إذا كان الصراع "الفكري" الصيني - السوفياتي قد أوصل البلدين الى وقت لعلع فيه السلاح بينهما، مرة في العام 1969 حين بات يهدد حقاً بحرب عالمية، ومرة اخرى أواخر سنوات السبعين، فإن بداية ذلك الصراع "الرسمية" كانت مجرد بداية إعلامية. أي أن "كل شيء" ابتدأ يومها عبر مقال عنيف نشرته "يومية الشعب" الصينية وحمل على الاتحاد السوفياتي وحكامه بعنف لم يسبق له مثيل، لا في العلاقات بين الأحزاب والحكومات الشيوعية، ولا حتى في العلاقات بين "الشرق" و"الغرب". كان من الواضح أن الكيل قد طفح في بكين، وأن حكام هذه الأخيرة وعلى رأسهم ماوتسي تونغ، بالطبع، لم يعودوا قادرين على السكوت أكثر. ولسوف يتبين في ذلك الحين أن السكوت والتحمل - والصراع الخفي - كانت موجودة، على شكل نار ملتهبة تحت الرماد، منذ انتصار الثورة الصينية في العام 1949. إذ منذ ذلك الحين لم يتورع ماوتسي تونغ الذي خرج من الصراعات الداخلية منتصراً، وإلى حد ما بفضل الدعم السوفياتي، عن بذر بذور الخلاف بين البلدين والحزبين ولئن كانت أوساط شيوعية عالمية كثيرة تساءلت طوال سنوات وسنوات عن سر وجذور ذلك التدهور الذي عرفته العلاقات بين القوتين الشيوعيتين الأعظم في العالم، بحيث أن جزءاً كبيراً من ذلك التدهور ظل عصياً على الفهم بالنسبة الى عباد الله الصالحين، من الذين لم يقيض لهم "شرف" الدخول في متاهة الخلافات الايديولوجية والتفاصيل التاريخية، فإن المقال العنيف الذي نشرته "يومية الشعب" في مثل هذا اليوم من العام 1962، أتى ليوضح وليضع النقاط على الحروف، وطبعاً من وجهة النظر الصينية، علماً أن السوفيات وحلفاءهم في العالم كله كانت لهم، في الأمر برمته، وجهة نظر اخرى. كان المقال مستنداً، بالطبع، الى أقوال الزعيم الصيني ماوتسي تونغ وأفكاره، ما كان يعني أن كل كلمة فيه مقصودة ومدروسة بعناية، وأن المقال إنما يضفي - أخيراً - طابعاً رسمياً وانشقاقياً على صراع كان لا يزال في حاجة الى ذينك البعدين حتى يصبح في خلفية واحد من أكبر الانشقاقات في الحركة الشيوعية العالمية، منذ الانشقاق التروتسكي ومحاكمات موسكو، على الأقل. كان المقال عبارة عن رصد للصراع ومنعطفاته الأساسية وجاء فيه، أو في بعض أجزائه الأقل سخونة العرض التالي: "في العالم 1958 كان الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف يرغب في خلق أسطول بحري سوفياتي صيني مشترك، وذلك بهدف منع الصين من مهاجمة تايوان وفي العام 1959، إبان صراعنا الحدودي مع الهند، دعمت الزعامة السوفياتية نهرو ضدنا .... لكن الحقيقة هي أن المشكلات السوفياتية - الصينية بدأت باكراً، ومنذ العام 1945 حين أراد ستالين أن يوقف زحف الثورة الصينية ... يومها لم نتبعه وكنا نحن، الرابحين. وبعد الانتصار خشي ستالين أن تصبح الصين يوغوسلافيا جديدة، وأن أصبح أنا ماوتسي تونغ تيتو آخر. وحين توجهت الى موسكو، بين 1949 و1950، لم يشأ ستالين ان يوقّع معي أية معاهدة تحالف. يومها اضطررت الى النضال طوال شهرين قبل أن أحصل على توقيعه على المعاهدة. بعد ذلك حين اندلعت الحرب الكورية بدا على ستالين أنه بات واثقاً بنا، لكنه الآن يصفنا بأننا "مغامرون" و"قومويون" و"دوغمائيون" و"انفصاليون"، في الوقت نفسه الذي لا يتوانى فيه عن وصف اليوغوسلافيين ب"الماركسيين - اللينينيين". وهذا ما يجعلنا من الآن فصاعداً في قلب الصراع بين الماركسية - اللينينية الحقيقية وبين التحريفية". ولنلاحظ هنا أنه بعد ذلك الصراع الإيديولوجي الذي استشرى بين بكينوموسكو أيام ستالين، جاء تفاقم للصراع جعله ميدانياً أكثر بعد مجيء خروتشيف الى السلطة، وبعد أن بدأ نزع الستالينية ورجمها في موسكو، يومها بدلاً من أن يحدث تقارب بين الدولتين وحزبيهما، على أطلال الستالينية، ازدادت الهوة اتساعاً بينهما. وبات الصدع كبيراً حتى بصدد مسائل وصراعات مسلم بها، مثل الأزمة الكوبية والصراع الصيني - الهندي وتزود الصين بالسلاح النووي... وصولاً الى سحب الخبراء السوفيات من الصين. وهكذا بات واضحاً أن الانشقاق دائم ونهائي، وأن المسألة قومية وليست فكرية، وأن ما بين البلدين، رغم شيوعيتهما، جذور صراعات تغوص عميقاً جداً في التاريخ. وكان أن ترحم كثيرون على زمن نشرت فيه "صحيفة الشعب" تصريحات ماو تلك التصريحات التي أضفت على الصراع سمات حضارية على الأقل. الصورة: ماوتسي تونغ، جذور الصراع مع موسكو.