بوليفارد لكل منطقة سعودية    الجدعان يختتم مشاركته في «منتدى التنمية» واجتماع المجلس الوزاري لصندوق الأوبك    «مسيرة بحرية»    صالة جديدة بمطار حائل تستوعب 450 مسافراً يومياً    "أرامكو" الأكبر عالمياً باحتياطيات النفط والغاز    "تاسي" يتراجع وسهم أرامكو يرتفع    جيريرو يواصل كتابة التاريخ مع بيرو    تأشيرة إلكترونية لحاملي تذاكر "الرياضات الإلكترونية"    وزير الداخلية: مستمرون في التصدي لكل ما يهدد أمن الوطن    يسرا وأحمد عز يفتتحان ستارة مسرحية «ملك والشاطر»..    ألمانيا تدعو رعاياها إلى مغادرة لبنان «بشكل عاجل»    رونالدو أساسيا في تشكيلة برتغالية مغايرة لمواجهة جورجيا ببطولة أوروبا    الرياض تحتضن انطلاق منافسات بطولة آسيا للسنوكر 2024    تحسين للمشهد الحضري بالنبهانية    زيلينسكي يضع قائدًا جديدًا لحماية دونيتسك من القوات الروسية    المملكة ضيف شرف بمعرض سول للكتاب    المفتي يستقبل الشثري    الفريق المشترك للتحالف يفند مزاعم استهداف مواقع مدنية في صعدة مأرب    النائب العام يلتقي السفير القطري لبحث سبل التعاون في المجالات العدلية والقضائية    سمو محافظ الخرج يكرم الجهات المشاركة في مركز خدمة ضيوف الرحمن بالمحافظة    أمير تبوك يستقبل مدير محطة الخطوط السعودية بالمنطقة    بر الشرقية توزع أكثر من 28 طن لحوم أضاحي على 2552 أسرة    بحث سبل التعاون الإحصائي بين المملكة والعراق    قطاع ومستشفى البرك يُفعّل حملة "التوعية بأضرار التبغ"    أمين سر الفاتيكان من بيروت: عقد داخلية تمنع انتخاب الرئيس    القضاء الإداري يسمي رؤساء محاكم ويقر حركة التنقلات    "هيئة الاتصالات" تصدر التقرير السنوي لأكاديمية التنظيمات الرقمية للعام 2023    اكتشاف نقش أثري ثنائي الخط في قرية علقان بتبوك    مواجهات في رفح.. ومزاعم إسرائيلية عن تهريب أسلحة    أرامكو و سيمبرا تعلنان عن اتفاقية لحقوق ملكية وشراء الغاز الطبيعي المُسال من المرحلة الثانية لمشروع بورت آرثر    148 عينة غذائية غير صالحة للاستهلاك بالمدينة    استمرار الحرارة الشديدة بالشرقية والرياض    "بر الرياض" تحتفل بنجاح أبناء المستفيدين.. وتكريم خاص لخريجي الثانوية    القيادة تهنئ رئيس جمهورية مدغشقر بذكرى استقلال بلاده    جوليان أسانج حط في أستراليا بعد الافراج عنه    أمير حائل يشيد بنجاحات موسم الحج    السر وراء الشعور بألم المعدة أثناء السفر    الرياض وبكين.. علاقات ممتدة    «إكس» تتيح البثّ المباشر بمقابل مادي قريباً    شباب جازان يتعرفون على فن "الزيفة"    هل اختراع العزلة هو السبيل للهروب من ثقل الأفكار؟    النصر يعلن رحيل حارسه وليد عبدالله    سقيا الحجاج والزوار بخير ماء على وجه الأرض    وزير الدفاع الصيني يستقبل سمو وزير الدفاع ويعقدان جلسة مباحثات رسمية    الأمير خالد بن سلمان يبحث تعزيز التعاون العسكري والدفاعي مع الصين    التخصصي ينظم مؤتمر دعم الدورة الدموية للجسم    حكايات إيسوب السعودية 2    تياترو    نهاية «حج بلا تصريح».. الرسالة وصلت!    أمير تبوك يكرم المشاركين في أعمال الحج بحالة عمار    الجنديات السعوديات في موسم الحج    القنصل الصيني يشيد بنجاح موسم الحج    رحيل الأخوال    سباليتي: لو كنت خائفاً لامتهنت وظيفة غير التدريب    أمير الرياض يستقبل منتسبي « تراحم» والقسم النسوي بالإمارة    عصام حجاوي: نحرص على المشاركة في كبريات سوق الدولية للإنتاج    القصيم: مركز الأمير سلطان للقلب ينقذ حياة موريتانية    المجلس الصحي: إيقاف البلاغات الورقية في حالات الوفاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإستشراق ومسألة المجتمع المدني في الإسلام . لم تكن مشكلة الاستشراق في الشرق إنما في الغرب 2 من2
نشر في الحياة يوم 06 - 11 - 2000

لا يمكن ان نفهم التقليد الفرنسي في علم الاجتماع السياسي للشمولية من مونتيسكيو الى دوركايم من دون الأخذ في الاعتبار الجدل الذي ثار في فرنسا حول طبيعة الحكومة المتنورة. وما نشير اليه الآن باسم "الاستبداد المتنور" أو "الشمولية المتنورة" برز أول مرة كقضية فكرية وسياسية في فرنسا في ستينات القرن الثامن عشر، وذلك جزئياً كنتيجة لمبدأ الفيزيوقراطيين مذهب في الاقتصاد السياسي هرتونغ 1957.
