ألقت أحداث الكُشح الأخيرة في صعيد مصر بظلال قاتمة كثيفة على المجتمع المصري الذي يتغنى ويفخر دائماً بأنه مجتمع التسامح بين مختلف الأعراق والأديان والجنسيات. وزاد من كآبة تلك الأحداث وقوعها في وقت كان المسلمون والأقباط يحتفلون معاً بأعيادهم الدينية المقدسة عيد الفطر وأعياد الميلاد التي يفترض أنها تحمل للجميع البهجة والسرور والمحبة، وترفض في تزامن هذه الأعياد علامة رضا وبشير خير لمصر والمصريين. ولكن هذا كله اختفى وحلت محلة مشاعر المرارة إزاء تفجر الصدام بين عنصري الأمة في تلك القرية البعيدة المنعزلة عن كثير من مظاهر الحضارة وما ترتب على ذلك الصدام من وقوع ضحايا بشرية عديدة بين الأقباط بالذات إلى جانب الخسائر المالية الفادحة نتيجة حوادث المرض والنهب والسلب والتدمير، ثم ما أثير حول هذه الأحداث من إشاعات وأقاويل تبعث على القلق والخوف على وحدة المجتمع المصري ككل. فلقد كانت الدولة ممثلة في وسائل الإعلام التي تملكها وتتحكم في توجيهها، وكذلك في البيانات المشرقة المتفائلة التي تصدر عن وزارة الداخلية بالذات، تؤكد أن التعصب الديني ونوازع الفتنة الطائفية انتهت إلى غير عودة بفضل الإجراءات الحاسمة التي اتخذتها السلطات المسؤولة وبفضل شعور المواطنين من كلا العنصرين بعمق المسؤولية نحو المحافظة على وحدة الوطن وأن مصر هي مجتمع الأمن والأمان بالنسبة إلى مواطنين وإلى أجانب على السواء، وإذا بهذه الأحداث المفاجئة تهدم كل تلك الدعاوى والآمال وتضع الرأي العام المصري أمام الحقيقة الرهيبة عن استمرار العداوة بين المسلمين والأقباط وأن الشكوك الدفينة المتبادلة تنتظر أية فرصة حتى ولو كانت عابرة لكي تتفجر وتعبر عن وقتها وضراوتها في عمليات القتل والتخريب والترويع، واشتد الموقف سوءاً وكآبة بعد ما تردد عن أن أحد رجال الدين المسيحي المسؤولين في القرية الكُشح بادر بإطلاق النار حال سماعه بوقوع شجار بين اثنين من ابناء القرية احدهما مسلم والآخر مسيحي وعن مقتل المواطن القبطي اثناء ذلك. وأوحى ذلك التصرف الى البعض بأن الاقباط يتحينون الفرص لإثارة المتاعب بمباركة من بعض رجال الدين أنفسهم، وفي الوقت ذاته اشتبك المسلمون والاقباط ككل مع معركة شبه جماعية، نجم عنها مقتل عشرين من الاقباط، بينما لم يقتل من المسلمين سوى شخص واحد، ما أوحى الى البعض ايضاً على الجانب الآخر بأن ذلك الشجار لم يكن حادثاً فردياً وعفوياً وانما هو حادث مدبر من المسلمين ضد الاقباط. وكان من الطبيعي ان يثير تطور الامور واستفحالها من هذا النحو المخاوف والقلق ليس فقط من انتشار الصراع الى المناطق الأخرى في الصعيد، بل وأيضاً من أن تستفحل خطورة الاوضاع بحيث تهدد نسيج المجتمع المصري الذي يدخل في تكوينه السكاني والبشري والثقافي والاجتماعي، المسلمون والاقباط على السواء. والشعور بمدى خطورة الوضع يفسر لنا سرعة وضخامة وعمق رد الفعل بالاستنكار من الرأي العام والاجهزة المسؤولة عن السياسة العامة وعن الأمن والإعلام. وتنفرد أحداث الكُشح ببعض الأبعاد التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار من المسؤولين في أية محاولة لمعالجة النتائج المباشرة المترتبة على تلك الأحداث وكذلك في وضع سياسة عملية محكمة للقضاء على ذلك الصراع بين المسلمين والاقباط في الصعيد بالذات وإخماد ما اصطلح على تسميته بالفتنة الطائفية. وترتبط هذه الأبعاد الخاصة بالصراع الديني في الصعيد بطبيعة المجتمع الصعيدي نفسها والتكوين الاجتماعي والعلاقات بين المجموعات البشرية التي يتألف منها السكان في معظم المجتمعات المحلية هناك، وبخاصة المجتمعات المنعزلة والمغلقة على ذاتها. فالمجتمع الصعيدي في معظمه هو مجتمع شبه قبلي يقوم تنظيمه الاجتماعي على الأولوية المطلقة لتماسك الجماعة على حساب تفرّد الأفراد الذين يدخلون في تكوين الجماعة التي ينتمون اليها، سواء أكانت هي جماعة قرابية أم جماعة دينية. والفرد لا يستمد كيانه من خصائصه ومقوماته الشخصية، وإنما من انتمائه لتلك الجماعة المعينة التي تعطيه مكانته وتحدد له وضعه الاجتماعي ازاء الآخرين الذين ينتمون بدورهم الى جماعات قرابية أو في حالة الصراع الديني - دينية متمايزة ما يعني في واقع الأمر إلغاء شخصية الفرد تحت سطوة الجماعة وفي سبيل تحقيق وحدة هذه الجماعة وتماسكها إزاء الجماعات الأخرى المماثلة والمتعارضة معها. والمبدأ الأساسي الذي يقوم عليه المجتمع القبلي وشبه القبلي - كما هو الحال في معظم انحاء صعيد مصر - هو مبدأ التعارض بين الجماعات المتماثلة، أي تعارض العائلات والعشائر وما اليها بعضها إزاء بعض، وذلك نتيجة لشدة وقوة تماسك كل وحدة من هذه الوحدات والاعتزاز بشخصيتها ومكانتها واستقلالها الذاتي. ويخفف من حدة التعارض وما قد يؤدي إليه من صراعات صريحة الاعتراف بمبدأ التوازن بين هذه الوحدات والجماعات المتعارضة. فلكل وحدة أو جماعة مكانة معينة محددة بالذات تشغلها داخل المجتمع وتدركها الوحدات الأخرى وتحترمها، بل وتحافظ عليها حتى يحتفظ المجتمع على أي شخص ينتمي الى جماعة أخرى يعتبر اعتداءً على الجماعة كلها التي ينتمي اليها الشخص المعتدى عليه، مما يُخلّ بمبدأ التوازن ويستوجب الرد لدفع الأذى من ناحية، واسترداد التوازن المفقود بين الجماعتين المتعارضتين: جماعة "المعتدي وجماعة المعتدى عليه". وينطبق هذا بوجه أخص حين يتخذ الاعتداء شكل القتل وما يترتب عليه من ضرورة، الأخذ بالثأر وإلا فقدت الجماعة المجني عليها مكانتها ومنزلتها في المجتمع ولحق بها العار وهنا هو منطق الثأر. ومنطق الثأر هو الذي يعطي أحداث الكُشح أبعادها الخطيرة التي تخرج بها عن غيرها من أحداث الفتنة الطائفية التي قد تنشب في المجتمعات الحضرية التي لا تعرف التنظيم القبلي السائد في الصعيد. فالجماعتان المتعارضتان في قرية الكُشح اثناء هذه الأحداث هي جماعة المسلمين ككل وجماعة الاقباط ككل، أيضا. وفي اختلاف الدين هو أساس ذلك التعارض، كما أنه هو أساس تماسك كل من الجماعتين في مواجهة الجماعة الأخرى. وفي الأحوال والظروف العادية تعرف كل جماعة من الجماعتين وضعها في المجتمع وتعترف في الوقت ذاته بوضع الجماعة الاخرى، وهذه المعرفة وذلك الاعتراف هما أساس التوازن، وبالتالي