قبل أيام وقعت أحداث دامية في قرية الكشح في صعيد مصر، وهي القرية التي شهدت احداثاً مماثلة في آب اغسطس 1998. وقيل في تفسير ما حدث اخيراً إنه كان نتيجة مشاجرة بين فاكهي مسلم وتاجر أقمشة قبطي حول مبلغ من النقود، وقيل بل مؤامرة حاكها الاسلاميون المتطرفون بقصد تفنيد دعوى السلطة أنها أفلحت في إقرار الامن واستئصال أعمال العنف. ثم صدر بيان وزارة الداخلية كالعادة ينكر وجود صدع خطير بين الطائفتين، ويزعم أن الأمر لا يعدو أن يكون مناوشة "من تدبير بعض الخارجين على القانون ومن يحاولون إثارة الفتنة"... "غير أن أجهزة الأمن في سوهاج سرعان ما أحكمت سيطرتها على الموقف لمنع تجدد الأحداث". في حين ذكرت مصادر أخرى أن تكرار الأحداث في الكُشح "صدفة بحتة"، واستبعدت وجود مؤامرات للوقيعة بين المسلمين والأقباط، واعتبرت ما جرى "قضية جنائية وليست سياسية". هذا الموقف من السلطات، ومن الصحف المسماة القومية، سواء من أحداث الكُشح، أو الأحداث التي سبقتها في كل من اسيوط والمنيا وأسوان، وفي إمبابة وعين شمس والزاوية الحمراء وغيرها من مدن الصعيد وأحياء القاهرة، ومن عشرات الصدامات بين المسلمين والأقباط التي عرفتها مصر خلال الأعوام الثلاثين الماضية، هو في رأيي موقف لا يختلف في كثير أو قليل عن مسلك النعامة التي تدفن رأسها في الرمال تعامياً عن الخطر الذي يلاحقها. وكما أنه ليس للمريض أن يتوقع علاجاً حقيقياً من الطبيب متى أخفى عنه الحقائق الأساسية المتصلة بمرضه وبتاريخه وأعراضه، فما من أمل في تصدينا لعلاج الفتن الطائفية، أو في تحسين الوضع، ولا بالوسع الشروع في إزالة مظالم، ما دمنا سنظل الى أبد الآبدين نكرر ما أعتدنا أن نكرره من تعابير مبتذلة بالية، لمجرد طمأنة الخواطر، وإراحة الضمائر، وغرس الوهم في الأذهان بأن الأمور هي على خير ما يرام، لولا حفنة من المتعصبين، ولولا دسائس عناصر أجنبية، وأنه لولا هذه وتلك لخلت العلاقات الطائفية من كل شائبة، ثم نصرح بأنه ليست ثمة مشكلة، وأن الأمر لا يتعدى بعض الحوادث العارضة من المناوشات الدامية، وبعض الأفعال الفردية، وإنما يكمن الحل الحقيقي في ظني في مواجهة واضحة صريحة، لوضع قبيح صريح. وأبدأ فأزعم أن ثمة خطراً حقيقياً يتهدد الوحدة الوطنية في مصر. فالتطرف الديني الذي يهدد بنسف الوحدة لا يزال قائماً، وكذلك الإحساس لدى عدد غفير من المسلمين المصريين بأن الانتماء الى العالم الإسلامي، يُجب الانتماء إلى مصر، والشعور لدى عدد متزايد من الأقباط بأن الأقباط "قد يضطرون في مستقبل غير بعيد الى أن يحملوا السلاح دفاعاً عن حقهم في المواطنة الكاملة، وأن تدفق التيار الإسلامي يدفع الأقباط الى تعصب طائفي لا يقل في رجعيته عن طائفية الخصوم". وهو ما صرح به أحد أقطابهم لمراسل صحيفة "لوموند" الفرنسية. وأقولها هنا صراحة، ومن دون إلتواء: إنى أرى القبط مسؤولين الى حد ما عما يحدث، وذلك بانطوائهم التقليدي وسلبيتهم وحذرهم المشهورين به في العالم كله، واختيار الكثيرين من أفضل العناصر فيهم وأكثرها ثقافة وخبرة للهجرة من وطنهم، ومن دون المجابهة الإيجابية النشطة لعدو إيجابي نشط، والاشتراك اشتراكاً فاعلاً مع المسلمين المستنيرين في محاولة اكتشاف مخرج من هذه الورطة، ومساعدة الحكومة باقتراحاتهم على تعزيز التعايش الديني بين الطائفتين... وإنه ليحزنني أن أرى مواقفهم لا تتعدى في معظم الاحيان ردود الفعل إزاء ما يحدث، أو الهجرة الى الخارج، أو الشكوى والتبرم في مجالسهم الخاصة، أو الصبر على مضض، أو الثأر مما يلحق بهم كما حدث في قرية الكشح... أما التخطيط لإنقاذ الوحدة الوطنية فلا يكادون يعرفونه. وأما بصدد حقهم في المواطنة والمساواة الكاملة في قطر لهم فيه