وكان النفعيون يهتمون معاً بمشكلة الطبقة العاملة، وبمشكلة الحكومة البرلمانية في بريطانيا، ويهتمون ايضاً بمسألة حكّام سكان البلاد الأصليين في الهند. ولذلك كان كتاب جيمس ميل "التاريخ البريطاني في الهند" موجهاً بشكل خاص الى السؤال حول الاستبداد المحلي الأهلي والاصلاح الحكومي. ولاحظ الآتي: "فيما بين الهندوس، وبحسب النموذج الآسيوي، كانت الحكومة ملكية، وباستثناء الدين ورجالاته، فقد كان النظام ملكياً وراثياً. ولم تظهر أية فكرة عن نسقٍ للحكم، يضع السلطة خارج ارادة شخص واحد. ويظهر ان هذه الفكرة خالطت عقولهم، أو على الأقل عقول مشرعيهم" ميل 1972: 212-3.
بالنسبة لميل كانت هناك هوة اجتماعية بين الحياة التقليدية الشاملة للقرية الهندية والعالم الخارجي للممالك. فهناك التصدع المستمر للممالك، تقابله العزلة الاجتماعية والجمود الذي تميزت به القرية. وكان الحل السياسي الرئيسي لهذا الاستبداد الجامد جرعة من "الاستبداد المستنير"، أي وجود حكومة مركزية قوية وقوانين خيرة وادارة حديثة واعادة توزيع حقوق ملكية الأرض. وتبع جون ستيورات ميل منطق والده حول الاصلاح السياسي في بريطانيا والحكومة الاستعمارية، في جوانب عدة. وركز جون ستيورات ميل خوفه على آثار حكم الغالبية في الديموقراطيات الشعبية على حياة وضمير الفرد المتعلم والحساس. وتأكد هذا الخوف بشكل كبير بالجوانب اليائسة في تحليل أليكس دو توكفيل للمؤسسات السياسية الأميركية في كتابه "الديموقراطية في أميركا" الذي قرأه ميل عام 1835 دو توكفيل 1946. فحسب وجهة نظر توكفيل، ان حكم الغالبية القائم على أساس حق الاقتراع العام يمكن ان يؤدي الى اجماع عقيم عظيم الخطر على الفردية وحقوق الأفراد. والرقابة الوحيدة على استبداد الغالبية ستكون وجود روابط طوعية قوية أي مجتمع مدني تحمي الفرد من سيطرة الغالبية وتحمي تنوع المصالح والثقافة فمن دون وجود ضوابط، ستنتج الديموقراطية في بريطانيا العقم نفسه الذي أحدثه التقليد في آسيا، أي الجمود الاجتماعي. وبالتالي كانت مخاوف ميل "ليست من ليبرالية عظيمة وانما من خنوع جاهز، وليست من الفوضوية وانما من الذل، وليست من التغير السريع وانما من جمود صيني" ميل 1859: 56.
وفي حال الحكم الاستعماري، كان الاختيار مع ذلك بين نوعين من الاستبداد: محلي أو امبريالي. اما الاستبداد الأهلي فقد كان دائماً عشوائياً وغير فعال، بينما الاستبداد المتنور الذي مارسه شعب "أكثر" تحضراً في مناطق سيطرتهم، كان صارماً ومنظماً في الاعداد للاصلاح الاجتماعي والتقدم السياسي.
