لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى كوبا مدلولات تتعدى نطاق العلاقات الثنائية بين البلدين، فهي تكرس نهج التنصل من الإرث اليلتسني وتؤشر لتحولات في مواقف الكرملين وصفت بأنها "اختراق نحو الماضي" لكنها في الواقع محاولة لتثبيت هوية جديدة لروسيا. فقبل زهاء السنة ورث بوتين بلداً كان اقتصاده في غيبوبة والدولة في سبات، والأخطر من ذلك ان السلطة ومعها جوقة المنتفعين كانت في واد والغالبية الساحقة في واد آخر. وغدت مهمة الرئيس الجديد متمثلة في جرد ما تبقى من موارد لم تنهب بعد وتوظيفها في سياق برنامج... لا وجود له. فبوتين تسلم السلطة بقرار مفاجئ اتخذه بوريس يلتسن، ولذا لم تكن لديه استراتيجيات جاهزة للخروج من المستنقع، بل ان همه في المرحلة الأولى انحصر في تلمس موطئ قدمه في دهاليز مليئة بألغام بثها الرئيس المستقيل الذي أبقى "رجاله" في مناصب حساسة. وبدأ وضع "برنامج بوتين" اثناء المسيرة وكان مستوحى من دروس تلقنها في مدرسة "كي جي بي". فضباط جهاز المخابرات السوفياتي، رغم عضويتهم الالزامية في الحزب الشيوعي، لم يكونوا يؤمنون بالعقيدة الماركسية اللينينية قدر إيمانهم بضرورة قيام دولة قوية، أياً كانت هويتها الايديولوجية. ولذا بدأ الرئيس الجديد تعزيز هرم السلطة وسعى الى انهاء حال التشظي والتبعثر وتخلى عن معادلة يلتسن الذي طلب من قادة الاقاليم ان "يأخذوا من السيادة ما استطاعوا ان يهضموا". إلا ان مثل هذا التوجه طبق أحياناً بعسف كما في الشيشان، حيث حصل تناقض بين مبادئ وأهداف قد تكون سليمة وحدة الأراضي، انهاء حالات خطف الرهائن والقتل العشوائي وغزو جمهوريات مجاورة وبين أساليب مفرطة في استخدام القوة ومتجاوزة للقواعد الانسانية. ومن منطلق تعزيز السلطة بدأ بوتين محاولاته لتثبيت مبدأ "سيادة القانون" وجعله سارياً على الجميع، ملغياً بذلك "استثناءات" تمتع بها قريبون الى الكرملين سابقاً وبينهم البليونيران اليهوديان فلاديمير غوسينسكي الذي اعتقل في اسبانيا بطلب من النيابة العامة الروسية لاتهامه بالنصب والاحتيال، وبوريس بيريزوفسكي الذي هرب الى فرنسا خوفاً من اتهام مماثل. والأكيد ان الانتماء الديني ليس الدافع لتعقب الرجلين اذ ان بوتين يحتفظ بعلاقة قوية بعدد من كبار رجال الأعمال والساسة اليهود. إلا أن اللوبي الصهيوني اعتبر "التطاول" على نائب رئيس المؤتمر اليهودي العالمي غوسينسكي خطوة غير مسبوقة في روسيا ما بعد السوفياتية وتحدياً لا يمكن السكوت عنه ولذا قرعت طبول "العداء للسامية". والأرجح ان الرئيس الروسي يحاول ان يفرض قواعد لعب جديدة يكون فيها الجميع سواسية أمام القانون، إلا أن أسلوب أداء السلطة يوحي بوجود معايير مزدوجة. إذ أعفى عن المسؤولية الرئيس السابق يلتسن وأفراد عائلته رغم ان النيابة العامة السويسرية سلمت موسكو وثائق ذُكر انها حوت أدلة على تورط هؤلاء في الرشوة والفساد. عشية زيارته هافانا أكد بوتين ان النظام السابق "ارتكب خطأ" بتوقفه عن التعامل مع كوبا وانضمامه عملياً الى السياسة الأميركية حيالها. وينبغي ألا يبنى على ذلك ان روسيا بوتين قررت العودة الى سياسة الحرب الباردة، فالرئيس يدرك ان بلاده التي تحولت الى "متسول عالمي"، كما قال السياسي المعروف امان تولييف، غير قادرة على منافسة الولاياتالمتحدة على زعامة العالم. لكن موسكو تبدو متجهة نحو سياسة مستقلة تضع مصالحها الوطنية قبل المصالح الأميركية. ويشير محللون في موسكو الى أن الاقتصاد السوفياتي لم يكن يضاهي الاقتصاد الأميركي لكن الكرملين آنذاك تمكن من استخدام عتلات أخرى بينها القدرة النووية والرقعة الجغرافية والأهم من هذا وذاك ان موسكو استثمرت "براعة" الأميركيين في خلق عداوات لهم، وكان تحالف الاتحاد السوفياتي مع القوى المناوئة للاستعمار خلق له ركائز مهمة في العالم. ولا يمكن القول بأن بوتين حدد معالم استراتيجية روسيا للقرن الواحد والعشرين ولكن الدب الروسي أخذ، في ما يبدو، يصحو من السبات.