تتحول الكتابة عند محمد مستجاب الى إبداع من نوع خاص. فهو كاتب يعيش الكتاب في حياته اليومية، ويجعل الكتابة تفتح الحواس - دفعة واحدة - على العالم الحي، ويتحول نصه الى كائن ينبض بالحياة والوجدان والعقل والشعور والذاكرة فتشعر في نصه بثراء الحياة في قالب من السخرية التي تضفي على عالمه عمقاً من نوع خاص. تشعر أيضاً انه ينقل اليك حالاً انسانية، ولذلك تتخذ عناوينه تجسيد إحساس معين. ف"حرق الدم" تشير الى حال الغضب والغليان الذي يعتري النفس. و"أبو رجل مسلوخة" صدر عن مركز الحضارة العربية، القاهرة تجسد حال الخوف والضيق المترسب في النفس منذ أزمان سحيقة. ويشعر القارئ وهو يقرأ نصوص محمد مستجاب ان الكتابة حياة، ولا تشعر ان لديه فاصلاً بينه وبين الكتابة، وإنما تتحول قراءته الى نوع من المعايشة، ويغريك بالاعتراف وأنت ترى الكتابة بؤرة حية تتجمع فيها كل تقنيات الكتابة، وكل أدوار المؤلف وأقنعته يطرحها أمام القارئ وكأنه يطرح سيرته الشخصية. فيتحدث عن نفسه بجرأة، وعن بيته وأولاده وأحفاده. وتتعرف على حيوات مختلفة، وأنت تتعرف على مفردات أو تفاصيل الزمان والمكان. ويتم تقديم التفاصيل في صيغة حية من الفعل اليومي. وهو يكتب نصه في بنيته الشفاهية، التي تجعله ينطق ويكتب الاشياء كما هي، من دون أن يحاول صوغها في النسق اللغوي المألوف للكتابة. فيصدم البنية السائدة في الكتابة من دون أن ينحرف عن اللغة الفصحى ويبقى ملتزماً بأدق ما فيها من تفاصيل نحوية وصرفية. وهي بنية خاصة بمحمد مستجاب لا تحذف المعرّف، وانما تذكره كنوع من المغايرة والسخرية، واكتشاف معان جديدة له، وصور جديدة لم تخطر ببال من يتعمدون الرصانة وصوغ الحياة في قوالب جاهزة. ولذلك فهو يذكر ما استقر على حذفه، ويقدمه في سياق مختلف يجعلنا نقرأ فيه معاني جديدة. ويتضح هذا في كتابه "أبو رجل مسلوخة"، حيث اتخذ من صورة شعبية لكائن خرافي مختلق من خيال الجدات والامهات اللائي زهقن من شقاوة الأولاد والبنات الصغيرات لكي ينكمشن وينمن، فتلتقط الأم أنفاسها بعد يوم طويل من العمل. هذه الصورة من يجرؤ على استخدامها كعنوان سوى محمد مستجاب. ويؤدي بها المهمة ليحارب كل نوع من أنواع القبح الذي يسود حياتنا في الحياة اليومية وفي الأدب والثقافة والفن والسياسة. ويبدأ نصه بالحفر في وجدانه عن جذور هذه الصورة في تاريخه الخاص، ثم يتفرع بنا تفريعات عدة يخلص بها الى أن "أبو رجل مسلوخة" موجود في حياتنا بأشكال متعددة. ولذلك جاء النص حياً، ينهل من الخبرات العميقة التي يعيشها المبدع ليكتب ما عاشه. تجمع هذه النصوص السبعة والثلاثون بين القصة القصيرة والمقالة، ومعظم نصوص الكتاب ابتداء من الكلمة التي تتصدر الكتاب "أفيقي... لست أول من ينام على الطريق... وبمجرد أن أفاقت... داهمها...". هي قصص مثل التنظيم العلني، وتنتمي الى عالم محمد مستجاب القصصي، الذي يعتمد على السخرية اللفظية، والسخرية على مستوى الشخصية، وفي البناء اللغوي كبناء لرؤية مركبة. وتعتمد بنية السخرية في النصوص على الانتقال من الشخص. وهذا احترام لعقلية القارىء ونفي للمسافة النفسية والعقلية بين الكاتب والقارىء، ونجد هذا في الجمل الأولى لكثير من النصوص مثل "أبو رجل مسلوخة" و"التنظيم العلني"، هذا... وذاك مع قليل من المشاكسة. ثم يبدأ المؤلف في تقديم تفريعات مختلفة، تغطي الموضوع الاصلي ولكن تعمق النظرة إليه في الوقت نفسه مثل نص: مسك السيرة، ص 34، "يوم للثقافة التجريبية" ص 41، "ابو عواجة" ص 109. نثري هذه التفريعات الموضوع الأصلي. وتتميز النصوص بتوجيه الخطاب المباشر