للمرة الثانية في أقل من ثلاثة أشهر، وفي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يستخدم الرئيس حسني مبارك تعبير القرارات أو المواقف "العنترية"، في سياق الرفض التام أو مجرد الاستهجان أو كلاهما معاً. المرة الأولى كانت في مجال استهجان الدعوات العربية التي طرحت على عجل في الأيام الأولى لانتفاضة الأقصى بشأن الحرب، وتمنيات قادة عرب أن يكون لديهم قطعة أرض بجوار إسرائيل ليثبتوا نظرتهم في حشد القوات العربية والانقضاض على الدولة العبرية. والمرة الثانية في الحادي عشر من كانون الأول ديسمبر الجاري وفي حوار بين الرئيس وأعضاء الهيئة البرلمانية للحزب الوطني الحاكم تعلق جانب منه بموضوع مقاطعة السلع الأجنبية كنوع من التضامن مع الشعب الفلسطيني في انتفاضته أو لنقل في محنته. وعندها ربط مبارك موضوع المقاطعة بمعيار المصلحة العامة وليس القرارات "العنترية"، معتبراً أن سلاح المقاطعة سلاح ذو حدين. فكما يمكن أن نستخدمه نحن ضد آخرين، فهو ايضاً متاح للآخرين لكي يستخدموه ضدناً. وليس بخافٍ أن تعبير "العنترية"، معطوف ضمناً على ما هو مخزون في الذهن العربي الجماعي لتلك المغامرات الشهيرة لواحد من مشاهير التراث العربي في الجاهلية، عنتر بن شداد الذي كان يذهب محارباً هنا وهناك استناداً الى قوته البدنية ونزوعه الفطري نحو الانطلاق والتحرر. وكما هو واضح فإن كلا الموقفين اللذين استخدم فيهما تعبير "العنتريات" يتعلقان بالتطورات الاخيرة في القضية الفلسطينية، لا سيما في شقها المتعلق بمشاعر غاضبة لدى الرأي العام العربي تولد عنها ميل للفعل الشعبي الذي لا يأبه بحدود عمل الحكومات أو تفسيراتها وتنظيراتها، وعمل على تجاوزها منفرداً. والمهم هنا أن هذين الموقفين الرافضين "للعنتريات" يعكسان ليس فقط طريقة تفكير مصر الرسمية في معالجتها لما يجري في الأرض المحتلة، ولكن ايضاً يبرزان جملة قيم ومبادئ طالما حرصت عليها السياسة المصرية منذ ربع قرن أو أكثر قليلاً، من قبيل منع الانزلاق لحرب نظامية مع إسرائيل، والحرص على تشكيل استقرار إقليمي يسمح بتسويات تاريخية للصراع العربي - الإسرائيلي، والعمل على احتواء الاطروحات الراديكالية التي تطرح كأسلوب لمعالجة هذا الصراع، والحرص على استمرار قنوات الاتصال مفتوحة مع إسرائيل تحت أي ظرف على سبيل أدوات الاقناع والتأثير والتواصل والضغط بحسب ما تسمح به الظروف. وهذه كلها تمثل ما يمكن وصفه بالتعبيرات العملية والقيم المتضمنة في مقولتي: السلام خيار استراتيجي، وأن حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 هي آخر الحروب. لكن خيار السلام الاستراتيجي وحده لا يسفر عن معنى "العنتريات" المرفوض في دعوة مقاطعة البضائع والسلع الأجنبية. فنحن هنا امام بُعد آخر في حركة السياسة المصرية لا يقل أهمية عن البُعد الأول السياسي / الاستراتيجي، ولكن على صعيد اقتصادي. انه البعد المتعلق بالسعي الحثيث الى الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي، بكل ما يعنيه ذلك من تطوير آليات العمل في الداخل قانونياً ومؤسسياً وانتاجياً وتقنياً من جانب، والعمل الدؤوب لجذب استثمارات اجنبية لدفع دولاب العمل والتصنيع والتصدير واحتواء البطالة من جانب آخر. فهذا البُعد وبشكله المعلن يتصادم ليس فقط من حيث الهيكلية الذاتية للسياسة المصرية، وإنما ايضاً من حيث النتيجة المرجوة، إذا ما تحولت عملية المقاطعة للسلع الأجنبية إلى سياسة رسمية تتبناها الحكومة. فحينها لن تكون عملية الاندماج في النظام العالمي وعبر آلياته الأساسية المتمثلة في الشركات الكبرى والعضوية في الغات واتفاقات الشراكة وحرية تبادل السلع والمنتوجات والخدمات مع التجمعات الدولية الاساسية، امراً يسيراً، وذلك إن لم يتحول الأمر إلى تناقض صارخ يصعب تبريره أمام الاطراف المؤثرة في الاقتصاد الدولي. إن حل هذا التناقض مع عناصر الاقتصاد الدولي برفض المقاطعة لا ينفي وجوده مع عناصر في الداخل المصري نفسه. ونشير هنا إلى ثلاثة جوانب لهذا المأزق في الداخل. الأول الذي تمثله الفتاوى الدينية الصادرة رسمياً عن مفتي الديار المصرية الشيخ نصر فريد واصل والشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر، وهما مؤسستان دينيتان رسميتان، ومؤثرتان في عموم المواطنين البسطاء وغير البسطاء. وهي الفتاوى التي تضمنت تحفيزاً للناس على مقاطعة البضائع الإسرائيلية والأميركية التي قد تصب في خانة