ترتسم للهند في مخيلة الفيلسوف الألماني «هيغل» لوحة رومانسية ملتبسة المكونات وغير واعية بذاتها، فهي مثل السكون والجمود المقدر له أن يظل على حال لا تغيير فيها، وكأنها لوحة منتزعة من المشهد العام لغياب الوعي البشري. فهي «بلد الشوق والحنين، ومملكة العجائب، العالم الساحر الجذاب» فالهند بالنسبة لهيغل - وسائر أدبيات الاستشراق - تعيش حالة حُلم متصلة، ويصعب الحديث فيها عن حرية أخلاقية باطنية، فالتميُّزات السائدة فقط تلك الخاصة بالأعمال والطبقات، بسبب ما يصطلح عليه ب «الطبقات المقفلة» التي لا توفر أية إمكانية لتحقيق أي نوع من الحرية الذاتية. وهذا يؤدي إلى أنَّ الوضع الأخلاقي عند الهنود من «أكثر الأوضاع انحطاطاً وفساداً» ف «الخداع والمكر هما الخاصيتان الأساسيتان للرجل الهندي، فالغش والسرقة والسلب والاغتيال، هي بالنسبة له أمور عادية مألوفة تكمُن في عاداته وأعرافه» وعلى هذا فإن التقارير الانجليزية التي يعتمد عليها هيغل، تُظهر الهنود على أنهم «طماعون، مخادعون، شهوانيون». هذه التجليات البشعة إنما هي تعبير عن الروح الهندي، الذي يصفه هيغل بأنه «حالة ذهنية حالمة، وتصوَّر خيالي» فالحياة الهندية «خرافة» لأن «كل شيء عند الهندي أحلام وعبودية لهذه الأحلام. فحالة الفناء، أي التخلي عن كل عقل وكل أخلاق ذاتية لا يمكن أن تأتي إلى شعور ايجابي ووعي بذاتها إلا بواسطة الغلو في خيال جامح لا حد له، حيث نجد راحة واستقراراً، مثل الروح القفر، ولا تستطيع أن تُدرك نفسها، ولكنها لا تجد المتعة إلا على هذا النحو، وذلك مثل إنسان منحط دائماً جسماً وروحاً، يصبح وجوده غامضاً، فيجد كلاً مملاً لا يُطاق فينساق عن طريق الأفيون فقط إلى خلق عالم من الأحلام، وإلى خلق النعيم الهذياني». الصورة المتكسرة من الداخل للهند كما رُسمت أغرت كثيراً من المفكرين والفلاسفة للتورط في أحكام اختزالية تنفي عن جنس الهنود أية خصيصة إنسانية واعية. وإلصاق خاصية الحُلم الأبدي فيهم كما ظهرت في خُطب هيغل، يدل على شحَّة النظرة الموضوعية تجاه الآخر، والانطلاق من عل لمعاينة الآخر على أنه نمط جاهز للوصف دون الحاجة للاقتراب إليه، وفحص ديناميكية الذاتية الداخلية، والهروب إلى الأمام تجنباً لبيان العجز في تقديم تحليل موضوعي مهما كانت أحكامه. ولا يتفرَّد هيغل في ذلك، إنما ينتظم في هذه الرؤية مفكرون آخرون. فماركس يكتب في منتصف القرن التاسع عشر عن الهند مستعيداً على نحو شديد الصلة ماهية الرؤية الهيغلية. وإذا كان هيغل يرى أن العقل الغربي هو القادر على اختراق سكون الآخر، فإن ماركس يرى في التورط الانجليزي في الهند، «أداة تاريخية» لتغيير البنيات الاجتماعية في ذلك الشرق الغاطس في الظلم والاستبداد. ومع أن ذلك التغير قد يسبب انكسارات وجروحاً، فإن مسار التقدم واطراده وحتميته يفرض أن تتهدم التشكيلات المعيقة لذلك التقدم، لينطلق العالم في مساره الصاعد دون عثرات. يقول ماركس «مهما تكن رؤية هذه التشكيلات من التنظيمات الاجتماعية البطريركية النشيطة والمسالمة جارحة للشعور الإنساني وهي تتفكك وتنحل إلى عناصرها الحركية. ويُلقى بها إلى بحر من الآلام والعذابات، بينما أعضاؤها الفرادى يفقدون في الوقت نفسه شكل حضارتهم القديم، ووسائط معيشتهم، فإنه يجب أن لا ننسى أن هذه المجموعات القروية الرعوية، رغم مظهرها المسالم وغير المؤذي، قد كانت على الدوام الأساس المتين الذي ينهض عليه الطغيان الشرقي، وإنها حصرت الذهن البشري ضمن أضيق نطاق ممكن، محوِّلة