كان كل من جون ستيورات ميل 1806-63 وكارل ماركس 1818-83 معاصرين لبعضهما. ولذلك فإن صياغتهما لافكارهما حول المجتمع الآسيوي تأثرت بأحداث معاصرة مشابهة وبمنطوق أدلة وثائقية مشابهة. لذلك فإنه ليس مستغرباً على الاطلاق ان نجد انهما يتقاسمان بعض الافتراضات المشتركة العامة حول المجتمع الآسيوي، على رغم اختلاف تقييماتهما وتوقعاتهما بشأن الحكم البريطاني في الهند. فبينما تمت صياغة مفهوم ماركس حول "أسلوب الانتاج الآسيوي" على أساس وجود بنى وعمليات اقتصادية أو غياب تلك العمليات، كذلك فإن النمو الآسيوي أيضاً نسخة من الفكرة السياسية المتعارف عليها ب"الاستبداد الشرقي".
وصور المجتمع الشرقي في كتابات ماركس الصحافية بأنه يتميز بتغيرات سياسية مستمرة في الأسر الحاكمة، وبانعدام الحركة الاقتصادية الكلية. وأدى دوران الأسر الحاكمة الى عدم وجود تغيرات بنيوية، لأن ملكية الأرض بقيت في يد كبار الملاك الارستقراطيين. وأكد ماركس - كما أكد جيمس ميل- على الطبيعة الجامدة للحياة القروية المعتمدة على الاكتفاء الذاتي. ولم يقم مجتمع مدني بين الفرد والمستبد، ولا بين القرية والدولة، لغياب المدن المستقلة والطبقات الاجتماعية في النظام الاجتماعي.
وبينما اعترف ماكس فيبر بالدين لتحليل ماركس لحياة القرية الهندية في كتابه "دين الهند" فيبر 1958. فإن تفاصيل فيبر المختلفة عن الاشكال السياسية البطركية والبترمونيالية - تؤكد بشكل أكبر على قضايا التنظيم العسكري للطبقة الحاكمة أكثر من عنايتها بالقاعدة الاقتصادية للحياة السياسية. وفي الحقيقة، من الممكن رؤية علم اجتماع فيبر بوصفه تحليلاً للتداخلات بين ملكية وسائل الانتاج وملكية وسائل العنف. وهو بذلك أسس لمفارقة تجريدية بين حالتين: في الأولى يملك الفرسان المستقلون أسلحتهم ويقدمون خدمات عسكرية لنبيل ما. وفي الثانية تكون وسائل العنف مركزية في ظل سيطرة النبلاء. واعترف فيبر بأن هذه "النماذج الصافية" نادراً ما تقع في مثل هذه الأشكال التبسيطية، لكن المقابلة كانت مهمة في تحليله للتوترات بين المركز والاطراف في الامبراطوريات.
ففي الاقطاع، حيث للفرسان حقوق وراثية في الأراضي، ويقدمون أسلحتهم الخاصة، توجد ضغوط سياسية قوية نحو النزعة المحلية ونحو ظهور ممالك صغيرة مستقلة، وهكذا تحدث الصراعات السياسية الحاسمة ضمن الطبقة المسيطرة، وليس بين النبلاء والخدم، لأن المسألة المهمة هي الحفاظ على السلطة السياسية للملك الاقطاعي على الملاك الآخرين الذين يطالبون باستقلالية اقطاعية أوسع من زعيمهم. أما في الباتريمونيالية فإن احدى وسائل السيطرة على الفرسان الارستقراطيين المستندين على الامتيازات الاقطاعية أو وضع اليد على الأرض، الاستعانة بجيوش من العبيد والمرتزقة. ولمثل هذه الجيوش ارتباطات ضئىلة أو لا ارتباطات بالمجتمع المدني- فهم في الغالب اجانب وعزاب أو مخصيون ولا ينتمون الى قبائل. وهكذا فإنه ليس لجيوش العبيد اي اهتمامات أو مصالح بالمجتمع المدني، ويعتمدون على الأقل بشكل رسمي كلياً على النبيل البطرموني. وكما يوضح فيبر لا يمكن للبطرمونية البقاء سوى في حال تمتع النبيل البطرموني باستقرار في السيولة المالية، أو ان يكون له ارتباط بموارد اخرى يمكنه عن طريقها ان يدفع لجيوشه.
