من يزور ولاية ديترويت الأميركية يفاجأ بمستوى الوجود العربي فيها، وبالعدد الكبير لأبناء الجاليات العربية الذين يشكلون عنصراً مهماً في اقتصاد هذه الولاية التي اشتهرت بمركزها الصناعي واستقطبت آلاف المهاجرين الساعين وراء "الدولارات الخمسة" التي كان يدفعها هنري فورد يومياً. ومن عايش بدايات القرن في المشرق العربي، يعرف اهمية هذه الدولارات في حياة آلاف العائلات التي عانت من هول حرب عالمية ومجاعة واحتلال عثماني، فكانت دولارات هنري فورد خشبة الخلاص لهم وأمل كثير من الشباب والعائلات في حياة أفضل. واستمرت هذه الهجرات حتى يومنا هذا، واستمرت معها شركة فورد ملجأ لكثيرين من هؤلاء الذين يملكون حالياً نحو ستة عشر ألف مشروع في ديترويت ويعملون في مختلف القطاعات المهنية والحرفية، يجمعهم اصلهم العربي، ويربطهم بتاريخ مجيئهم شيء واحد هو صناعة السيارات، هذه الصناعة التي كانت، يوماً ما في تاريخ كل واحد منهم، مصدر رزق له أو لأبنائه. ويقيم في ديترويت حالياً اكثر من ثلاثمئة وخمسة وعشرين ألف عربي وفق احصاء مستقل قامت به مؤسسة زغبي الدولية بينهم 147060 لبنانياً، و128246 عراقياً، و34635 فلسطينياً، و23090 سورياً، و3848 مصرياً، والاف عدة من جنسيات عربية مختلفة. وتضم ديترويت اكبر تجمع عربي في الولاياتالمتحدة يعيش منهم نحو 25 ألفاً في مدينة ديربون وضواحيها، المقر الرئيسي لشركة فورد. ويعمل لدى فورد في ديربون 35 ألف شخص بينهم الكثير من العرب الذين ينتشرون في مختلف الاقسام، ابتداء من مراكز التجميع وحتى المراكز الادارية العليا ورئيس الشركة ومديرها التنفيذي الأول. ويعود تاريخ بدايات الهجرة العربية الى ديترويت الى مطلع القرن الحالي، حيث جذبتهم الثورة الصناعية وحاجة الولاياتالمتحدة الى اليد العاملة. ولم تكن ديترويت مقصد كثيرين منهم، الا ان الدولارات الخمسة التي كانت تدفعها شركة فورد يومياً للعامل أسالت لعاب الآلاف منهم للتوجه الى هذه المنطقة التي بدأت تتحول الى اكبر مركز لتصنيع الآلات في العالم. وقد استخدم قائد صناعة السيارات هنري فورد اعداداً كبيرة من ابناء الجاليات العربية في معامله، والذين ازدادت اعدادهم مع تشجيعهم لأقاربهم وأصدقائهم للمجيء الى ديترويت والتقدم الى العمل في شركة فورد أيضاً. وكان من بين أوائل العاملين في فورد افراد من الجالية اللبنانية المسلمين الذين اقاموا في منطقة هايلاند بارك بالقرب من أول معمل لفورد حيث كان ينتج الطراز المشهور تي. ومع ازدياد اعدادهم بدأوا بنشر ثقافتهم وعاداتهم في تلك المنطقة وبنوا أول جامع لهم في العام 1919، ليكون أول مسجد في الولاياتالمتحدة بأسرها. ويقول نزار خطيب، وهو منسق مشاريع يعمل في مركز تجميع السيارات "ديربون" بمجمع "فورد روج"، انه سعيد بقرار مجيئه الى الولاياتالمتحدة، وسعيد بعمله في شركة مثل فورد. والسيد خطيب ولد في فلسطين ونشأ في لبنان كما عمل في الكويت قبل هجرته الى الولاياتالمتحدة. ويقول: "الهجرة الى الولاياتالمتحدة كانت قراراً صائباً، خصوصاً العمل لدى فورد. فالمستوى المعيشي تحسن كثيراً مع مرور السنين، وكذلك الضمانة في مستقبل افضل. انها أمور يتطلع الجميع اليها، وعملي مع فورد كفلها لي". وكان هنري فورد افتتح مصنع "فورد روج" قبل الحرب العالمية الأولى بقليل، ليصبح اكبر مجمع صناعي في العالم يعمل فيه اكثر من تسعين ألف شخص. وقد ضم هؤلاء عدداً كبيراً من المهاجرين خصوصاً اليمنيين واللبنانيين والسوريين الذين بدأوا في الاقامة بالقرب من المصنع في ساوث إند بديربون. واليوم، يتألف 90 في المئة من سكان جنوب