاع دور "ذي معنى ومهم" في ميدان السياسة على عرفات لانه تجاهل "من دون عقاب" المجلس وتشريعاته. وجادل بان المجلس اصبح تبعاً لذلك مؤسسة "هامشية"، وهو تطور "لا يُنذر بخير لمستقبل الحكم الصالح في السلطة الفلسطينية". وفي الوقت الذي أقر فيه شينكر بأن السلام الاسرائيلي - الفلسطيني سيستند على المدى القصير على معاهدات، فان هذه المعاهدات حسب اعتقاده، لن تتمكن على الارجح من إدامة السلام على المدى البعيد. وقال ان "سلاماً دائماً بين الاسرائيليين والفلسطينيين سيعتمد، اكثر من اي شىء آخر، على وجود حكومة فلسطينية ديموقراطية شفافة وخاضعة للمساءلة. فانظمة الحكم الديموقراطية تؤمن جيرة افضل". ولم يبد الشقاقي بدوره متفائلاً كثيراً بشأن الخطوات الجزئية التي اتخذتها السلطة الفلسطينية اخيراً بتبني القيام باصلاح مؤسساتي في اعقاب ضغوط من جانب بلدان ومؤسسات مالية عالمية. وشدد على ما يمكن ان يوصف بانه حالة شاذة في الحياة السياسية الفلسطينية، تتمثل في ان عرفات يعتبر ان قاعدته الانتخابية تتألف من الاوروبيين والاميركيين وليس بالضرورة من الفلسطينيين الذين يعتقد ان اوضاعهم جيدة ولا يطالبون باصلاحات. تبعاً لذلك، قد لا يمضي عرفات قدماً باصلاحاته المعلنة الاّ لاسترضاء "قاعدته الانتخابية" بأمل ان يكون الثمن الذي يحصل عليه هو الاعتراف بدولة فلسطينية عندما يتخذ هذا القرار بشكل احادي الجانب في وقت لاحق السنة الجارية في حال تعثر المفاوضات. وبطبيعة الحال سيتوقع عرفات دعماً مالياً لدولته الناشئة اذا احسن استخدام ورقة الاصلاح في الاشهر المقبلة. بايجاز كلي، يرى الشقاقي انه حتى اذا كان عرفات غير جدي بشأن الاصلاح لانه، على سبيل المثال، عيّن نفسه رئيساً لاحدى لجان الاصلاح، فان الاصلاحات المتصورة ستكون على رغم ذلك "مهمة". وهو يستند في رأيه على ان هذه الهيئات المشرفة، حالما تنهض وتبدأ العمل، ستخدم الفلسطينيين بشكل جيد في ظل نظام جديد. الوقت، كما يُقال مرة اخرى للفلسطينيين، ربما يكون لصالحهم. * صحافي عربي مقيم في واشنطن.