وتعاني الامبراطوريات البطرمونية من أزمتين:
1- تمردات من طرف جيوش العبيد أو المرتزقة 2- وعدم وجود استقرار في التعاقب السياسي مسألة ولاية العهد. على ان فيبر لم يستخدم التمييز بين الفيودالية والاقطاع الاسلامي معياراً للتفريق بين الغرب والشرق، الا انه اعتبر اللااستقرارية البطرمونية أو السلطانية مشكلة رئيسية في المجتمع الشرقي وبالذات في تركيا.
وجد الجدل حول الامبراطوريات الشرقية في الفكر الأوروبي الاجتماعي التعبير الكلاسيكي له في كتاب كارل فيتفوغل "الاستبداد الشرقي" 1957، الذي يحمل العنوان الفرعي "دراسة مقارنة للسلطة المطلقة". وقدم فيتفوغل سرداً تقنياً للامبراطوريات الشرقية. فقد تسبب جفاف مناخ النواحي الشرقية في ظهور الحاجة لتنظيمات مائية واسعة التي بالتالي لا يمكن ان تقوم بها غير قوة سياسية منظمة. ولا يمكن حل صعوبات ادارة المصادر المائية الا عن طريق عمليات بيروقراطية مثل عبودية عامة وسلطة مركزية. وأجبرت الدولة الهيدروليكية المائية على ان تستأصل شأفة كافة المجموعات الاجتماعية المخالفة ضمن مجتمعها التي تهدد سلطتها الكلية الشاملة. وشملت تلك "القوى غير الحكومية" المجموعات القرابية والتنظيمات الدينية المستقلة والمجموعات العسكرية المستقلة ومالكي اشكال بديلة من الثروة. وعليه فالاستبداد الشرقي مثل انتصار الدولة على المجتمع. ورأى فيتفوغل ان غياب "المجتمع المدني" في الامبراطوريات المعتمدة على مصادر مائية، أساس ضروري للسلطة الكلية الشاملة. أما في أوروبا، فإن الشمولية كانت تواجهها دائماً قوى المجتمع المدني المخالفة:
"لا يعني غياب الضوابط المؤسسية الرسمية بالضرورة غياب قوى المجتمع التي يجب على الحكومة احترام مصالحها وأهدافها. ففي معظم اقطار أوروبا ما بعد الاقطاع ما كانت الأنظمة المطلقة مقيدة بالدساتير الرسمية بقدر ما كانت مقيدة بالقوة الفعلية التي للنبلاء من ملاك الأراضي والكنيسة والمدن. وفي حكومات أوروبا المطلقة، كانت كل هذه القوى غير الحكومية منظمة وواعية سياسياً لذلك فهي مختلفة بعمق عن ممثلي ملاك الأراضي والدين وحرفيي الحواضر في المجتمع المعتمد على مصادر مائية" فيتفوغل 1957: 103.
واختصاراً، كانت المشكلة السياسية للمجتمع الشرقي، هي غياب المجتمع المدني الذي عمل على مواجهة قوة الدولة على الفرد المعزول.
وعلى رغم أن فكرة غياب "المجتمع المدني" في "الاستبداد الشرقي" تمت صياغتها بالاشارة الى آسيا ككل، فإنها لعبت دوراً بارزاً على وجه الخصوص في تحليل المجتمعات الاسلامية، فهي سمة أساسية في الخطاب الاستشراقي. اضافة الى ذلك فإن فكرة غياب المجتمع المدني متجذرة في التقسيمات السياسية والفكرية الغربية، وتقدم اطاراً عاماً مشتركاً للماركسيين ولعلماء الاجتماع على حد سواء. فماركس وانغلز في مقالاتهما في صحيفة "نيويورك دايلي تريبيون" لاحظا، ان غياب الملكية الخاصة في الأراضي، ومركزية الدولة حالتا دون ظهور طبقة بورجوازية قوية. ذلك أن هيمنة البيروقراطية وعدم استقرار المجتمع الحضري تعنيان ان "الشرط الأول والأساسي للكسب والتراكم البورجوازي مفقود: أمن الفرد، وملكية التاجر" ماركس وانغلز 1953:40.