إياه إلى تلك الأداة اللينة للتطير، مستعبدة إياه لقواعد تقليدية معترف بها، حارمة إياه من كل عظمة ومن جميع الطاقات التاريخية.. صحيح أن دوافع إنكلترا حين فجَّرت الثورة الاجتماعية في هندستان لم تكن سوى أحط المصالح وأسفهها، ولكن ذلك ليس بيت القصيد. إن بيت القصيد هو ما إذا كان في مقدور الجنس البشري أن يحقق مصيره دون ثورة أساسية في الحالة الاجتماعية السائدة في آسيا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فقد كانت إنكلترا كائنة ما كانت جرائمها، الأداة غير الواعية التي استخدمها التاريخ في إحداث تلك الثورة». ينبغي قراءة نص ماركس على أنه ينطوي على مقاصد مزدوجة وأحياناً متناقضة، ماركس هنا يماثل هيغل، فهو يختزل الحقيقة التاريخية ويطمس أهميتها في سبيل إثبات صحة التصور النظري العام. ينطلق من الفكرة التي أشاعها منهج الوحدة والاستمرارية القائلة بغائية التاريخ واطراده، وبما أن ماركس يؤمن بمضمون تلك الفكرة، وتُعد فلسفته أكثر تجلياتها وضوحاً في تفسير حركة التاريخ والمجتمع من مرحلة معينة إلى نهاية محددة، فإنه سيسوغ أي فعل يُسهم في تحقيق تلك الفكرة. إنه يتفق مع هيغل على سكونية العالم الهندي وثباته. ويشاركه أنه بحاجة إلى أن يخترق لبث الحيوية فيه، واستبعاد النسيج الحلمي الذي يسبح فيه. ويرى أن السبيل الوحيد لتهديم تشكيلة السكون هو «ثورة اجتماعية». ولما كان السكون استبدَّ بالهند، فإن دخول قوى استعمارية أجنبية مثل إنكلترا يُعد عملاً مسوغاً باعتباره آلة تدشن الطريق للمسار الغائي الذي يسلكه التاريخ، وبما أن أي تدخل سيحدث تغيرات مؤلمة وجارحة للشعور، فإنه لابد من قبول هذه التضحية الصغيرة من أجل تحقيق الهدف الأكبر للبشرية، وهو إزالة أحد عوائق تقدمها والتسريع في تحقيق التقدم المنشود، فكل فعل طارئ (كالجرائم الانجليزية، والمصالح المنحطة) يُغتفر بإزاء الوصول إلى هدف نبيل. ماركس يوارب في خطابه، فهو يسعى لامتصاص النقمة المنتظرة التي سيثيرها وذلك من خلال تصوير الآلام الناتجة عن التدخل الانجليزي في الهند، قبل أن يعلن أن ذلك جزء من هدف تاريخي سام، والنتيجة أنه لابد من تهديم النسق الثقافي والاجتماعي الذي يحول دون اطراد التاريخ، بمعول انجليزي. ومن المفيد أن نردف نص ماركس بنص آخر يحذو حذوه تماماً وهو ل «أنجلز» ويظهر التماثل بينهما تماماً، بحيث ان كلاً منها يطابق الآخر غاية في المطابقة وكأنهما يصدران عن كاتب واحد، ولا يختلفان إلا في أن الأول يكتب عن الاحتلال الانجليزي للهند، فيما يكتب الثاني عن الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد كُتبا في حقبة واحدة من تطور الفكر الماركسي الذي يُعد ماركس وأنجلز معاً أصحابه الأكثر شرعية (نص ماركس عن الهند كُتب عام 1853 وكُتب نص أنجلز حول الجزائر في عام 1847). يقول أنجلز «إن فتح الجزائر واقعة مهمة وموائمة لتقدم الحضارة، وما كانت قرصنات الدول البربرية لتتوقف إلا بفتح تلك الدول (= الجزائر). وبعد كل حساب فإن البرجوازي المعاصر، مع الحضارة والصناعة والنظام والأنوار التي يحملها على كل حال، لأفضل من الولي الإقطاعي، أو اللص قاطع الطريق ومن الطور الهجمي في المجتمع الذي ينتميان إليه». تحليل نصي ماركس وأنجلز حول الهند والجزائر يكشف أنهما يُرجعان للرجل الأبيض الذي يمثله في الحالة الأولى الانجليزي وفي الحالة الثانية الفرنسي مهمة نشر الحضارة وإحداث الثورة المنتظرة. وأنهما بالمقابل يختزلان الهند والجزائر إلى طورين تاريخيين