تختلط مفاهيم "الدولة" و"السلطة" و"الحكومة" في اللغة العربية، وعلى الأرض العربية. وأكثر هذه الكلمات تعقيداً واشكالاً كلمة "الدولة". وللحق فإن مترجمها الحديث عن الأجنبية لم يجانب الصواب، حين استحضرها من تاريخها ووضعها في الاستعمال. فالكلمات الأوروبية المقابلة تعني الدولة وتعني الحالة، وفعلا "دال" و"حال" العربيان متقاربا المعنى كثيرا، وهما فعلان للتغيّر والزوال أو ما شابه ذلك. لكن الأوروبي ينظر الى المعنيين في وضعية الاستقرار، والعربي يراهما في وضعية القلقلة، ووضعية مشخصنة أكثر منها مجردة. يرى البعض في الدولة حيازة ملموسة للحاكم، الذي يستريح بدوره لهذه النظرة. فالخوف من الدولة يستحيل استكانة أمام ممثليها، والتفافاً عليهم، واستباحة لحقوقها. وحارس المتحف يصبح تجسيداً للحاكم والسلطة بكل امكاناتها القمعية والارهابية، وموظف الدائرة العقارية أو دائرة تسجيل الولادات غولا في نظر نفسه وغيره، واحتمالات الانتقام حين تدول الدولة قد تشمل بوّاب المحكمة وجابي الضرائب. والمواطن ان أخطأ في شيء من ذلك لا يُلام، فمواطنيته ذاتها مخدوشة حتى العمق. بعض آخر يرى فيها مجرد أداة طبقية قريبة الزوال مع تحقيق الحلم الاشتراكي وتطوره. وغيره يرى فيها وسيلة ضبط وربط لقطيع لا يمكن التحكم فيه إذا ثار أو ملك مصيره. وجاء في طروحات المسألة ثلاثة تعابير فظة وجافة: "الدولة القمعية" والدولة الاستبدادية" و"الدولة البوليسية". في ما يخص أولها، لم يختلف المفكرون كثيراً حول علاقة الدولة بالقمع. اختلفوا حول خلفية ممارسة القمع: هل هو لمصلحة الطبقة السائدة بشكل كامل، أم هو يميل الى مصلحتها مع تمثيل حاجات المجتمع موحداً، أم هو فوق الطبقات وكائن مجرد ذو رسالة تعلو مستوى البشر أفراداً وطبقات؟! منذ التاريخ القديم، عاشت جماعة - قبيلة على بواكير الطبيعة بشكل بدائي، حتى رأت أن من صالحها تخصيص بعض أفراد الجماعة بمهمة الحراسة، فتأسست بذلك أدوات الأمن - القمع. ومن ثم، لم تجد الجماعة بداً من جمع كفاية هؤلاء الحراس لتلبية حاجات معاشهم، فتأسست بذلك أدوات الجباية. تلك هي بذور الدولة البسيطة، الموجودة في أساس الدولة الحديثة، دون أن تكفي لتحديدها. الدولة عموماً أداة لقمع الطبقات المسودة لمصلحة السائدة، منعاً لتمردها أو لخروجها عن النظام، ولكن هذا وجه من وجوهها وحسب. فهي - حسب تعبير انجلز - "الممثل الرسمي للمجتمع". وهذا ما يفسره بولانتزاس بأن الدولة "هي الميدان الذي يكشف عن أسرار وحدة التكوين الاجتماعي". وباعتبارها كذلك فهي أيضاً موضوع لانتهاك هذه الوحدة وتأسيس غيرها، لأن الدولة "خلاصة المعارك العملية التي خاضتها البشرية" حسب ماركس. بالتالي، لا تستقل الدولة عن الصراع الطبقي، ولا ترتهن له. انها تنمو وتتقدم بمقدار استقلالها النسبي، وبمقدار قدرتها حتى على قمع عناصر الطبقة السائدة عند الانحراف عن الأسس الناظمة للدولة، أو عن "النظام" بمعناه الأعم من المعنى المتداول. وبشكل آخر، تخضع الوظيفة السياسية للدولة مهمتها في شبكة الطبقات لوظيفتها الاجتماعية الوحدوية، عند تناقضهما. أيضاً، لا تنتهي الصفة القمعية للدولة بتطور القوانين وسيادتها، ولا بتحول المجتمع باتجاه الديموقراطية. تصبح وحدة المجتمع ومصلحته الكلية هما الأقوى - عند التعارض - من الوظيفة الطبقية لقمع الدولة. الدولة القديمة بمختلف أشكالها وتجسيداتها، كانت قمعاً وجباية في الداخل، ومثيلهما - عندما يمكن ذلك - في الخارج، أو حماية للنفس - عندما لا يمكن المبادرة - من الاعتداء الأجنبي. ومع مستوى التشريع وخدمة التقدم، تختلف النظرة الى دولة قديمة وأخرى. وفقد، عند التحول التاريخي ما بين الاقطاعية والبرجوازية نشأت "الدولة الاستبدادية"، تلك التي مركزت السلطة بعد تفرقها، واعتمدت الانتماء القومي منطلقاً، وكرّست الحدود حدوداً جدية لا تتحرك بين الفينة والأخرى، وابتدأ التأسيس للانتقال الى المجتمع والدولة الرأسماليين في عهدها. في فرنسا كانت هذه الدولة على