واتخذ فيبر موقفاً مماثلاً في كتابه "علم اجتماع الدين"، حين اقترح ان تأثير التوسع الاسلامي أدى الى تحول الاسلام الى "دين قومي للمحارب العربي". وكانت النتيجة ان تصبح روح الاسلام الجماعية المسيطرة، روحاً "محتقرة جوهرياً للنفعية البورجوازية - التجارية اذ تعتبرها جشعاً خبيثاً أو لئيماً، وبوصفها قوة الحياة فهي معادية لها على وجه الخصوص" فيبر 1966.
وفي العروض الاجتماعية الغربية عن المجتمعات الاسلامية، قيل انه بسبب غياب "روح الرأسمالية" في الطبقة الوسطى، كانت تسيطر تاريخياً الاقليات على التجارة في معظم المجتمعات الاسلامية مثل اليونانيين واليهود والأرمن والسلافيين. واستمرت دراسات اجتماعية حديثة عن الاسلام في هذا التقليد، عن طريق الافتراض انه في غياب روح المغامرة التجارية والانجاز وارتباطات الدوافع بالطبيعة غير المتطورة في الطبقة الوسطى في الاسلام بونه Bonne 1960، ليرنر 1958، وماكليلاند 1961.
وربط غياب المجتمع المدني في الاسلام، وضعف الثقافة البورجوازية بالنسبة لجهاز الدولة في الاشكالية الاستشراقية، ليس فقط بتخلف التنمية الاقتصادية وانما ايضاً بالاستبداد السياسي. وهناك رأي عام بين علماء السياسة يقول بعدم وجود تقليد راسخ لمعارضة شرعية ضد اعتباطية الحكومات في الاسلام، لأن افكار الحقوق السياسية والعقد الاجتماعي ليست لها مؤسسات تدعمها في طبقة وسطى مستقلة فاتكيوتس 1975. لكن مع ذلك فإن الاطروحة الاستشراقية حول غياب المجتمع المدني تمتد كثيراً لأبعد من دائرة الاقتصاد والسياسة. اذ تعامل الثقافة العلمية والفنية في الاسلام بوصفها حكراً للبلاط الذي يرعى ضمن "اطار المدينة"، بروز ثقافة عقلانية في مقابل دين الجماهير أو الدهماء. أما وحدة العلم والتقنية التي تميزت بها الطبقات الوسطى الانكليزية في القرن التاسع عشر فقد كانت غائبةً بشكل ملحوظ في الثقافة الاسلامية. وذكر أرنست رينان، في تعليق ذي دلالة عن الاسلام والعلم، ان "المسلم يملك احتقاراً عميقاً لتعلم العلوم، ولكل مكونات الروح الأوروبية" رينان 1896: 85.
فبالنسبة لرينان، لا يمكن للعلم ان يزدهر في الاسلام الا في ظل الهرطقة. وعلى رغم ان مواقف رينان المتحيزة جداً، نادراً ما ظهرت بشكل واضح جلي في الدراسات الاستشراقية المعاصرة، الا ان فكرة الرعاية النخبوية للفنون والعلوم في غياب طبقة وسطى تتكرر بشكل مستمر. وترتبط وجهة النظر هذه عموماً مع فكرة ان العلم في الاسلام كان مجرد تطفل على الثقافة اليونانية، وان الاسلام ببساطة كان اداة لنقل الفلسفة اليونانية لعصر النهضة في أوروبا أوليري 1949. فنقاط ضعف المجتمع والثقافة الاسلامية، في نظر الاستشراق، انما تكمن في مشكلة غياب المجتمع المدني.
بدائل الاستشراق
وفي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، أظهر الاستشراق عدداً من أعراض أزمة داخلية وتدهور عبدالله العروي 1976. لكن البدائل للاستشراق كان من الصعب الحصول عليها، طالما لا يزال يحتفظ بتشجيع جوهري ومؤسسي- فالاستشراق تقليد مصدق لذاته وتقليد مغلق يقاوم بضراوة النقد الداخلي والخارجي. وقدمت محاولات مختلفة في اعادة البناء مثلاً في مجلة "مراجعات دراسات الشرق الأوسط" ومن طرف مشروع أبحاث ومعلومات الشرق الأوسط. وأكبر عوائق تغير الثوابت القائمة تكمن في ان المبادرات الماركسية وجدت انه من الصعب ان تنفصل عن المنظور الاستشراقي الذي كان حاضراً في تحليلها.
