كتاب يوسف عويد صياصنة الشعري الثاني "جرح البنفسج"، مواصلة دؤوبة لرؤى ومفاهيم شعرية وحياتية، بدأها مع مطلع تجربته المنشورة، وطالعناها في قصائد كتابه الأول "عطر اللوز"، الصادر قبل أعوام قليلة: قصيدة تختلط في سطورها وطيّات كلماتها هموم الأمة والوطن بهموم الذات والحبيبة، وتحضر خلال ذلك كله ذاكرة تعبق بكل ما في البيئة المحلية من شواهد الطفولة، ومن أيامها العابرة، في لغة شعرية تعشق السرد، وتنتهي اليه، فتجعل منه خطابها الأثير وطريقها المفضل. قصيدة تكاد تتكىء على الذاكرة بكليتها، الى الحدّ الذي تبدو معه الذاكرة بديلاً موضوعياً للواقع الراهن، أو إذا شئنا الدقة مرآة يمكن لنا ان نتأمل فيها بشاعة الواقع ولا معقولية انحداره. يوسف عويد صياصنة في "جرح البنفسج" منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق، يقدم ما يشبه رثاءً لراهن عربي ينوء بأحمال هزائمة، ويوشك أن يتحوّل إلى نقيض كينونته: "سألت من يكون؟ / قيل لي: وطن / حزنتُ / كيف ضيّق كالقبرِ / باردٌ كالثلج / ناصع البياض كالكفن! / مضيت حالماً، / بواسع، على مدار الشمس، / يقهر الزمن". هذه الرؤية الشعرية إذ تحمل شحنتها الجارحة وتضيء في ذهن القارىء ومخيلته صورة الواقع، لا تحتاج في تقديري الى تعليق ختامي أراها قد أثقلها وشاب ان يكون حاشية لا لزوم لها، حاشية تقريرية، جافة، فيها ما فيها من خطابة خارجية تتناقض مع ما سبقها من إنسيابية، إذ نرى القصيدة وقد اكتملت مبنى ومعنى عن "ناصع البياض كاكفن"، ولم تعد بحاجة ابداً الى تعليق تفصيلي مثل "مضيت حالماً بواسع - على مدار الشمس - يقهر الزمن"، حيث وجدنا في التعليق شرحاً لنقيض تضمره الصورة السلبية السوداء وتحرض عليه، وتحتفظ به أكثر رونقاً وجمالية في المخيلة. في مقطع شعري طويل حمل عنوان "جراح البنفسج"، وهو جزء من قصيدة طويلة بعنوان "من تجليات قليب"، نقف على البنائية الشعرية التي يفضّلها الشاعر والتي تقوم على طول القصيدة وسرديتها في الوقت ذاته. هنا يمكننا ملاحظة حشد الصور الشعرية التي تقوم بدور أساس في تماسك اللغة الشعرية وفي جعلها لغة إيحائية وذات مغزى غير مباشر، فيه ما فيه من التوثب وحرارة القول. وكان من الممكن لهذه الصور ان تجيء أكثر حرارة وأشد توثباً، لو ان الشاعر تخلى عن رغبته بين حين وآخر، في إتباع الصورة الشعرية بشرح مطوّل، غالباً ما يسيء إليها، ويطفىء قدرتها على التفاعل في مخيلة القارىء، ناهيك عن بترها لتكثيف بليغ يجده قارىء القصيدة في الصورة الشعرية في حدّ ذاتها ودون أية شروح أو إضافات: "قليب / قريب مدى النارِ - آماد خيلك مرمى سهام / المريبينَ / سهلك / أزهر في فعليته الحِمامُ / وباض على قاذفات اللهيبِ / الحمامُ". هنا ينجح الشاعر في جعل لغته الشعرية السردية تستجيب بصورها للفكرة التي يريد التعبير عنها، وهي مسألة على غاية كبرى من الأهمية، إذا أخذنا في اعتبارنا ان تجربة يوسف عويد صياصنة الشعرية كلها، تعتمد في صورة أساسية على الأفكار، فحضور الفكرة يشبه حضور اللبنة الأهم في البناء، وهي تركيبية شعرية تحمل خطورتها وتغمرها في كل شطرة، إذ على القصيدة - في حالة كهذه - ان تقيم علاقة جدلية شديدة الرهافة بين مجموع الأفكار التي تتضمنها، وبين رافعتها الفنية التي يمكن ان تحملها، وعلى الأخص الصورة الشعرية. نجاح هذه العلاقة وتوازنها هو القادر على ضمان نجاح القصيدة ووصولها، في حين نرى اختلال هذه العلاقة لمصلحة الفكرة في ذاتها أمراً يمكن ان يضعف البنائية الشعرية، وأن يثقلها بهموم "المعنى" حيث تتحولّ الحالة الشعرية إلى "موضوع". في "جرح البنفسج" إضفاء أكثر لما في الروح من لواعج وأسى، ينجح الشاعر في دمجها واعادة صياغتها، بالرغم من المنابع المختلفة الوطنية والفردية التي تجيء منها، وهي مديات أولى يمكن الوصول بها الى آفاق أبعد حين يتتبع الشاعر كل ما هو فردي وذاتي، فتشف القصيدة وتغدو أكثر قدرة على مناوشة مخيلة القارىء والتعامل معها: "هارب من دمي.. / في التهاب الخطى / في اشتعال الشرايين / أفقاً / لكل مساءً". تجربة يوسف عويد صياصنة في "جرح البنفسج"، إرهاص بما يمكن ان يقدّمه شاعر يمتلك اللغة الشعرية الناضجة والتجربة الإنسانية العريضة. شعر يقف على مفترق خيارات فيها الكثير من البشائر، بقدر ما فيها الكثير من اللوعة.