كانت بداية هذه الحروف تحوم حول الترفيه ، ولأن المفاهيم المتعددة للترفيه لم تكتمل لهيئة مستحدثة ، وقد ذهب الناس إلى مناحي متنوعة لصناعة الترفيه ، ذهبوا في كل الجهات وكل الأفعال الثقافية ، الترفية والسياحية والسينما والمسرح وأندية للضحك ومجلات ساخرة ، حدث هذا في المجتمع الذي يرى أنه مسجون ، وموضوع داخل حياة روتينية ، فرضتها أنماط وسلوكيات اجتماعية ، تحرم أو تجرم أي مناشط ترفيهية ، تجبر الإنسان على الانغلاق في حياته ، وتدفعه رويدا رويدا نحو الاكتئاب ، فلا بد إذن من الإبقاء على فعل القراءة ، لتهذب الأرواح كفعل ثقافي ترفيهي ، وننتظر حتى تنضج لنا ملامح رؤية الترفيه . وسبحان مغير الأحوال ، فقد كانت ( صنعاء) بين يدي ، الإصدار الكتابي للشاعر والباحث المتميز على الأمير ، فخطرت فكرة أن نستبدل الكتابة عن الترفيه بالقراءة في كتاب ، وأردت أن ندلف معاً نترفه بمتعة بين سطور حروفه المدهشة ، والواقع أن إصدار الصديق علي الأمير عن نادي الرياض الأدبي ، توجه به إلى كل سعودي يحب الشعب اليمني ، وكل يمني يحب الشعب السعودي ، وإلى كل الشعوب العربية المحبة لبعضها والتواقة للأمن والسلام والحياة الكريمة بعيداً عن وجع السياسة وصلف الجغرافيا وقسوة التاريخ ، والكتاب يعتبر في نظري كتابة عبر النوعية ، أي بمعنى تتداخل الأجناس الكتابية ، فهذا الإصدار الذي يعد أيضاً في نظري ، أحد أهم وأجمل الأعمال الكتابية التي شهدها معرض الرياض الفائت للكتاب ، ولو كنت أرى رفض البعض لأفعال التفضيل ، ولكنها وجهة نظر في كتاب ، ورحلة في نسيج مجتمع والتماس مع العلاقات الإنسانية ، وإبقاء أخبار السياسة في دهاليزها وعبر وكالات الأنباء وشاشات التلفزيونات ، وقد رأيت ردود الفعل على الكتاب على حساب المؤلف عبر وسائل التواصل المجتمعي ، وقد نشر فصول منه قبل إصداره ، وقد أحسن الكاتب بلغته الرشيقة ومعرفته الشاسعة للإلمام بموضوعه ، ودقة اختيار نشر فصول كتابته عن ( صنعاء ) المدينة اللامعة ، المدينة التي خبرها وقضى بها جزء من حياته ، وشكل فيها شبكة من علاقاته الشاسعة ، طالباً لدرجة الماجستير في جامعة صنعاء ، ومعلماً في السنوات الأخيرة من حياته في هذه المدينة . ويجدر بي قبل الدخول في فصول الكتاب ، والذاكرة يسكنها الكثير من التعريفات عن المدينة التي قيل أن لا بد من السفر إليها ، ولو كانت المدينة التي يعاقرها السل والجرب ، كما قال شاعرها الفذ البرودني في منتصف العقد الماضي ، فيلزم ضرورة الإشارة إلى تعريف ل ( صنعاء ) للدكتور عبد العزيز المقالح ، رمزها الثقافي الكبير الذي يرى أن هذه المدينة : ( كانت امرأة هبطت في ثياب الندى ثم صارت مدينة ) ، وقد كتب مقدمة للكتاب الذي صنفه من أدب الرحلات ، وهو كما يقول في مقدمته ، مغرم أنا بأدب الرحلات ، وشغوف بما تقدمه من صور مرسومة بالقلم ، عن الناس والمدن والطبيعة ، وحين يكون الكتاب الرحلة عن البلاد التي نشأت فيها ، وشربت من مائها وتنفست هواءها ، فأن الأمر يرتقي ليكون أكثر من غرام وشغف . ويذكر الدكتور المقالح بعد إيجاز عن علاقته بالمؤلف ، بأنه قرأ الكتاب مرة وثانية وتوقف عند العنوان الشعري المدهش والمثير للخيال ( صنعاء – تأويل الغيم . . وسورات النرجس ) ولكنه في القراءة الثالثة نظراً للظروف العاصفة ، وما تتركه من ندوب في النفس واحتراق في الروح ، بأن أهم الملاحظات عن الكتاب الذي وصفه بالرحلة ، يكاد يكون في حقيقة محتواه وما أشتمل عليه ، كتاب ُ رحلة شعر ٍ وأدب وذكريات ونماذج من الحكايات الطريفة ، تصلح لتكون أعمالاً قصصية لا تنقصها الحبكة ولا تفتقر للخيال . والواقع أني كنت مع جيش من المبادرين ، للكتابة والتعليق على فصول منشور المؤلف الشاعر علي الأمير عبر جداره ، والتواصل معه وفي ذهني أن ما يكتبه ونقرأه هو رواية ، رغب المؤلف أن يسلسل لنا فصولها ، ويحملنا معه في غاية الغرابة والدهشة ، وبالذات رحلة العودة من صنعاء إلى جيزان وما رافقها من غرائب وكمائن وحوادث ، ليدرك أبعاد التناقضات والمتناقضات التي تحكم حياتنا ، بمنطقها هي لا بمنطق العقل ولا منطق العصر ، لكنه تواصل معي ليبلغني أنها مجرد كتابة ، تزحزح تراكم حلّ في الذاكرة ، وتشكل انزياح كتابي مع ما مسه من لوعة ، وذكرته بروايتي ( منابت العشق ) التي تجترح أيضاً ، فصولاً عن صنعاء وقد أرسلتها له ، وذهب علياً في رحلة عبر كتابة في الزمان والمكان والأشخاص ، رحلة مع الشعر والنثر والحقائق الموضوعية الدقيقة بالخيال أو ما يشبه الخيال ، وينجح في تقديم عملاً إبداعياً ممتعاً عذباً ، جمع في أسلوبه بين السردي الرهيف ، والتعريف بالبلد الذي أحبه ، وتماهى في طبيعته وعادته وتقاليده وجمالياته . يصر المؤلف الشاعر علي الأمير عن تواضع ، أن كتابه لم يأ ت بدافع ترف فني أو خلق إبداعي ، ولعلي هنا – أقطف من حروف الصديق الأستاذ على الأمير ، لنقتسم في هذه الحلقة شجن الكلمات وحزن الواقع ، وسنكمل في الحلقة القادمة بإذن الله الطواف بين جماليات ودهشة موضوعات الكتاب ، فالأمير في خاتمة تقديمه للكتاب يؤكد أن صاحب هذا الكتاب كغيره من أبناء المملكة الحبيبة ، تجمعه بالشعب اليمني وشائج وجدانية حميمة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ ، ويستحيل أن يحد منها أو يعوقها الشأن الشأن السياسي أو الجغرافي . وبالفعل ستحضر أسماء ثقافية من البلدين ، يشكل ضوء حضورها موضوعات الكتاب ، لكن المؤلف لم يردّ أن يتركنا بدون إضاءة ، إذا يختم بقوله : كلما سمعت في نشرات الأخبار عن مكان في صنعاء أو اليمن عموماً ، يتعرض لويلات الحرب والتنكيل بأهله قتلاً واعتقالاً وتهجيراً ، أنبعث في داخلي ألمُ وحزنُ مضمخين بالحنين إليها ، ورحت أسلم الروح لأزمنة عذبة وتصرمت هناك ، لأبصرني غارقاً في وجع الذكريات ، ولم يكن أمامي إلا أن أصغي لذاكرتي وأدعها تستحضر صنعاء ، تستحضر اليمن كله أرضاً وإنساناً ، مبتعداً قدر الإمكان عن الحرب الدائرة الآن ، ومتماهياً مع الماضي الجميل ، مع البساطة والتعقيد ، الجمال والقبح ، الخير والشر ، وأظن أنني لن أقترف – عزيزي القارئ – سوى الحب ، إن أنا أخذتك إلى يمن ما قبل الحرب ، إلى صنعاء . . تأويل الغيم ، وسوارات النرجس .