نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية بجمهورية العراق يصل إلى الرياض    عودة أكثر من 6 ملايين طالب لاستكمال الفصل الدراسي الثاني.. اليوم    أمير القصيم يشكر المجلي على تقرير الاستعراض الطوعي المحلي لمدينة بريدة    نجوم لبنان يتنفّسون الصعداء ويحتفلون بانتخاب الرئيس    حساب المواطن: 3.1 مليارات ريال لمستفيدي دفعة يناير    المملكة تخصّص 10 مليارات ريال لتفعيل الحوافز المعيارية للقطاع الصناعي    الأدوار في الحياة    وفاة والدة فهده بنت فهد آل سعود    أوكرانيا تعلن أسر جنديين كوريين شماليين يقاتلان مع القوات الروسية في «كورسك»    لك وإلا للذيب؟    جسور الإنسانية    الاحتلال يقيم بؤراً استيطانية جديدة    «جوجل» تتيح إنشاء بودكاست شخصي    كلاسيكو مثير في نهائي كأس السوبر الإسباني بالجوهرة.. برشلونة يتطلع للثأر من ريال مدريد    في ختام الجولة ال 16 من دوري" يلو".. الطائي يستضيف أبها.. والعين يواجه الفيصلي    الزعيم العالمي خماسية وصدارة.. الفيحاء يفرمل العميد.. السكري يسدد فاتورة الكأس    خادم الحرمين يتلقى رسالة من رئيس السنغال    تحية لسالم الدوسري    الرياض تستضيف الاجتماع الدولي للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    30 يومًا لهوية مقيم للخروج النهائي    أضواء الحميدان في ذمة الله    منع مرور الشاحنات من طريق السيل الكبير    برامج لذوي الإعاقة    شرطة للنظافة في «الدار البيضاء»    وصول الطائرة الإغاثية التاسعة مطار دمشق.. مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية للمناطق السورية    تبرعوا بالأقراص وشاركوها    يعود تاريخ صنعها إلى أكثر من 60 عامًا.. السيارات القديمة تثري فعاليات مهرجان «حرفة»    «مجيد».. ليلة من تفرد الغناء    ثنائية نوال ورابح صقر.. الطرب في أعماق جدة    الهوية ودورة الحياة للمكون البصري    من بلاغة سورة الكهف    «الصخر الشاهد» .. رفع الوعي بالثروات الطبيعية    المرأة الثرية تؤثر على نفسية زوجها    «الغذاء والدواء»: احذروا «ببروني»    فصيلة دم «o» أقل عرضة لأمراض القلب    الذكاء البشري في مأزق    «المنظمة العربية للطاقة».. رؤية سعودية جديدة للتعاون الإقليمي والدولي    مواطن مستبصر    عودة الأمل اللبناني    جوارديولا: ووكر طلب الرحيل عن مانشستر سيتي    هل أشرقت شمس النصر الجديد؟    ماتياس والرئيس    متى نقترب من النسبة الصفرية للبطالة ؟    نائب أمير حائل يستقبل رئيس "مُحكم لتعليم القرآن"    خطيب المسجد الحرام: امتثلوا للأوامر واجتنبوا الكبائر    الديوان الملكي: وفاة والدة صاحبة السمو الملكي الأميرة فهده بنت فهد بن خالد بن ناصر بن عبدالعزيز آل سعود    «اسلم وسلّم».. توعية سائقي الدرّاجات    فحص الزواج غير مطابق ولكن قيس يريد ليلى    10 فائزين بجائزة صيتة للتميز الاجتماعي    للمملكة أهداف أنبل وغايات أكبر    لقاح الإنفلونزا والغذاء الصحي.. نصائح مهمة للوقاية من نزلات البرد    الرياض: القبض على مقيمين لترويجهما 5 كيلوغرامات من «الشبو»    تعددية الأعراق والألوان تتوحد معك    القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    خطيب المسجد الحرام: قيدوا ألسنتكم عن الوقيعة في الأعراض    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين كتابين أو ثلاثة - تأملات رمضانية
نشر في الحياة يوم 17 - 12 - 2000

ما أن يهلّ هلال شهر رمضان على العالم العربي، حتى يعود القمر منظّماً لتوالي أيامه، فيُستأنف التقويم الهجري بعد طول التزام بالتقويم الغربي الميلادي ترتيباً لهذه الأيام.
