ها هو الشهر الفضيل يهل على سكان القاهرة، وربما يساعد بروحانيته وفضائله، إلى البرامج التلفزيونية، في التخفيف عن كاهل المواطن العادي. مفتي مصر نصر فريد واصل كان حريصاً في إطار إعلانه عن بدء شهر رمضان أن يركز على نقطتين اجتماعيتين الاولى ان شهر الصوم يعني الابتعاد عن الاسراف، والثانية انه شهر الإقبال على البر والتقوى ومساعدة الآخرين. وعلى رغم دعوة المفتي للابتعاد عن الإسراف، إلا أن الاجواء العامة تؤكد أن رمضان 2000 لن يكون أقل إسرافاً من غيره. هرع الجميع الى تخزين كميات كبيرة من المواد الغذائية من مسلي، وزيت، ورز، وسكر إن وجد، بالاضافة الى ياميش رمضان المعتاد. وعلى رغم تراوح نسبة الاقبال على تلك السلع الرمضانية بين التمور بأنواعها، التي تناسب فئات الشعب العاملة، وغيرها من أنواع المكسرات التي لا تستقر إلا في أطباق وجبات إفطار وسحور الايسر حالاً، إلا أن حركة البيع والشراء تعضد وتساند مقولة رئيس الوزراء عاطف عبيد إن أزمة السيولة ما هي إلا أزمة نفسية. ومن جانبها، والتزاماً منها بسياسة "مهرجة" كل مظاهر الحياة، من تعليم، وقراءة، وسياحة، واغنية وتسوق، نظمت الحكومة "مهرجان احتياجات رمضان" لضمان حصول كل مواطن على احتياجاته من المشمشية والقراصيا والتين وغيرها تحت سقف واحد. وتزاحم المسؤولون في الأيام التي سبقت شهر الصوم للإدلاء بأكبر كمية من التصريحات - في ما يبدو - استعداداً للخمول الرمضاني الذي يصيب دوائر العمل "لا تغيير في مواعيد الدراسة في رمضان"، "الوزارات والمحافظات استعدت لاستقبال الشهر الكريم"، "نصف الرصيف للمشاة والآخر للمشاة"، "لا أزمات مرورية في رمضان هذا العام" وغيرها من التصريحات المنظمة للحياة في رمضان. والمؤكد أن شهر الصوم ألقى بظلاله على كل شيء، إعلانات الوظائف تخللتها إشارات عن توافر شيف درجة أولى وثانية وسفرجية لموائد الرحمن، مصانع البلاستيك أعلنت الطوارىء لتوفير حاجات رمضان من اكواب وصحون وأدوات مائدة بلاستيكية لتلك الموائد، إضافة الى اكياس البلاستيك التي يستخدمها بائعو المخللات وعصائر الخروب والعرقسوس والكركديه لتعبئة بضائعهم. اما أصحاب المقاهي فأخذوا العدة للاستيلاء على الأرصفة المواجهة لمحالهم، فبدلاً من استغلال ثلاثة ارباع الرصيف في الايام العادية، يشهد الشهر المبارك تعديات واضحة للأرصفة بالكامل، وذلك منذ ابتداع الفكرة العبقرية المعروفة ب"خيمة رمضان". الخيم الرمضانية وفي مناسبة خيمة رمضان، فإن فنادق النجوم الخمسة لديها سببان للابتهاج، اولهما تشييد الخيام الرمضانية المعتادة، ومن ثم الاستفادة من عوائد فرحة الاثرياء برمضان بعد الافطار. والثاني انتهاء شهر الصوم هذا العام قبل رأس السنة الميلادية، وهو ما يرفع عنها حرج الاحتفال بتلك المناسبة التي حرموا من أرباحها العامين الماضيين. ولأن جلسة ما بعد الافطار أضحت لا تكتمل من دون تعميرة الشيشة، ولأن مصر تشهد صحوة بيئية