لما سئل ممثل مسرحي لبناني ذائع الصيت في برنامج تلفزيوني عن تعريفه فن المسرح، لم يتردد في الإجابة بأنه: شعر... أو قصيدة!. والحال أنه يروق لكثير من الناثرين، وصف ما ينتجونه ويؤدونه بأنه من قبيل الشعر، ان لم يكن شعراً خالصاً يتوسل طرائق نثرية. حتى أن بعض الناقدين، لا يتردد بدوره عن احتساب الرؤى والمحولات والصيغ الشعرية في ما هو نثر، على أنه حكم قيمة ايجابي لما ينظرون فيه من أعمال. وقد أدى ذيوع هذه الأحكام هنا وهناك، الى طغيان الصيغ الشاعرية، على كتابات قصصية وروائية وحتى مسرحية مما تنتجه الإجيال الجديدة. وغدا الحكم بشاعرية النص درعاً ورديئة، ضد أية ملاحظات بنائية تفصيلية تتعلق بجنس الأثر الأدبي. ولعل هذا المزج المتعسف والذي يبلغ حد الخلط، يعود في أهم أوجهه الى أسبقية الشعر على ارتياد دروب الحداثة فغدت هذه الأخيرة مقترنة بالشعر دون سواه من الفنون وهو ما استقر في قناعة وأفهام كثيرين. فمن تعزوهم موهبة الشعر، فلهم عوض ذلك أن يخلعوا سمتاً شعرياً على ما يصنعون من فنون نثرية، ولهم بعدئذ أن ينتسبوا للحداثة أبناء شرعيين ومعبرين مفوهين يجمعون في إهابهم صنائع النثر والشعر من غير تفريق. والآن فإن هناك أثراً لا ينكر للشعر على النثر الإبداعي، قوامه تبادل التأثير بين الفنون من جهة، والتغييرات التي أصابت بنية السرد ومراحله وطرائقه وعلى نحو يغدو فيه الوصف مقترناً برصد الحالات الشعورية والعوالم الداخلية الذهنية والروحية للأبطال وحتى للأماكن، علاوة على أن الحدث النفسي بات يناظر الحدث المادي في الأهمية، وهذا من جهة ثانية. غير أن القاعدة التي تقول باعتماد معايير جنس أدبي وتطبيقها على جنس آخر، تظل على قدر كبير من الخطأ. فكما أن الشعر لا يقاس بالنثر، كذلك فإن النثر لا يخضع لتصنيفات الشعر. ويسترعي الانتباه في هذا السياق أن التأثيرات المتبادلة بين الفنون، تقتصر مثلاً على متابعة تأثير النثر على الشعر. يغيب ذلك عن النقد النظري والتطبيقي في صفة عامة. بل أن تأثير النثر يعاب في الغالب على الشعراء وقصائدهم. ونعني بالنثر الصيغ الحوارية والدرامية والاتكاء على الخبر والحادثة وحتى المناسبة، وتوسل صيغة اللقطة وأسلوب الوصف والبناء المتسلسل، والنأي عن الجزالة وتفادي الإسراف في الصور، واللجوء الى التعريفات والتعليقات وهي جميعها من بضاعة النثر وشرائطه. قلما يعمد النقد في عمومه الى تبيان هذه الآثار والتجليات، مخافة أن يوصم الشاعر وقصيدته بالنثرية، أي الهبوط من السماء الى الأرض، فيما وظيفة الشاعر هي: "التحليق في الأعالي ومعانقة الجوزاء" والابتعاد عن الأرض و"الأرضنة"، وليس أقل من ذلك. لقد أدى هذا بين ما أدى اليه الى "تصنيم" الشعر وإفساد النثر، اذ انتقل الأخير الى الترهل العاطفي والجمالية اللفظية والتصاوير المجانية... أي الى تجويف النثر بما هو فن للوصف والإخبار والتعريف والتشخيص، لدى رهط عريض من ناثرين شبان ومكتهلين وبدعوى أن الناثر المجيد هو الأقل نثرية، والذي يلابس الشعر موهبته ونبرته بالضرورة وفي كل أثر من آثار، بل في كل فقرة من هذه الآثار، مع ما يتبع ذلك من نمطية وافقار المعاني وضعف النظر العقلي. وعليه بات مطلوباً من النقاد التمييز بين نثر وشعر بمعزل عن أحكام القيمة والأفضليات حتى لو لم يتم الجهر بها، فالناثر الجيد أفضل من الشاعر الرديء والناثر الأكثر نثرية هو في مصاف الشاعر الأشد شعرية.