غربي ديربون من العرب والمتحدرين من أصل عربي، حسب احدث كتاب صدر في ديترويت بعنوان "غلوبال جورنيز إن ميترو ديترويت". تشك شامي، تاجر حرفي سابق في فورد ومدرس ومن ثم مدير مدرسة، يتذكر عمل والده في فورد ويقول: "ترك والدي لبنان وهو في العشرين من عمره. وصل ديترويت ووجد عملاً لدى فورد في مصنع هايلاند بارك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. واستمر هناك كغيره من السوريين كان لبنان يعتبر جزءاً من سورية الكبرى وساعد في تأسيس جالية سورية كبيرة في هايلاند بارك. وبقي والدي هناك حتى العام 1924 تاريخ انتهاء العمل ببناء مصنع فورد روج حيث انتقل، مع غيره من المهاجرين العرب، للعمل هناك وأقاموا في ديربون، بالقرب من المصنع". رون أمين، اميركي من أصل لبناني، يتذكر نشأته في جنوب ديربون بالقرب من مجمع فورد روج، حيث عمل والده ومن ثم شقيقه الأصغر: "قد لا أبالغ اذا قلت ان ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف عربي كانوا يعيشون في اطراف المنطقة الجنوبية من ديربون منتصف الستينات، وان اكثرهم كان يعمل في مجمع روج. لقد كان هذا المجمع عامل الجذب الوحيد لهم، ومن اجله اقام العرب في هذه المنطقة". واستخدم كثير من المهاجرين العرب مدخراتهم ورواتبهم من صناعة السيارات، وبمساعدة اصدقائهم وأقاربهم، لنقل التقليد العربي الى ديترويت، الا وهو مهنة التجارة. فمن المعروف عن منطقة الشرق الأوسط موقعها التجاري على مفترق طرق بين الشرق والغرب، فأصبح كل شرق اوسطي تاجراً حتى يثبت العكس. واليوم، غدت التجارة اسلوباً جديداً للمقيمين العرب تحقق لهم استقلالاً اقتصادياً في بلد جديد. فمع بداية القرن الحالي، افتتح عدد من الرجال الذين عملوا في مصنع تجميع السيارات بفورد محلات يديرها اولادهم والنساء في عائلاتهم. وبدأوا بأعمال التموين وبيع المأكولات للعمال في المصانع. وسرعان ما انتشرت محلات بيع المأكولات والدكاكين والمقاهي وغيرها من الأعمال بالقرب من مصنع الطراز تي في هايلاند بارك. وتكرر الشيء نفسه عندما افتتحت فورد مجمع روج في ديربون. واليوم، يملك العرب الاميركيون 95 في المئة من الأعمال التجارية في المنطقة الشرقية من المدينة. ويتذكر شامي بدايات افتتاح المحلات التجارية والمطاعم العربية فيقول: "كنا نجد جميع هذه المحال الصغيرة التي تزود العاملين في فورد بجميع حاجياتهم. هذه الابنية الصغيرة حيث يمكنك شراء القفازات والأحذية وكل ما تريد... كان العمال يأتون الى الدكاكين والمطاعم يصرفون اموالهم، كنت ترى سترات عليها علامات فورد في كل مكان، وفي أي وقت، يأتي العمال لتناول الغداء او العشاء...". ويشكل العراقيون مثالاً حياً لمجموعات جاءت الى ديترويت بسبب توافر فرص العمل في مصانع السيارات، وها هم يملكون الكثير من الأعمال في المنطقة. ويقول رئيس اتحاد الكلدان العراقيين الاميركيين سام يونو: "لقد كانت الحاجة الى اليد العاملة قوية في مطلع القرن الحالي. والعراقيون جاؤوا بسبب وجود مجتمع عربي كبير وبسبب صناعة السيارات، مما وفر لهم البقاء ضمن بيئة عربية والعيش الكريم معاً". واليوم، يملك الاميركيون من اصل عراقي ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف عمل، 90 في المئة منها في قطاع المأكولات. وقد جلبوا معهم عاداتهم وتقاليدهم الى ديترويت. ويقول شامي: "لقد كنت دائماً من المعجبين بهنري فورد وفلسفته، فعندما تفكر بذلك، تجد انه استخدم الاقليات، التي بدورها عملت بجد وجهد، فكانت العامل الوفي الذي وجد في العمل الدؤوب وسيلة يعبر فيها عن امتنانه لإيجاد هذا العمل".