محدودة، أخذت وزارة البيئة على عاتقها كمهمة دعم ورعاية خيمة رمضانية صديقة للبيئة في مدخل دار الاوبرا المصرية، وذلك للعام الثاني على التوالي، ويحظر فيها تقديم الشيشة أو حتى تدخين السكائر. نوع جديد من الخيام بزغ قبل نحو عامين، وازدهر هذا العام، وهو الخيام التلفزيونية، أي تلك المرتبطة بقنوات تلفزيونية ومنها برنامج "مقهى الأولى اليومي" نسبة الى القناة الاولى، وهو فرصة تتبارى فيها المذيعات على ارتداء أبهى الأزياء "الرمضانية" فلا هي جلاليب، ولا هي ملابس حديثة عادية، لكنها تجمع بين "شرقية" الجلباب وبهرجة الحداثة، وذلك مع شعور شقراء مصففة بعناية فائقة وإكسسوارات بالغة التعقيد. حتى المذيعون اختار لهم التلفزيون ملابس شرقية حديثة نجحت في أن تفقد في النهاية السمتين. وهناك خيمة اقامتها القناة الثقافية المتخصصة إلا أنها تخلو من الصفة الرمضانية، فهي صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، إذ لا تقدم فيها أية أنواع من المشروبات أو المأكولات بما في ذلك مياه الشرب. أما الخيام عدوة البيئة - وهي الغالبية - فإن الدخان النابع من أنوف وأفواه روادها يختلط مع دخان السحابة السوداء، ليتركز في رئات الصائمين، بمن فيهم الاطفال. وللفئة الأخيرة، تبارى صناع الفوانيس في حشد الاغاني الأكثر هبوطاً لجذب صنّاع المستقبل. وبين "بابا أوبح" و"بطيخة حمادة" يقف الاطفال وكلهم حيرة في انتقاء الأعلى صوتاً والأكثر ازعاجاً. وما دمنا ذكرنا الازعاج، فقد شحذ ماسبيرو همم جميع العاملين والعاملات لحشو ما يزيد على 20 قناة تلفزيونية بين أرضية وفضائية بما لذ - وليس بالضرورة - طاب من البرامج والمسلسلات والفوازير والأدعية والاعلانات، وجميعها تنتج منه حال تخمة تلفزيونية لا تنفع في درئها إعلانات "الشراب الفوار" الذي يعد بتخليصك من عسر الهضم في مناسبة رمضان. فرصة لاعمال الخير أما دعوة المفتي الثانية الى ان يكون شهر الصوم فرصة لأعمال الخير، فهي تلقى آذاناً صاغية وقلوباً خاشعة، وان كانت دعوة سابقة للمفتي بأن موظفي الحكومة يستحقون زكاة رمضان تثير منافسة مكتومة بين جحافل الشحاذين الموسميين الذين يغزون شوارع القاهرة في هذا الشهر، وبين اولئك الموظفين الحائرين بين دحض أزمة السكر، ومجابهة الدروس الخصوصية، والنجاة بأرواحهم من كوارث المرور. وقد تضامنت الطبيعة مع الأزمات النفسية التي يتهيأ للمواطنين وجودها على رغم نفي الجهات الرسمية لها، واتفق الجميع على إرباك المصريين، إذ هطلت أمطار غزيرة حولت الشوارع الى برك، والحارات الى ترع، والخيام الى غسيل مبلل، اما المواطنون، فقد التزمت نسبة كبيرة منهم بيوتها، وللمرة المليون تساءل الجميع: معقول ان يشيد كوبري طويل عريض مثل 6 اكتوبر من دون مواسير لتصريف المياه؟ معقول ان تخلو الشوارع من مصارف للمياه الزائدة؟ معقول أن تغرق القاهرة في شبر مياه؟ والواقع أنه معقول، لأن القاهرة غرقت فعلاً... ورمضان كريم.