وباستقراره في الزمن الهجري لمدة شهر، يحسب العالم العربي أنه يدخل زمن الدين والتقاليد. وكي يتآلف معه، بعدما هجره من أجل التقويم الغربي، يستحضر ما بقي في ذاكرته من ذاك الزمن... فيأتي هذا الأخير متنوّع المشارب، متفرّق المطارح.
يأتي، أولاً، الفانوس ذو الضوء الخافت، الباعث على تخيّل ما كانت عليه الإضاءة قبل الكهرباء. وإذا ما اضفتَ إليها مراقبة القمر الرمضاني من هلال الى بدر، وتَرقّب ليلة القدر، وإنتهاء الشهر... أمكنكَ الغوص كثيراً في الأيام التي كان الناس يؤرّخون فيها للحوادث الخطيرة بالليلة التي لم يكن فيها ضوء قمر.
ثم تحضر أنواع الأطعمة والحلويات والمشروبات الرمضانية، وكلها تقليدية، أو تُحسب كذلك. فالمسلمون العرب في رمضان، يمتنعون عن تناول بعض ما كانوا يتناولونه، ويخلون المطاعم السريعة. كما يكثرون من شراب قمر الدين والعرقسوس والجلاّب والسحلب، ويعودون الى الكنافة والكلاّج وزنود الستّ، وينكبّون على طبخات معقّدة هي ما بقي لديهم من معرفة بأطعمة، وشوربات شبه مندثرة.
يُتوّج كلَ ذلك، أو يتخلّله أثناء السحور، النرجيلة أو الشيشة، التي تقتضي الجلوس الطويل المستأنس بمن حوله والمستمتع بلحظات الهضم والتكاسُل. تظلّله خيمة، فيها من الألوان والألحان ما يكفي لتحويل هذا الاسترخاء إلى فعل تذكّر وتخيّل لأيام خلتْ.
وهذان التذكّر والتخيلّ هما ما يجعلان شهر رمضان، شهر الأقارب من أخوة وعموم وأخوال وابنائهم. الأيام الأولى من رمضان مكرّسة للإلتقاء بهم حول المائدة الرمضانية. خلالها تُستعاد بعض الوشائج التي أصابها الوهن أو النسيان. فتنتعش الأواصر القديمة، ويعود بعض الدفء الذي بدّدته الأشهر الغربية.
وفوق الورَع والتقوى، تسري اثناء رمضان ممارسات دينية. ففضلاً عن الزكاة، هناك الصدقات وأشكال التواصل كافة بين الاغنياء والفقراء. خُذ موائد الرحمن مثلاً، وهي مكان يُنصب خلال رمضان في الاحياء الفقيرة والراقية على حدّ سواء، تملأه الكراسي والطاولات المرصوصة التي تدعو أي عابر سبيل الى تناول الإفطار عند العشاء. فيختلط داخل هذه الموائد الجائع بالتائب والجار بالغريب، في مناخ من الدأب على التوادّ والرحمة مما يُفتَقَر اليه في الأشهر الأخرى.
وفي رمضان أيضاً تعود الفنون الدينية والتقليدية الى مكان الصدارة. تتغيّر الوتيرة، فتُذاع وتُباع الشرائط الدينية بكثرة، ويعود من جديد نجم المقرئين والمدّاحين والمنشدين، يليهم الفولكلور الشعبي وفرقه الريفية، ترقص وتغنّي فتعوّض عن غيابها طوال الأشهر الأخرى... فيعبق الجو بصور غريبة ومختلطة، نظن، أو قد نتمنى، أن تكون من التاريخ.