مساعدة العدوان على الفلسطينيين. وهي فتاوى تجد راحة وتأييداً من قطاعات عدة، بل إن كثيرين يرونها اكثر من مجرد فتوى أو اجتهاد يمكن التغاضي عنه، بل أقرب إلى أمر واجب الطاعة والالتزام. ويقود هذا الى الشق الثاني من حال التناقض بين الموقف الرسمي والحال الشعبية بشأن المقاطعة. إذ تشير مؤشرات عدة" من قبيل انخفاض الإقبال على نوعيات معروفة من السلع الاميركية غالبيتها ذات منشأ مصري بالأساس، وارتفاع شكاوى أصحاب المصانع والمحال العاملة في هذه النوعيات من السلع نظراً لما أصابهم من خسائر في الفترة الماضية. وإعلان شركة انكليزية كبرى عاملة في مجال توزيع السلع الاستهلاكية عن عزمها تصفية أعمالها في مصر بعد خسارة تفوق 10 ملايين جنيه استرليني، وغير ذلك من المؤشرات التي تعبر عن درجة عالية من الالتزام الشعبي الطوعي بمسألة المقاطعة تعبيراً عن التأييد المعنوي لانتفاضة الأقصى ولتوجيه رسالة في حدود ما يستطيعه الفرد العادي الى المؤسسات الأميركية برفض الانحياز الأعمى لإسرائيل وسياسة المعايير المزدوجة حول حقوق الانسان وسبل تعاملها مع معاناة الفلسطينيين خصوصاً والمسلمين عموماً. وجوهر التناقض في هذا الجانب تحديداً يكمن في أن رؤية الحكومة تحركها اعتبارات الاندماج في البيئة الدولية كما سبق الإشارة اليه، ومدفوعة بما تعتبره مصلحة عليا للوطن بأسره. في حين أن موقف الناس تحركه اعتبارات شعورية وسياسية ودينية في آن، وذلك بغض النظر عن تلك الانشطة التي تتابعها بعض لجان تدعم المقاطعة وتعمل على التمسك بها، ولكنها تتركز في العاصمة ولا يصل صوتها الى الناس في الأقاليم قوة صوت الفتاوى نفسها، جنباً إلى جنب المشاعر الغاضبة المتأصلة في النفوس منذ مشهد مقتل الطفل الشهيد محمد الدرة. والمفارقة الكبرى هنا أن لا أحد في الحكومة وأجهزتها الإعلامية أو من المحسوبين عليها كالحزب الوطني مثلاً، أو كبار الكتاب متعددي الانتماءات الفكرية الذين يرون في هذا النوع من المقاطعة الشعبية ضرراً بالغاً على الاقتصاد المصري، قد تعامل مع هذه القضية بقدر من الجدية اللازمة التي تتساوى مع تعقد القضية وتشابكها مع مشاعر الناس ورؤيتهم لدورهم الطبيعي في مناصرة أخوة لهم في الدين والقومية والهوية، ويتعرضون لأبشع درجات الظلم والمعاناة. وبعض من تعامل مع هذا الموقف الشعبي تناوله ساخراً ومتهكماً من الناس أنفسهم، وليس محللاً أو شارحاً، والبعض اعتبرها مجرد نزوة شعبية أو مجرد تأثر عاطفي عابر بمنشورات وبيانات طبعها ووزعها إسلاميون أو قوميون بعيدون عن تقدير المصلحة العليا للبلاد، نظراً لجهلهم وتقوقعهم على أفكار ومبادئ ايديولوجية بالية، فيما البعض الآخر تعامل معها كخطر كبير سوف يعصف بالاقتصاد الوطني إن ترك الأمر على حاله، وفاحت بين كلماته دعوة الى تدخل حكومي ولو بالقوة. وما بين السخرية والتهكم المرفوض والمبالغة في سوء العواقب، غابت الحقائق وضاعت ملامح القضية، ولم يقل أحد بموضوعية ومنهجية كيف يعبر الناس البسطاء عن مشاعرهم، وقد سدت أمامهم سبل المشاركة الحقة سياسياً ووطنياً. وتعبر طريقة التعامل تلك وشق منها حكومي يتحمله الإعلام الرسمي - مع استثناء 15 دقيقة وردت في برنامج تلفزيوني شهير تناول القضية مطلع حدوثها بقدر من الجدية اللازمة - عن درجة من التعالي المنهجي على كل ما يتعلق بالرأي العام، والافتقار الى آليات وسبل ناجعة لمناقشة القضايا الحيوية التي تستقطب اهتمامه وتؤثر في سلوكه العام. وربما اعتقد القائمون على الإعلام المصري أنهم بتجاهلهم لهذه القضية، سوف تموت من تلقاء نفسها، أو أنها لا تستحق وقفة تأمل ومناقشة جادة بالأرقام والحسابات وشرح لمفهوم المصالح العليا. ومثل هذه السياسة وإن كانت تفضح قصور الإعلام المصري في مناقشة ما يهم الرأي العام بعقلانية وروية، فإنها تفضح من جانب آخر قصور الإعلام في التخديم على واحدة من القضايا الحيوية المتعلقة بأولويات الحكومة نفسها، أي جذب الاستثمارات وتشجيع الشركات الكبرى على الوجود في بنية الاقتصاد المصري، وما يعنيه ذلك من القصور في تقديم مظلة حماية معنوية للمستثمرين المصريين أنفسهم. لا أحد مع طرح "عنتريات" إنْ في السياسة أو الاقتصاد أو الاستراتيجيا أو الأمن، فذلك مما تفرضه الحكمة أحياناً، وقلة الحيلة أحياناً أخرى. أما حين تتوافر الحيل والإمكانات ويغيب الشرح ويتم تجاهل الناس ومشاعرهم، فتلك بدورها قمة "العنترية" المرفوضة والممجوجة معاً. * كاتب مصري.