يبدو منظراً مألوفاً اليوم في الشارع السعودي ان ترى شباباً سعوديين يرتدون "الجينز" ويحملون صناديق الفاكهة والخضار الى سيارات الزبائن، او يقومون بايصال اغراض ومشتريات من السوبرماركت، او حتى يقفون امام محلات الاتصال المدفوع، او ال"كافي شوب" لاستدعاء الزبائن. هذه المناظر التي بدأ الشارع السعودي ومن قبله المجتمع السعودي في تقبلها كانت شبه مستحيلة وضرباً من الخيال ابان فترة الطفرة خصوصاً في عقد الثمانينات، وحتى مطلع التسعينات. يدرك الجميع الآن انحسار الطفرة عن البلاد، ويعرفون ان الاوضاع الاقتصادية ما عادت بالرخاء الذي يعهدون، والأهم ان بعضهم بدأ يقتنع ويطبق قناعاته بضرورة التخلي عن فكرة الوظيفة "الميري"، وغبارها وترابها التي لم تعد متاحة لتشبع القطاع الحكومي وتكدس الموظفين فيه والبدء في التفكير العملي لايجاد عمل حقيقي او مهنة جديدة تكون مصدر الرزق. ومع مرور السعودية بأزمات اقتصادية متتالية، بدءاً بحرب الخليج الثانية ومروراً بزيادة النمو السكاني المضطرد وانتهاء بتقلب أسعار النفط، مما أثر في شكل كبير على معدل دخل الفرد السعودي الذي بدأ بالانخفاض نوعاً ما، معاكساً بذلك ارتفاع اسعار المعيشة، اضافة الى انحسار فرص التعليم الجامعي والتوظيف للخريجين، مع كل ذلك بدأت شريحة جديدة من الشباب في التشكل، شباب يعملون بأيديهم، ويرتدون الياقات الزرق، ويأكلون من عرق جبينهم. ماذا تفعل هذه الشريحة؟ وكيف تفكر؟ وما تواجهه؟ طرحت "الحياة" هذه الاسئلة على اربعة منهم. الشاب يحيى عاتي البالغ من العمر 23 عاماً طالب جامعي يعمل بعد الظهر في "كابينة" للاتصالات الهاتفية، يستقبل الزبائن، ويحاسبهم ويعزو السبب المباشر للعمل "الى ضرورة ايجاد موردٍ مالي للانفاق على نفسي ودراستي وأحياناً لمشاركة الأهل في تسديد بعض الالتزامات والفواتير التي تنهمر في نهاية كل شهر. ولأنني لست من سكان مدينة الرياض، وليس لي سكن جامعي، فلا بد من السكن خارج الجامعة وذلك يتطلب ايجار شهري او سنوياً". ويضيف عاتي: "إن لم أعمل لن استطيع اكمال دراستي في الجامعة، وعملي هو محاسب في كابينة اتصالات وتكتظ الرياض بمثلها، حتى اصبحت اكثر من محال البقالة، ولا اجد اي صعوبة في عملي بل انني اكتسبت الكثير من الخبرات في مجالات متعددة، منها كيفية التعامل مع العملاء، وكيفية ادارة الحسابات بكل يسر وسهولة، وبالتالي اعتقد انني حصلت على اكثر من المال بل اهم منه بمراحل". وحول نظرة المجتمع له يقول: "في الحقيقة مجتمعي ينظر الي والى عملي بكل احترام وتقدير، لانه عمل شريف، والاقبال عليه في تزايد مستمر، ولم اجد من ينتقدني في ذلك ولله الحمد، بل وجدت كل تشجيع ودعم من كل من رآني في مكان عملي، وراتبي الشهري يبلغ 1500 ريال 400 دولار، وهو مبلغ يساعدني في الكثير من الأمور، وأعتقد أنه مناسب بالنسبة لكمية العمل وكيفيته، حيث أنني أعمل لمدة ثماني ساعات يومياً ومن دون أي إجازات لا اسبوعية ولا شهرية، وهذا ادى الى ترك الكثير من الشباب هذا العمل لأنه مرهق وبلا إجازات، اضف الى ذلك الشروط التي يفرضها اصحاب هذه الكبائن الهاتفية، ومن ذلك دفع مبلغ مالي لا يقل عن 1500 ريال كتأمين، وقد يصل الى 4500 ريال في بعض الأماكن، وهذا المبلغ لا يتوافر مع الكثير من المتقدمين لملء هذه الوظائف". ويشكو عاتي من عدم وجود نظام يحمي العامل على مثل