بدائيين معارضين بأنساقهما الثقافية والاجتماعية (= التنظيمات الاجتماعية البطريركية القروية الرعوية في الهند، والولي الإقطاعي، واللص قاطع الطريق في الجزائر) لحتمية التطور والتقدم، وفي ضوء ذلك يسوغ أي عمل حتى ولو كان احتلالاً استعمارياً القضاء على تلك الأنساق المختلفة، لأن ذلك، بحسب تعبير أنجلز يوائم تقدم الحضارة، وبتعبير ماركس يندرج في أسباب الثورة. نريد من كل هذا التأكيد على أن كثيراً من المفكرين الذين يدرجون عادة على أنهم «أصحاب فلسفات إنسانية عظيمة» - وقد اخترنا للتمثيل هيغل وماركس وأنجلز - لم ينجوا من النظرة العرقية المتعصبة والضيقة، ونظروا إلى الشرق من منظورات استشراقية، أنتجت الشرق على أنه عالم ثابت ونمطي. ويُثار جدل حول الماركسية في هذا الموضوع، فماركس نفسه لم يتحفظ على الاجتياحات الغربية للشرق باعتبار أنها تفضي إلى دمار البنى التقليدية القائمة والتي تحول دون أن يأخذ التاريخ مجراه الطبيعي، ومن هذه الناحية أشاد بالجانب الايجابي للتوسع الاستعماري في الشرق. وحول هذا الموضوع المثير للجدل اندلع سجال بين إدوارد سعيد وصادق جلال العظم، ذهب الأول إلى أن ماركس في رؤيته للشرق كان منساقاً وراء الصورة النمطية التي شكلها الاستشراق إلى الحد الذي ذهب فيه إلى أن الشرقيين يتصفون بالعجز، وهم غير قادرين على تمثيل أنفسهم، وتدعو الحاجة لأن يظهر من يمثلهم. فيما ذهب الثاني إلى أن الاستشراق لم يؤثر في ماركس، إنما هو قام بتفسير التحركات التاريخية الكبيرة من خلال القوى الصاعدة، والصراعات الاجتماعية، والتنافرات الاقتصادية، والتناقضات المصلحية، والحركات السياسية، والنزاعات الطبقية، والشخصيات القيادية إذ كان ماركس يُضفي على هذه العناصر دوراً مزدوجاً هو دور أدوات التدمير ودور الإحياء في الوقت نفسه. إلى ذلك ذهب «غويتسولو» إلى أن الماركسية عممت فيما يخص الشرق الصورة النمطية المعروفة في الغرب عن الشرق بفعل الاستشراق، دون أن تتمكن من تقدير أثر البنيات الفاعلة في الشرق مثل الدين والقرابة ف «نصوص ماركس وأنجلز حول ما يسمى اليوم «العلم الثالث» مشبعة بالفعل بصور نمطية صنعها المستشرقون الفرنسيون». لا تترك البراهين النصية الماركسية حول الشرق مجالاً للاجتهاد في هذا الموضوع، مع الأخذ بالاعتبار أن تلك النصوص تندرج في سياق منظور فكري - فلسفي يسعى إلى تقديم تفسير لموضوع تاريخي خاص بقانون الحتمية التاريخية، وهو القانون الذي يحكم الفلسفة الهيغلية والماركسية على السواء، إلا أن الآثار المترتبة على الاختزال الذي ينتج عن تلك التحليلات، سيجعلها تندرج لا محالة في صلب الفكر المتعصب والمتمركز حول نفسه. وماركس كان له أكثر من موقف في موضوع الشرق، وفي كل تلك المواقف كان يصدر عن رؤية تفترض ثنائية متناقضة: شرق خامل وتقليدي وغرب حيوي وثائر، الأول طوَّر منظومة بنى وقيم تحول دون أن تنتظم الإنسانية في مسارها الحتمي، والثاني طور منظومة بنى وقيم تدفع بالإنسانية إلى ذلك المسار. والطريف أن ماركس اعتبر «القسطنطينية» هي الحد الفاصل بين الشرق والغرب. أو «الجسر الذهبي المنصوب بين الشرق والغرب». فبقاء القسطنطينية (عاصمة الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر)، يعني بقاء الاستبداد. واستسلامها يعني فتح الطريق أمام الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي يقول ماركس إنها «كالشمس لا تستطيع أن تستكمل دورتها حول العالم دون أن تمر في هذه النقطة». abdullah-ibrahem.com