كل هذا محاط بفضائل مقترنة بالعالم السالف ومساكله: النساء مثلاً يصبحن أكثر احتشاماً، وبعض اللواتي يمارسن السباحة اثناء أشهر التقويم الغربي، يمتنعن عن ذلك تماماً أيام رمضان. وبعض القادرات مالياً، يتوقفن عن القيام بادائهن المهني اذا كنّ يعملن في الفن: كحال تلك الممثلة الكوميدية التي صرّحت بأن عمل المرأة في الفن خلال شهر رمضان حرام، وانها تُفضّل عدم التمثيل اثناءه. وإن شاهدتَ هذه الممثلة على الشاشة في رمضان، فهذا لا يشكّك بصدقها: إذ تكون، مثلها مثل بقية زملائها، امضت عشيته تبذل النشاط المكثف إعداداً لمسلسلاته الدراماتيكية حيث يطلع عليك نجوم، وقد أصابهم الوقار، يتحولون إلى قدوة أو أساطير، ويجسدون بأنفسهم بدائع الزمن السالف: هذا ما حصلَ في رمضان الماضي، عندما احتلت صابرين، الممثلة التي أدّت دور أم كلثوم في واحدٍ من المسلسلات الرمضانية، موقع البطولة القومية، ووُضعت على صدرها أوسمة إنجازات "المرأة العربية".
بهذا، يمكن الخلوص الى أن الأنشطة التي يتمحور حولها التوقيت الرمضاني العربي هي العبادة والالتقاء والإحياء والطعام والتسلية والاحتفال، تكريساً لزمن يرى العرب المسلمون أنه زمنهم الأصلي. وهم، لكي يعيشوه مليّاً، يخرجون من الزمن العادي الغربي، بأن يغادروا رموزه ومناخه وأنشطته: فهم اثناء رمضان ينتجون قليلاً، وبعضهم يتوقف تقريباً عن الانتاج. ثم أنهم لا يذهبون الى مكاتبهم إلا باختصار، وبشق الأنفس... وفي كل الحالات، لا تبقى المواعيد ولا المتابعة ولا الأعمال كما كانت عليه في أوقات انتظامهم بالتقويم الغربي.
بل إن الذي لا يصوم في العالم العربي، مرغمٌ على الدخول في هذا التوقيت الرمضاني، وإلا عاش شهراً كاملاً من العزلة والشلل. لذلك ترى العديد من غير الصائمين يقومون بالطقوس الرمضانية كلها تقريباً باستثناء الصيام. يأكلون مع مدفع الإفطار، ويسهرون في السحور حتى الامساك، ويبتهجون بالاناشيد الدينية ويجتمعون بأهلهم. وأيضاً يخلّون بمستوى ادائهم المهني اليومي.
والعرب لهم الحق تماماً في العيش هكذا شهراً واحداً من السنة، وفي زمن يرون أنه زمانهم. فمثلهم مثل الشعوب الأخرى اللاهثة خلف أزمنة لم تصنعها، يحتاجون إلى التوقف: شهرٌ من الهدنة والعودة إلى النفس، شهر من الراحة والتثاقف مع خيالات الماضي وصوره... ومن المسافة الضرورية مع زمن هم دائمو التقصير فيه. ومن حظهم التاريخي أنهم يرون شهر رمضان بهذا المنظار" ولكن هل أفلحوا في تحويله إلى حالة تأمل مثمرة، يعودون منها أكثر حيوية وقدرة على التفاعل الايجابي، أو الخلاّق مع الزمن الغربي المعاصر؟
الأرجح أن حظهم في النجاح قليل وهم أخفقوا لأنهم، بين أسباب أخرى، لم يحموا شهرهم من شرّ الاستهلاك، القابع في أغلب الأنشطة، حتى الروحي منها. فصنّاع المخيلة الرمضانية أعدّوا للمسلمين على الشاشة الفضائية الصغيرة برامج كفيلة بافراغ روحهم من الحياة: حشد من المسلسلات الدرامية المتبلّدة والساذجة سبعة مسلسلات خلال الأربع ساعات التالية على الإفطار، وآخر من الالعاب والاسكتشات التافهة، تتدفّق عليها إعلانات تجارية ذات
وتيرة عاصفة، وتتوسّطها صور رتيبة عن التقوى الحكومية، ثم تتوّجها التغطيات الحية لخيم رمضانية، بات اسمها معروفاً: "الخيم التلفزيونية".
فينتهي شهر رمضان ويعود المسلمون الى أشهر التقويم الغربي من دون أن تكون روحهم قد صفت او تجلّت. ومن دون أن يكونوا، بطبيعة الحال، قد عوّضوا التأخير الذي لا يتوقفون عن ندب أنفسهم لإصابتهم به، منذ أن "صدمهم" الغرب، وفرض عليهم زمانه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.