وعلى رغم وقع تغيرات رئيسية في الصياغات الفكرية الماركسية لبعض المفاهيم الاساسية مثل "أسلوب الانتاج"، الا ان معظم الجهاز النظري للماركسية المعاصرة ليست له علاقة بتحليل المجتمعات الاسلامية. وأولئك الماركسيون الذين تبنوا الموقف الابستمولوجي لكتاب من أمثال لويس التوسير هم، على أي حال، ملتزمون بوجهة النظر القائلة أن الدراسات الامبيريقية للشرق لن تكون كافية لاقتلاع المنظور الاستشراقي من دون تحول راديكالي في الأطر الابستمولوجية النظرية. وبينما قدم ادوارد سعيد نقداً رئيسياً للخطاب الاستشراقي، فإن الأساس الذي قام عليه ذلك النقد، أي كتابات ميشال فوكو، لا يعد نفسه بشكل واضح لمهمة اعادة صوغ منظورات. فالقراءة المتشائمة ل فوكو تقترح ان البديل للخطاب الاستشراقي سيكون ببساطة خطاباً آخر سيتضمن داخله مرة اخرى تعبيراً عن القوة والسلطة. ففي تحليل فوكو لا يوجد بديل خال من خطاب طالما ان امتدادات المعرفة تتطابق مع حقول السلطة. وهكذا فإننا مقيدون "بالبنية المريضة لخطابات عن خطابات، ومهمة سماع ما قيل من قبل" فوكو 1973 لذلك فانه على مستوى الخطاب ما بقي امام سعيد غير أمل "التحرير الروحي والسخاء" سعيد 1978: 259، وهو ما سيكون كافياً لتوليد رؤية جديدة للشرق الأوسط الذي نبذ الافتراضات الايديولوجية للاستشراق.
مع ذلك قد يوجد مسار للتنمية يتماشى مع استخدام سعيد لمنظور فوكو عن الخطاب، ويقدم في الوقت نفسه طريقاً بعيداً عن الاستشراق. فاللغة بطبيعتها تنتظم حول الثنائية الأساسية للتشابه والاختلاف، وكانت السمة الرئيسية للخطاب الاستشراقي هو تأكيده على الفروق حتى يقوم بسرد ما يميز فرادة الغرب. لكن مع ذلك في حالة الاسلام والمسيحية، هناك مسوغ قوي للتركيز على تلك السمات التي توحد بينها بدلاً من أن تفرق، أو على الأقل لفحص تلك المناطق الغامضة للتداخل الثقافي بينهما. فتاريخياً ظهر الدينان، على رغم عداوتهما أو اختلافهما، من حضن ثقافة دينية سامية ابراهيمية مشتركة. وانخرطا في عمليات متبادلة من الانتشار والتبادل والاستعمار.
وبهذا المعنى كما اقترحت فعلاً، فان من المسموح الاشارة الى الاسلام كدين غربي في اسبانيا ومالطا والبلقان والاشارة للمسيحية كدين شرقي في شمال افريقيا والهلال الخصيب في اسيا. وتُسهم هذه النقطة الواضحة في كشف الغموض الأساسي لفكرة "الشرق" داخل الخطاب الاستشراقي. اضافة الى هذه الاحتكاكات المتبادلة في التاريخ والجغرافيا، فإن الاسلام والمسيحية، لأسباب تاريخية عارضة، اشتركا في اطر متشابهة في العمل والفلسفة والثقافة. وعلى رغم مساحات الاحتكاك المتبادلة هذه، فإن التوجه العام للاستشراق كان تفصيل الفروق والتقسيمات والاختلافات. ومن الأمثلة المهمة على تلك الاستطرادات المؤكدة على الاختلافات والافتراقات ما نجده في الكتابات المتعارف عليها للتاريخ والافتراضات في الفلسفة الغربية.
فالاسلام والمسيحية كلاهما متجذر في الوحي الرسولي وليسا مهتمين اساساً بالحذلقة الفلسفية للاهوت المتشدد. وواجه الدينان وجود نسق منطقي وبلاغي علماني عالي متطور من حيث إرث الثقافة اليونانية. وأصبح نسق أرسطو الفلسفي، الاطار المنطقي الذي صبت فيه لاهوتيات الاسلام والمسيحية. وفي النهاية اصبحت الصياغة المسيحية للمعتقدات تعتمد بشكل كبير على جهود علماء مسلمين وبالذات على جهود ابن رشد وابن سينا والكندي والرازي. ونجد هنا مساحة للتأثير المتبادل كانت فيه المسيحية الوسيطة متطفلة على التطورات الفلسفية التي تم الوصول اليها في الاسلام.
