أعلن العراق وقف تصدير النفط الجمعة، ثم أعلن استئناف التصدير الاحد. وللعراق، وكل بلد منتج، الحق في ضخ النفط أو عدم ضخه، وفي بيعه بالسعر الذي يراه مناسباً. غير ان الحكومة العراقية اخطأت، كالعادة، في القرارين. هي أولاً أساءت تقدير سوق النفط، فازدياد الطلب رفع الاسعار، ولكن لا توجد أزمة، رغم اننا دخلنا الشتاء. والمملكة العربية السعودية وحدها تستطيع ان تزيد انتاجها 1.8 مليون برميل في اليوم، ما يعوض عن معظم الانتاج العراقي. وكانت الحكومة العراقية، بسبب سوء تقديرها حقيقة العرض والطلب في الاسواق العالمية، اقترحت زيادة 50 سنتاً على كل برميل من النفط المصدر توضع في حساب يديره العراق، واقترحت في الوقت نفسه خفض سعر نفطها عن سعر السوق، لتشجيع الشركات على قبول عرضها. غير ان هذه الشركات امتنعت عن الموافقة خشية ان تخالف قرارات العقوبات الدولية. ولم يجن العراق سوى مطالبة "نيويورك تايمز" النافذة الحكومة الاميركية بالتشدد ضد بغداد واستعمال القوة اذا دعت الحاجة. في الوقت نفسه، اظهر القرار العراقي ان صدقية النظام الاقتصادية ليست أفضل منها سياسياً أو عسكرياً، فقد أدى القرار العراقي الجمعة الى هبوط الاسعار بدل ارتفاعها. وفي لندن، هبط سعر البرميل من نفط برنت 1.71 دولار، ووصل الى 30.17 دولار للبرميل. اما في نيويورك فهبط السعر 1.80 دولار ووصل الى 32.02 دولار للبرميل، ولم تتغير الاسعار كثيراً في مطلع هذا الاسبوع. وزير النفط العراقي عامر محمد رشيد قال في تفسير العودة عن القرار ان السياسة النفطية العراقية هدفت دائماً الى المحافظة على استقرار السوق، وان العراق لا يريد عرقلة وصول صادراته النفطية الى السوق العالمية. غير ان هذا لم يكن ما قاله الوزير الجمعة عندما أصر على ان زيادة سعر البرميل 50 سنتاً قرار سيادي لا عودة عنه. العراق يصدر اليوم 2.1 مليون برميل في اليوم، أو حوالى خمسة في المئة من الاستهلاك العالمي، وهو صدر منذ بدء برنامج النفط مقابل الغذاء نفطاً بمبلغ 38 بليون دولار، ولكن العقود التي تشرف عليها الاممالمتحدة لم تتجاوز 8.5 بليون دولار، مع عقود اخرى مجمدة بمبلغ 3.5 بليون دولار، وحوالى 15 بليون دولار مجمدة باسم العراق في البنوك. أما البقية فقد اقتطعت للتعويضات على المتضررين من الغزو العراقي للكويت، وكانت الاممالمتحدة تقتطع 30 في المئة من دخل العراق، هبطت أخيراً الى 25 في المئة. مرة اخرى، العراق محق في بيع النفط، أو تركه في الأرض، وفي تحديد السعر الذي يريد، والعقوبات كلها ظالمة يجب ان ترفع من دون قيد أو شرط فهي تعاقب شعب العراق لا حكومته. غير ان الحكومة العراقية تخطئ كل مرة، ومنذ الخطأ الكبير بغزو الكويت، وفي كل موضوع اساسي، وحتى اليوم، انتهاء بقرارها النفطي، وهي على الأرجح رأت بدء انهيار الحظر الجوي، واعتقدت ان الجو مناسب لتحدي العقوبات الأخرى، غير ان الطيران لا يمكن ان يقارن بالنفط، فالحظر الجوي ليس قراراً دولياً، وانما هو جناية بريطانية واميركية على العراق، ثم ان الدافع لكسره انساني، ورداً على معاناة شعب العراق، والولايات المتحدةوبريطانيا تجدان صعوبة في تبرير موقفهما من قضية انسانية. غير ان النفط مسألة مختلفة تماماً، أولاً كسلعة استراتيجية، وثانياً كجزء من عقوبات لن ترفع حتى ينفذ العراق القرارات الدولية كافة. مرة اخرى، أريد شخصياً ان ترفع العقوبات، ولا أشترط كمواطن عربي شيئاً مقابل رفعها، غير انني واثق تماماً من انها لن ترفع مهما حاول العراق، فالولايات المتحدة تملك حق النقض الفيتو في الاممالمتحدة، وهي ستستعمله حسب الحاجة الى ان يقبل العراق عودة المفتشين الدوليين الذين طردوا قبل سنتين. وكان رئيس المفتشين السابق ريتشارد بتلر، وسلفه رولف اكيوس، أصرا أخيراً على ضرورة استئناف التفتيش. وقال الدكتور هانز بليكس، رئيس الفريق الجديد، ان عنده 72 مفتشاً حاضرون للسفر الى العراق فور السماح لهم بذلك. وموقف العراق منهم معروف، ويبدو ان الحكومة في بغداد تعتقد انها تستطيع ان تكسر العقوبات بالقوة. واكتب ممثلاً نفسي فقط وأقول انني أتمنى ذلك، إلا انني أضيف ان هذا لن يحدث، وان الحكومة العراقية لن تفعل شيئاً سوى اطالة معاناة الشعب العراقي. واذا كانت جريمة النظام بحق شعبه معروفة، فإن ما لا يقل فظاعة عنها هو الحرب غير المعلنة والمستمرة بضراوة ضد شعب العراق. وقد كشفت أرقام رسمية بريطانية حجم العمليات، اذ أظهرت ان الطائرات البريطانية وحدها اسقطت على العراق منذ عملية "ثعلب الصحراء" في نهاية 1998 حوالى أربعة أطنان من القنابل كل شهر، مقابل 2.4 طن في السنوات الست السابقة كلها. واذا كانت هذه أرقام بريطانيا، فالقارئ يستطيع ان يتصور حجم العمليات العسكرية الاميركية الموازية. في النهاية، صدام حسين مذنب الا ان خصومه ليسوا أبرياء، والشعب العراقي الواقع بين سندان حكومته ومطرقة أعدائه يدفع الثمن وحده كل يوم.