ما للمسلمين، فإن مثقفيهم وقادتهم لا يفعلون أكثر من أن يرددوا في المحافل العامة ما لا يؤمنون به ولا يؤمن به أحد، من أن كل شيء على ما يرام، لولا مؤمرات تحاك في الخارج، وتعصب لدى بعض العناصر في الداخل. ثم أمضي فأقول: لئن كان المثل العربي يذهب الى أن "الناس أعداء لما جهلوا"، فإني لا أرى جهلاً من فئة بأخرى كجهل كل من المسلم والقبطي في مصر بعقيدة الآخر. لا هذا قرأ الكتاب المقدس عند الآخر، ولا تعلم عقائده في مدرسته، ولا تطلع الى معرفتها حين شب ونما. إن سألت القبطي عن الإسلام أجابك بأنه دين يحرم الخمر ولحم الخنزير ويحلل زواج الرجل من أربع نساء. وإن سألت المسلم عن المسيحية أجابك بأنها دين يحل الخمر ولحم الخنزير ويحرم زواج الرجل من أكثر من واحدة. وكان المفروض أن تتدارك المدارس ووسائل الإعلام والآداب عندنا هذا الخلل الذي هو من دون شك، أحد أسباب التعصب وسوء العلاقات. غير أنها لا تفعل. فحصص الدين في المدارس قصرة على ابناء كل طائفة، وكان يمكن أن تدرس للجميع ديانات الجميع، وثمة ستة قرون من تاريخ مصر المسيحي هي أطول من تاريخ الولاياتالمتحدة بأسره، لا يكاد المسلم المصري يعرف عنها شيئاً. والصحف والمجلات لا منبر فيها لفكر قبطي، ويكاد الأمر يقتصر على صحيفة واحدة أو صحيفتين لا يقرأهما غير القبط. والإذاعة والتلفزيون لا يُلقيان بالاً الى عقيدة القبط. بل على العكس من ذلك، ففيهما نسمع واعظاً يقول إنه لا ينبغي لمسلم أن يتخذ قبطياً صديقاً له، ونسمع عالما إسلامياً مرموقاً يذهب الى أن الاقباط كانوا دائماً يخونون مصر كلما تهددها أو اجتاحها غزو أجنبي. كذلك يبدي أدباء القبط وكتابهم تقصيراً عظيماً في تصوير أحوال طائفتهم وطريقة عيشها، سواء في الروايات أو المسرحيات أو الأفلام. أما الأحزاب السياسية فإن كل ما تسعى إليه باتجارها بالدين، وإبرامها التحالفات مع هذه الجماعة الإسلامية أو تلك، هو الوصول الى كرسي من خشب، حتى إن استندت قوائمه إلى فوهة بركان، فما عسانا أن نتوقعه بعد هذا غير الجهل، وغير مشاعر الإحباط والمرارة، وتعذر قيام علاقات صحية من التعايش الديني، وقبول الآخر؟ لطالما لمستُ في وطني وفي غيره أن أفضل العلاقات بين أفراد الطوائف الدينية المختلفة هي تلك التي تسود بين الملحدين من كل طائفة، ممن قد تلاشت لديهم العقيدة، وجمع بينهم الشك في صحة الأديان جميعاً... هنا يختفي التعصب وضيق الأفق، والشك المتبادل والحيطة والحذر، ويصبح من المتصور والممكن أن تقوم الصداقة الحرة، والألفة الحقيقية، ويضحى شعارهم بيت الشاعر القروي: "سلام على كفر يوحّد بيننا وأهلا وسهلا بعده بجهنّم !" وربما وافقني القارئ على أنه من المؤسف أن يكون للإلحاد مثل هذا الفضل، ولا يكون للعاطفة الدينية، وأنه من المحزن أن نرى المتدينين في كل من الطائفتين وقد غلبت عليهم مشاعر الشقاق والشك تجاه متديني الطائفة الأخرى، في الوقت الذي تجابه الأديان كلها قوى عاتية تعارضها وتسعى إلى هدمها جميعاً، هي أعتى وأبلغ خطراً مما كانت عليه في أي عصر مضى... كانت ثمة أزمات كتلك التي عرفها الإسلام وقت محنة خلق القرآن. أو كتلك التي عرفتها أوروبا في عصر الإصلاح الديني، غير أنها كانت أزمات داخل الدين، في حين نجد الأزمة الراهنة تتمثل في هجوم ضد الدين، سواء جاء هذا الهجوم من جهة المادية العلمية، أو نمط الحياة المعاصرة. وزاد عدد أولئك الذين بات الدين لا يلعب دوراً كبيراً أو صغيراً في حياتهم، ولا يعرفون القيم الدينية التي هي وسيلة فاعلة لمقاومة فقر الحياة الروحية في المجتمع الحديث. فمن دون هذه القيم يصعب أن يكون ثمة سلوك متجانس، ويضحي سلوك الفرد في معظم الحالات مجموعة من التصرفات وردود الفعل لا