هذه الوظائف من الفصل المزاجي من قبل رب العمل، "فمتى حصلت على الشهادة الجامعية والتحقت في وظيفة تناسب تخصصي، سأترك عملي لإعطاء الفرصة لغيري، لعلهم أحوج مني لهذا المبلغ". ومن المواقف الطريفة التي واجهت يحيى عاتي في مجال عمله موقف بينه وبين امرأة نيجيرية الجنسية، حاولت الاتصال بذويها في نيجيريا، ولكن الخط الهاتفي كان مشغولاً، وبعد ان يئست من محاولات كثيرة "فوجئت بها وهي تطلب مني ان افتح لها الخط الهاتفي حتى يمكنها الاتصال بذويها، فأجبتها أن الخط مشغول من نيجيريا وليس من هنا، واشتد غضبها وارتفع صوتها في المحل والناس ينظرون الي بغرابة خصوصاً وانها امرأة، لذا اتجهت نحو الشارع للاستنجاد بسيارة شرطة حتى تحل المشكلة القائمة، وانتهت المشكلة بسلام". ويعتقد عاتي انه لا بد من التفكير في فرص عمل اخرى مشابهة لمجال الكبائن الهاتفية لاستيعاب الشباب القادر على العمل والدراسة معاً، وليس لمن ينظر لهذا العمل على انه لا يتجاوز كونه مجرد تسلية وتمضية وقت، مع الحصول على بعض المبالغ المالية والتي تغطي بعض "المصاريف الخاصة". والتقت "الحياة" بالشاب عبدالله شراحيلي البالغ من العمر 22 سنة ويعمل بائعاً في محل للخضار والفاكهة، ويحمل شهادة الكفاءة المتوسطة، وقد توقف عن الدراسة وبدأ العمل، يقول: "الدافع من وراء عملي هذا، هو الحصول على مبلغ مالي يساعدني على تسيير أمور حياتي، وفي المقابل لمساعدة والدي الذي يملك هذا المحل، حيث نقوم ببيع الخضار والفواكه والتي اصبحت تدر على الكثير من ابناء هذا البلد المال الوفير، الامر الذي كنا غافلين عنه طيلة السنين الماضية، وبدلاً من جلب عامل اجنبي للعمل في المحل، قررت الحكومة سعودة العمالة في هذا المجال، فقمت بالعمل جنباً الى جنب مع والدي وعمي حتى لا تذهب اجرة العمال بعيداً". وحول نظرة المجتمع له، يضيف: "اما نظرة الناس من حولي، فإنهم يرون انني اقوم بمساعدة والدي من جهة، ومن جهة اخرى احاول الحصول على مبالغ مالية لتغطية تكاليف المعيشة، ولتخفيف العبء عن الاسرة، والحقيقة ان العمل ليس شريفاً فحسب بل محترم ومقبول اجتماعياً، ومن خلاله نحصل على مبالغ مالية كبيرة والربح موجود ولله الحمد". ولا تبدو الامور هادئة دوماً فهناك بعض العوائق امام الشاب الشراحيلي الذي يقول: "ان هناك بعض العوائق الصغيرة التي تقف امام من يعمل في هذا المجال، وهي انتشار محلات بيع الخضار والفواكه من دون ادنى تخطيط يحفظ لكل تاجر او عامل فرصته في تحقيق الارباح المتوقعة، لان خطوة فتح محل للخضار سهلة ولكن المشكلة في اغلاقه بسرعة من دون تروٍ لعدم اجراء دراسة في البداية، واما بالنسبة للراتب فيبلغ 2000 ريال 533 دولاراً شهرياً وهو يغطي تكاليف معيشتي المتواضعة وإن شاء الله يكون عملي هذا عملاً دائماً وليس موقتاً لأنني تذوقت حلاوة العمل والربح والمكسب الحلال". الطالب الجامعي علي المالكي - 25 سنة - يعمل في احد فروع سلسلة سوبرماركت "بنده" في وظيفة "كاشيير"، يقول: "لكوني جئت الى الرياض من اجل اكمال تعليمي، وبما انني انتمي الى عائلة من ذوي الدخل المخفوض، وبما ان الجامعة لا تمنح سكناً للطلاب، ولعدم وجود سيارة خاصة لدي، فانني اتجهت للعمل حتى اوفر المال الكافي لتغطية نفقات الدراسة والسكن والمواصلات، ولأساعد الوالد في تحمل مطالب الاسرة، لذا فإن اقبالي على العمل ليس