أساس الحياة الآمنة الهادئة في المجتمع، ولكن مقتل عشرين شخصاً من "الجماعة" القبطية في مقابل شخص واحد من "الجماعة" المسلمة أدى الى ظهور موقف جديد يفتقر الى التوازن الأساسي والضروري بين الفئتين، ولن يتحقق السلام إلا بعودة ذلك التوازن. ولما كان من غير الميسور إعادة الموتى الى الحياة في هذه الدنيا، فإن التوازن لن يتحقق بمقتضى منطق الثأر إلا عن طريق إنقاص الجماعة التي تبدو غالبة المسلمون في حالة الكشح بالنسبة نفسها والعدد نفسه الذي فقدته الجماعة التي تبدو مغلوبة الاقباط في هذه الحالة خصوصاً أن من الصعب حتى الآن على الأقل تحديد الطرف المسؤول عن إثارة هذه الأحداث. وبمقتضى هذا المنطق ايضاً يعتبر المسلمون في القرية مدينين للأقباط بحياة تسعة عشر شخصاً حتى تتساوى الرؤوس ويعود التوازن بين الفريقين. وبطبيعة الحال فإن الدولة والمجتمع الوطني والعقل المتحرر والتفكير العقلاني لا تقبل هذه المنطق الذي يعتبر الثأر نظاماً اجتماعاً راسخاً له قواعده وتقاليده التي لا يمكن المجتمع القبلي الخروج عليها. وهذه في الحقيقة هي المشكلة التي يجب على المجتمع المصري أن يواجهها ويتغلب عليها بأساليب ووسائل تؤدي الى حلول يرضى عنها الطرفان المتعارضان. وليس هذا بالأمر السهل لأن الصراع الديني ارتبط بمشكلة الأخذ بالثأر في مجتمع شبه قبلي له تقاليده وأحكامه بل و قوانينه التي قد تتعارض مع قوانين الدولة. فلن يجري في هذه الحالة اساليب التهدئة وتطييب الخواطر" وعقد مجالس الصلح للتقريب بين وجهات النظر المختلفة او إثارة النزاعات القومية من خلال الخطب واللقاءات الرسمية مع المسؤولين ولا محاولة استرضاء أهل القتلى عن طريق المعونات المالية التي تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية. فللحياة البشرية قيمتها التي تعرف هذه المجتمعات كيف تقدرها مادياً ومالياً ولا بد من أن تؤدى الدية كاملة وأن يتم قبول هذه الدية عن رضا وطيب خاطر. وقد يكون ذلك مجرد إجراء موقت لا يحل المشكلة من جذورها. وهذه الجذور التي يجب اقتلاعها من أرض مصر هي عدم إعطاء أولوية مطلقة للشعور بالانتماء الى الوطن بصرف النظر عن الفوارق الاجتماعية أو الاقتصادية أو العرقية أو الدينية بين المواطنين. وهذا يتطلب اتباع عمليات تطبيع اجتماعي وثقافي عقلانية ومستنيرة يشعر فيها المرء بالاعتزاز بوطنه وعقيدته مع احترام عقائد الآخرين. وسوف يساعد على ذلك إدراك ان المسيحية هي دين المحبة وان الاسلام هو دين العدل الذي يحترم الأديان السماوية الاخرى ولا يفرّق بين الانبياء والرسل وأن ثمة في القرآن الكريم ما يدعو الى احترام النصارى خصوصاً. ولكن شيئاً من هذا كله لن يتحقق إلا إذا راجعت الدولة نظرتها الى الصعيد وموقفها التقليدي الشائن منه والذي يتمثل في ذلك الإهمال الطويل للصعيد وأهله، وعملت على ربط الصعيد حضارياً وثقافياً واجتماعياً بأحداث الحياة في مصر والعالم وخرجت به من عزلته التي تفرض عليه التمسك بالقيم القبلية المسؤولة الى حد كبير عن كل ما يعانيه وعن كثير مما تعاني منه مصر ذاتها. * أنثروبولوجي مصري