أيام لويس الثالث عشر وريشليو وحتى لويس الرابع عشر. في اسبانيا يرى البعض بدايتها على أيام ايزابيلا وفرديناند. في المانيا لا يظن بتجسدها الواضح حتى في أيام بسمارك، لهيمنة العناصر الاقطاعية على دولته. في انكلترا كان التحول بطيئاً وهشاً لا يسهل تلمسه ولا يستحيل. للدولة الاستبدادية استقلاليتها عن الجانب الاقتصادي، وهي تغلّب السياسة - بمعناها العام - على العلاقات الاقطاعية السابقة، وتطور نظاماً قانونياً مكتوباً بدلاً من امتيازات القرون الوسطى، وتمثل - الى هذا الحد أو ذاك - وحدة المجتمع. ومن ناحية أخرى، تتميز الدولة الاستبدادية بالدور الذي يلعبه كل من الجيش والبيروقراطية. فالأول يصبح محترفاً ومعتمداً على المتطوعين المأجورين، وهذه من أهم مطالبات مكيافيلي لأميره أساساً، والبيروقراطية تغدو حرفة مستقلة، وتبدأ بالمساهمة في إحداث الانتقال الى الرأسمالية، عن طريق اسهامها بالتراكم البدائي، من خلال المكتب والكرسي. فهذه الدولة - إذن - لازمة، وتاريخية. لازمة للانتقال من الاقطاع الى الرأسمالية، وتاريخية في السياق الأوروبي. اما الدولة البوليسية، فأمثلتها وفيرة في العصر الحديث. هي محاولة لاستعادة مجد وهيبة لأفراد يرون في أنفسهم التفرد واستحقاق الخير الوفير يبقون منه ما يرون، ويهبون ما يرون. وهي عمل قد يهدف الى إعادة التطور الى مساره، بعد ان حرفتها عنه ليبرالية وفساد سابق. وهي - أيضاً - حفاظ على الهيبة القومية أمام من يستهين بها من الخارج. من أمثلتها في القرن الماضي - ولو ابتعدنا - فترة حكم لويس بونابرت. كان هذا رئيساً للجمهورية الفرنسية الثانية التي دامت لعامين 1850 - 1852، ثم أصبح امبراطور الفرنسيين لثمانية عشر عاماً لاحقاً. كان ينتقل بين منفى ومنفى، حتى سمع بثورة 1848، فعاد ليحضر للسلطة. دعمه "حزب النظام" وهو ما كان يجمع أتباع لويس فيليب وآل بوربون عموماً مع تجمعات كاثوليكية. فاز بداية بشكل ديموقراطي، ثم احتاج الى انقلاب ليستطيع "التجديد" الذي يمنعه الدستور. هذا الانقلاب هو ما سماه ماركس "الثامن عشر من برومير لويس بونابرات" تشبيهاً ساخراً له بانقلاب نابوليون الأول الذي ابتدأ به امبراطوريته. ولم يكن نابوليون الثالث عديم الانجازات، فقد درس بإمعان طرق الدعاية الشعبية والتأثير والبروباغندا، ووعد ب"حرية عاقلة" وأقام المنشآت والطرقات وشجع التكنولوجيا واهتم شخصياً بإعادة بناء باريس الحديثة. وأقام أيضاً "دولة بوليسية"، وهي تدعى كذلك، على الرغم من كونها لا تذبح المعارضين، بل هي تعمل بوسائل شتى، من البروباغندا الى إحكام حالة الحصار والقمع. قويت المعارضة، ثم خسر الحرب أمام الألمان، فقامت الجمهورية الثالثة. حرره الألمان من الاعتقال، ورحل للعيش في انكلترا. وفي تلك الظروف وذلك العام - 1870 - قامت كومونة باريس الشهيرة، بعد عشرين عاماً من قيام "دولة بوليسية". ولدينا في العالم العربي شيء من هذا، وشيء من ذلك. لدينا من "الدولة القمعية" مثل ما لدى غيرنا، ويتقلص وجهها الآخر: الوحدة المجتمعية، والاستقلال النسبي المؤسس. وحجتنا - ربما - كانت أن هذه الكيانات القطرية عابرة، والآن انتهت هذه الحجة. الأكثر أهمية أن "قمعية" الدولة ليست تأسيساً لازماً ومفتوحاً يسبق استكمال جوانبها التقدمية الأخرى. ولدينا من "الدولة الاستبدادية" انتقاليتها ودورها التاريخي، ما دام التطور الرأسمالي لم يستكمل، ولم ينضج على الأصول. ولدينا منها كذلك، دور الجيش العنف تجاه الخارج - العنف تجاه الداخل والبيروقراطية التركيبة الجديدة - التراكم والثراء من طريق المنصب. ولدينا من "الدولة البوليسية - الأمنية" قطعها لمسار التطور، و"حداثتها" إذ تذكر مع اليونان والاسبان وغيرهم، من أولاد الناس. لدينا منها ما يذكّر بضرورة البناء على مفهوم الدولة مع مفاهيم الحرية والديموقراطية والتنمية، حتى لا تستطيع القطع مرة أخرى، وأيضاً حتى تفقد مبرر استمرارها. لدينا من ذلك كله، مع فارق التاريخ والجغرافيا. * كاتب سوري.