لسبب واحد فقط، بل منظومة من الاسباب المتكاملة، علماً ان عملي ليس صعباً بقدر ما فيه من الانضباط والدقة فقط". ويتنقل المالكي تبعاً للظروف بين ان يكون "كاشيير" عند نقاط البيع ومشرفاً على تنظيم المواد الغذائية ونظافتها وصلاحيتها، "ومن هنا احببت العمل لانه يبعد الرتابة والروتين عن العامل". ويضيف : "اما عن نظرة المجتمع الي فهي نظرة مليئة بالاحترام والتقدير، ولكن لا يخلو المجتمع من بعض الناس الذين لا هم لهم سوى التهكم والتجريح، ولكنهم قلة ولكل قاعدة شواذ. وما يعيقني في مجال عملي هو تغيير مواعيد العمل بصورة منتظمة خصوصاً انني طالب جامعي، ولا بد من الحضور للانتفاع بالمحاضرات، وهناك مشكلة اخرى تتمثل في ان الجامعة اذا علمت أن هناك طالباً يعمل بعد دوام الدراسة في الجامعة فإن الحسم من المكافأة هو العقاب في نظرها، مع ان المكافأة على حد علمي هي منحة ملكية بمرسوم ملكي وليس لاحد الحق في التصرف بها الا بصدور مرسوم آخر، وايضاً لم يراعوا ان المكافأة لم تعد تفي بمتطلبات الحياة العادية فما بالك بالحياة العملية ومتطلباتها، خصوصاً اذا لم تكن من سكان الرياض". ويتقاضى المالكي اجراً شهرياً يعتبره معقولاً ويبلغ 2200 ريال 586 دولاراً، وهو يغطي الاحتياجات الضرورية، و"عملي في الواقع ليس موقتاً فحسب بل مصدر دخل لي ولأهلي، ومتى وجدت البديل الافضل سأتجه فوراً نحوه من دون تردد". عبدالعزيز الحارثي - 24 عاماً - ويحمل المؤهل الثانوي، ويعمل في كابينة اتصالات، يقول: "بعد ان حصلت على شهادة الثانوية اردت الحصول على عمل ولكنني لم اجده لاسباب كثيرة، منها انه لا بد من الحصول على شهادة في استخدامات الكومبيوتر، فاتجهت للحصول على عمل موقت يعينني على دفع مصاريف دورة كومبيوتر، لذلك اتجهت للعمل في كابينة اتصالات، وتم لي ما اردت، فصرت اعمل في الليل وادرس في النهار حتى حصلت على الشهادة المطلوبة". ويضيف: "توجهت للاشتراك في المسابقة على الوظائف التي يطرحها ديوان الخدمة المدنية بين فترة واخرى، ولكنني لم اوفق في ذلك، لعدم اجتيازي الكشف الطبي والذي ذكر تقريره انني مصاب ب"الانيميا الحادة"، وبالتالي خسرت فرصتي في الحصول على عمل حكومي، واصبح عملي - الذي كان موقتاً في السابق - دائماً في الوقت الراهن، ولان والدي لا يعمل فإنني احاول ان اعيل اهلي من خلال راتبي مما صعب الامر علي، فاضطررت للعمل على مدى 16 ساعة يومياً من اجل توفير لقمة العيش لي ولاهلي، اضافة الى ايجار البيت ومصاريف المواصلات". والعمل من وجهة نظر الحارثي ليس صعباً "بل مرهق فقط بالنسبة لي، اضف الى ذلك انني المشرف على الكابينة"، واما نظرة المجتمع له فهي لا تهمه، بالدرجة الاولى: "عملي شريف ومحترم، وأرى ان العمل في مثل هذه الاعمال الصغيرة امر ضروري ومهم، فمن دون تلك الاعمال ستتعطل الكثير من المصالح في المجتمع، وكل الانظار الآن تتجه للظفر بعمل اياً كان مستواه، وذلك لندرتها وازدياد اعداد المتقدمين اليها". ومن اهم العوائق التي يواجهها عبدالعزيز في عمله، عدم وجود اي يوم اجازة، "وتسيير الفرد وكأنه آلة لا تكل ولا تمل، وعذر اصحاب العمل هو وجود الكثير ممن يتمنون الفوز بفرصة الحصول على العمل، وبالتالي فإن ذهاب اي شخص سيعوض في الحال، وإن فكر في المطالبة بزيادة في مرتبه سيقابل بالرفض او الفصل من العمل من دون سابق انذار".