للقارئ كأن يقول: "بدأت أفكر مثلما تفكرون حتى ولو كنت أذكى منكم". ولا يمكن أي تحليل نقدي أن يقدم تلخيصاً عاماً لما يطرحه الكتاب، لأن كل نص من نصوصه يجسد هماً من الهموم العربية والمصرية في السياسة والفن والحياة اليومية، وقراءة للوجود والحياة. وتعتبر الكتابة لديه شكلاً من أشكال التواصل مع المكان وما يحتويه من حياة كاملة. وهي بذلك شكل ساخر للتحرر من أسر ما هو آني ولحظوي الى أفق أرحب. فهو لا يتماهى مع الواقع وإنما يتجاوزه، ويعتمد لغة تعتمد على الإدراك الحسي يتساوى فيها حضور القطار والسد العالي وكائنات ديروط وبحر يوسف مع اسماء البشر المختلفة جمال عبدالناصر، احمد بهاء الدين.... وهو يرتبط بكل هذه العوالم من الكائنات والبشر من خلال حضوره الجسدي، لأن الجسد يرتبط عضوياً بالكوني. ويعيد بناء أسطورة السلطة في حياتنا المعاصرة. يقدّم نص مستجاب صورة من صور الخطاب الثقافي، لأنه يهدف الى الكشف عن القبح، ويؤكد معاني الجمال في بناء تخيلي ساخر، ويكشف صور الهزيمة وعقيم المفاهيم والتصورات التي يركننا إليها المجتمع في وعيه بذاته. انظر تحليله لتجربة مصطفى محمود كيف وكان يمثل يقظة في المعرفة، والإبداع في تجربة جيل بكامله. ويقدم قراءة لشخوص الذات في مسارها التكويني العام، وهو يؤسس بذلك كتابة مختلفة، ترفض الكتابة التي لا تحترم وعي القارئ. ويحاول تأسيس كتابة جديدة لا تلتقي بتقديم مفردات العالم فحسب، وإنما تجعل من حضور المفردات معرفة مظاهر هذا العالم. فالمعنى المعرفي يمر بخبرة شخصية، يسردها لنا محمد مستجاب بضمير المتكلم، او ضمير الجماعة. فالفرد لديه يعيش داخل العالم، يعاني من مشكلة البطالة، والبحث عن قوت اليوم، وبالتالي فإن أعمال مستجاب تبعد عن فضاء المطلق الأدبي وتقترب من الفضاء الاجتماعي وتنغمس في التاريخ اللغوي والطقوسي والحياتي. ونجد في الكتاب نوعاً من الايقاع الذي يتمثل في تكرار بعض الحوادث والمواقف كأنها معالم تميز حياة محمد مستجاب وكتاباته. وهو يتخذ من ذاته نواة يقوم من خلالها بالبناء. وهو يتحدث عن ذاته بالسخرية نفسها التي يتحدث بها عن الآخرين. وحين ندقق في النصوص نجد أن النص الساخر لدى محمد مستجاب ينطوي على رغبات عدة، فتارة تشعر برغبته في الانسجام حين يتحدث عن تاريخه الشخصي، وعن أبطاله والأهل والمكان. وتارة أخرى تشعر برغبته في التناقض مع العالم، إذ يختلف بحدة وقوة مع ما هو زائف وسائد. وفي رغبته تلك يلجأ للغرابة كما في حديثه عن الختان، ويسعى عبر التناقض الى تكوين ألفة وتوازن مثل حديثه مع شيخ الازهر. وتارة ثالثة تجد لديه رغبة في إحداث الخلخلة للعالم المستقر ويتضح هذا في نص "المؤامرة التاريخية لاغتيال أبو المعاطي" وهو يتناول نكسة 1967 ولماذا حدثت؟ ودائماً يلجأ محمد مستجاب الى محكات للقوالب الجاهزة، وفيها يستخدم نصوصاً أخرى ويوظفها في بناء السخرية لديه مثل العبارات بين الأقواس التي يستمدها من المصادر ويسخر منها بوصفها قوالب جاهزة. ونلمح هذا في تعريفه نظرية النسبية الطاقة تساوي الكتلة في مربع الضوء وفيها يستخدم القواميس، والشواهد، والأمثال، والشعارات الرائجة. ويستخدم كل هذا من خلال تدخل ساخر من الكاتب عبر مستويات حكائية يسيطر عليها السارد الذي يبدو في صورة كاملة المعرفة ويدفع بها الى أقصى حدود الخروج من المألوف. ولذلك قد ترى الكاتب معجمياً، يشرح لنا الموضوع ويتطرق الى ميادين عدة. ويصوغ حكاية تعيد بناء الموضوع في سهولة تكاد تكون مستحيلة، وينتهي بنا، وصدى كلماته تتردد في داخلنا وصنع بنا ما صنع، فنقلنا من النقيض الى النقيض.