رابط يجمع بينها. وأحسّت الكنائس المتصارعة في الغرب بهذا الخطر الذي بات يتهددها جميعاً، فسعت بنجاح في الثلث الأخير من القرن العشرين إلى رأب الصدع بينها، وفتح باب الحوار من أجل إقامة جبهة متحدة ضد العدو الحقيقي، بل مدّت يدها الى اليهودية ثم الاسلام للمشاركة في الدفاع، وأعلنت أن المطلوب هو مجرد احترام الدين في حد ذاته، وتقدير العاطفة الدينية حيثما وجدت، وأياً كان موضوعها، في سبيل إحداث التقارب وتحقيق التلاقي، وبقينا نحن في مصر نعيش في بيت انقسم أهله على أنفسهم، ولا يغطي سقفه غير جزء من مساحة أرضه. إن خطأ المتعصب لا يكمن في اعتقاده أن دينه أفضل الأديان. فهو أمر طبيعي ومشروع، ولو لم يرَ المتدين لدينه حقاً في الشمولية والعالمية لما كان هذا دينه. وإنما يكمن خطؤه في عجزه المطلق عن إدراك ما يدور بين الله وروح المؤمن من أتباع الديانات الأخرى، وعن إدراك حقيقة أنه ليس ثمة دين خاطئ إن كان من يعتنقونه يرونه كافياً لسد احتياجاتهم الروحية، وللحياة الفاضلة على هديه، وعن إدراك أن جهود المبشرين أشبه شيء بمحاولة الاستعماريين فرض ثقافتهم وحضارتهم واسلوب عيشهم على مختلف أنحاء العالم بما لا يمكن أن ينجم عنه سوى فقر الفكر البشري. كذلك يكمن خطأ المتعصب في عزله نفسه عن الجوانب الايجابية في الأديان الأخرى. ومن هنا تأتي أهمية الحوار وضرورة التلاقي والتلاحم، فما تلاقي الأديان غير مظهر واجب آخر من المظاهر المتزايدة لتلاقي الحضارات والشعوب في عصرنا هذا، ولا يعني ذلك مطالبة أتباع أي دين بإطراح أية حقيقة جوهرية فيه. وإنما يعني تجاوزنا الاستماع في صبر، والجدال في أدب، الى التفتح الذي يمكننا من الاستفادة والتعلم من الاخرين، بل الى تصحيح بعض مفاهيمنا عند الضرورة، وإلى التفرقة بعناية أكبر بين الجوهري وغير الجوهري في الدين، وبين الرمزي وغير الرمزي، ثم إعادة صياغة الجوهري، وإعادة تفسير الرمزي. على المسلمين مثلاً أن يبذلوا جهداً أكبر للتعرف على تعاليم السيد المسيح وتفهمها، ولا يثبطهم إيمانهم بتحريف التوراة والإنجيل عن دراستهما. وعلى المسيحيين أن ينظروا مثلاً في إمكان إعادة صياغة عقيدة التثليث بهدف التركيز على وحدانية الله التي يقول بها الإسلام، وأن يشرعوا في تقويم محمد الرسول صلى الله عليه وسلم تقويماً أكثر إيجابية ينطوي على الاحترام والتقدير والفهم، وهو ما لن يتعارض مع جوهر المسيحية. وعلى الجميع أن يبدوا استعداداً أكبر لتقبل نتائج الفكر العلمي الحديث في الدين، وتعديل مناهجهم الفكرية. وعلى هؤلاء وأولئك أن يدركوا أن إقدام المرء على تعميق فهمه لدين الآخرين يعني تعميق فهمه لدينه هو. وقديماً قالت العرب: "من لم يعرف غير وطنه لم يعرف وطنه، ومن لم يعرف غير دينه لم يعرف دينه". وعليهم أن يدركوا أن المتدين الحق ليس من كان بوسعه تفنيد الأديان الأخرى، والسخرية من معتقدات أهلها كما يفعل بعض الدجالين في برامجهم التلفزيونية في مصر، وإنما المتدين الحق هو من كان بوسعه أن يميز الحقائق الواردة في الديانات الأخرى، ثم ينتقل بعدها إلى ما هو أبعد من ذلك. وأخيراًَ، فإن الافتقار الى الصدق التام والصراحة الكاملة في عرض الأمور والمشكلات، والى الحوار الحر المباشر من أجل معرفة الاسباب الحقيقية للنفور والشك بين الطوائف المختلفة، ومن أجل الوصول الى حلول معقولة، كفيل بأن يبقي الأوضاع على حالها. كما أني زعيم بأن التركيز على دور "الجهات الأجنبية" والقاء التبعة على الاصوليين المتطرفين، أو على بعض "الخارجين على القانون ومحاولي إثارة الفتنة"، أمران لا اقول إنهما لا يقالان إلا للأطفال، بل هما لا يقالان أصلاً حتى للأطفال، خشية تشويه أفهامهم، وتشويش مداركهم. * كاتب مصري