مع ذلك، كانت الاستجابة الاستشراقية لهذه الحالة، الادعاء بأن الاسلام ببساطة توسط في حمل الهيلينية، التي وجدت في النهاية "وضعها الحقيقي" في جامعات أوروبا الوسيطة. وهكذا فإننا نجد مفكراً مثل برتراند راسل في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية"، وعلى هدي تقليد رينان، يرفض ببساطة ان الاسلام قدم أي اسهام مهم للفلسفة الغربية. فإغراء ربط الفلسفة الغربية بالهيلينية واضح، اذ يثبت ذلك الصلة بين الثقافة الغربية والتقاليد الديموقراطية للمجتمع الاغريقي. ونمت البلاغة الاغريقية من الجدل العام في المجال السياسي حين كانت الاشكال المنظمة من الآراء تطرح بشكل أساسي. وعلى هذا الأساس، فإن من الممكن مقابلة العالم المغلق للاستبداد الشرقي بالعالم المفتوح للديموقراطية الاغريقية والبلاغة الاغريقية. على ان المشكلة في هذه المعادلة المثالية للهيلينية والديموقراطية السياسية، هو انها تبقى صامتة بشكل كبير عن الاقتصاد المعتمد على العبيد في يونان العصور الكلاسيكية. فغالبية الشعب الغريقي كانوا يلفظون أو يطردون من عالم المنطق والبلاغة بسبب وضعهم العبودي.
وانتقل التراث الفلسفي والعلمي للحضارة الاغريقية الى أوروبا عبر طيف اسبانيا الاسلامية، وهنا مرة أخرى يعالج الاستشراق تأثير الاسلام على المجتمع الاسباني كما لو كان مجرد تراجع، أو في أفضل الحالات، تكرار. ففي رأي فيتفوغل، ابدع كل من ضغط السكان والظروف المناخية، السياق الذي في ظله ابدع المستعمرون المسلمون لاسبانيا سياسة مستبدة لمجتمع هيدروليكي. ففي ظل الاسلام. "أصبحت اسبانيا مجتمعاً هيدروليكياً حقاً، تحكم بشكل استبدادي من طرف موظفين ويتم جمع ضرائبها باستخدام وسائل التحصيل الادارية الزراعية. وكان الجيش الاسلامي، الذي تحول حالاً من جسد قبلي الى جسد "مرتزقة"، بكل تأكيد أداة الدولة كما كان حال مثيله لدى الخلفاء الأمويين والعباسيين" فيتفوغل 1957:215.
وبحسب رأي فيتفوغل، "قبل التأثير الاسلامي كانت اسبانيا عبارة عن مجتمع اقطاعي لامركزي، لكن، مع دخول الاقتصاد الهيدروليكي، تحولت بسرعة الى دولة مركزية استبدادية. بعبارة اخرى، حتى في داخل الوضعية الغربية، فإن الاسلام لا يزال يحمل معه سماته الأساسية لثقافة شرقية استبدادية. وكذلك فإنه مع حروب الاستعادة، تحولت اسبانيا الى سياسة اقطاعية بدلاً من السياسة الاستبدادية. بعبارة اخرى، حتى في داخل الوضعية الغربية، فان الاسلام لا يزال يحمل معه سماته الأساسية لثقافة شرقية استبدادية. وكذلك فإنه مع حروب الاستعادة، تحولت اسبانيا الى سياسة اقطاعية بدلاً من السياسة الاستبدادية. فاعادة تأسيس "المسيحية" حولت حضارة هيدروليكية عظيمة الى شكل من اشكال المجتمع الاقطاعي المتأخر" فيتفوغل 1957:216. لكن الأبحاث المعاصرة حول اسبانيا الاسلامية تقدم صورة مختلفة تماماً عما ذكر، فهي تؤكد على استمرارية أساليب الزراعة والري في المسيحية والاسلام. فوجود نظام ري معقد ومنظم يتطلب استثماراً اقتصادياً كبيراً على فترة طويلة وعلى رغم ان نظام الري الاسباني تطور بشكل كبير في ظل الادارة المسلمة، فإن هذا كان تطويراً لنظام قائم منذ الأزمنة الكلاسيكية. اي ان الاستمرارية التقنية والسياسية في اسبانيا وليس الاختلاف بين الادارة الاسلامية والمسيحية هي القضية المهمة غليك 1970، سميث 1970، اذاً فالحديث عن المجتمع المدني والاقتصاد في اسبانيا في ظل الاسلام والمسيحية يحدد أو يجلّي الولع الاستشراقي بالفروق، وهي فروق يصطنعها الخطاب وليس التاريخ.
الفرد والمجتمع المدني
يشكل مفهوم "المجتمع المدني" اساس الاقتصاد الرمزي الغربي من عصر الأنوار الاسكتلندي الى "مذكرات السجن" لغرامشي. ونوقش المفهوم بشكل متكرر في العلوم الاجتماعية المعاصرة. وشكل حقيقة جزءاً رئيسياً من المقابلة الايديولوجية الاستشراقية بين الشرق والغرب، وهذا أمر جرى اهماله بشكل جدي. وببساطة، فقد استخدم المفهوم كأساس لفكرة ان الشرق بمعنى ما، كان عبارة عن دولة وليس مجتمعاً. ولا يمكن عزل مفهوم "المجتمع المدني" عن موضوع في الأهمية نفسها في الفلسفة الغربية، ونقصد مركزية استغلالية الأفراد في سياق شبكة المؤسسات الاجتماعية. فقد اعتمدت الفلسفة السياسية الغربية على أهمية المجتمع المدني في الحفاظ على حرية الفرد من السيطرة العشوائية للدولة. واعتبر مفهوم الفردية مفهوماً اساسياً، ان لم يكن في الثقافة الغربية برمتها، فانه على الأقل المفهوم الأساسي في الثقافة الصناعية المعاصرة. فمن الصعب تصور كوكبة المفاهيم الغربية حول الضمير أو الحرية أو الليبرالية أو الملكية من دون المبدأ الأساسي للنزعة الفردية. وعليه فإنه يظهر ان النزعة الفردية تكمن في أسس المجتمع الغربي. والأهمية الاضافية للنزعة الفردية هي انها تساعد على التفريق بين الثقافة الغربية والشرقية، طالما ان الثقافة الشرقية تعامل بوصفها تفتقد حقوق الفرد وفكرة الفردية. والنزعة الفردية هي الخيط الذهبي الذي ينسج مع المؤسسات الاقتصادية للملكية، والمؤسسات الدينية للاعتراف، وتساعد على التفريق بين "النحن" و"الهم". وفي الاستشراق، اقتضى غياب المجتمع المدني في الاسلام غياب الفرد المستقل الذي يمارس ضميراً ويرفض تدخلات الدولة الاعتباطية.
وقام الجدل حول الاستبداد الشرقي في سياق عدم اليقين حول الاستبداد المستنير والملكية المستنيرة في أوروبا. وكان الخطاب الاستشراقي القائل بغياب المجتمع المدني في الاسلام انما يعكس توترات سياسية أساسية حول دولة الحرية السياسية في الغرب.
وبهذا المعنى، لم تكن مشكلة الاستشراق في الشرق وانما في الغرب. وهكذا فإن هذه المشكلات والتوترات انتقلت الى الشرق، الذي صار شرقاً لا يمثل الشرق فعلاً وانما هو مسخ عن الغرب. وكان الاستبداد الشرقي اذاً تصويراً للاستبدادية الملكية الغربية مع بعض المبالغات. وعليه فإن أزمات وتناقضات الاستشراق المعاصر يجب ان ترى كجزء من أزمة مستمرة في المجتمع الغربي تم نقلها الى سياق كوني.
وتتطلب نهاية الاستشراق عملية اصلاح جذرية للمنظورت والنماذج. لكن اعادة التشكيل المعرفي لا يمكن ان تتم الا في سياق تحولات رئيسية في العلاقات السياسية بين الشرق والغرب، لأن تحول الخطاب يتطلب تحولات في القوة.
* عميد كلية الآداب واستاذ علم الاجتماع في جامعة ديكن، استراليا. وترجم المقال لمجلة "الاجتهاد" عن كتاب "الاستشراق وما بعد الحداثة والعولمة" أبو بكر احمد باقادر استاذ علم الاجتماع في جامعة الملك عبدالعزيز ، جدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.