سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رأى ان تشرين الأول اكتوبر 1988 "أنهى الشرعية التاريخية والثورية للتيار الوطني" في الجزائر . حمروش ل"الحياة": حل الأزمة مرهون بالتخلي عن استخدام أدوات تغذيتها
دعا رئيس الحكومة السابق المرشح سابقاً الى الرئاسة في الجزائر السيد مولود حمروش السلطة الجزائرية الى "التخلي عن استخدامها آليات تغذية الأزمة". وأعلن عشية الذكرى ال12 لأحداث تشرين الأول أكتوبر 1988، ان هذه الأحداث "أنهت الشرعية التاريخية والثورية للتيار الوطني". واستبعد انشاء حزب، مبرراً ذلك بأن "المحيط لا يعير أي اهتمام لاحترام القاعدة القانونية". وكشف في حديث الى "الحياة" ان النظام الجزائري لم يتغير منذ استرجاع السيادة عام 1962 الى اليوم. ورأى ان نعت الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لعهد الشاذلي بن جديد بأوصاف لا تليق بمقامه، "مجرد عملية اخفاء لحقائق، وهتك لحقوق الإنسان". وتفاءل بأن الخطاب الرسمي لم يعد مقنعاً، في الجزائر. وهنا وقائع الحوار: أين وصلت فكرة انشاء حزب التي برزت خلال حملتك الانتخابية الى الرئاسة 1999؟ - برزت الفكرة بإيعاز من مختلف لجان المساندة التي رأت ضرورة تأسيس اطار لتجسيد "التغيير" باعتباره الشعار الذي وجد التجاوب الأكبر لدى الرأي العام وافاد من مساندة المواطنين الواسعة ولا سيما الشباب منهم. وتحت الالحاح، التزمت يومها درس الموضوع واقتراح اطار للتفكير والعمل، لأن وضع اطار يحمل مشروعاً سياسياً قابلاً التحقيق، يحتاج الى تحليل صحيح لمناحي التحول الجاري الآن في العلاقات الاجتماعية، وتقويم صارم لنتائج المقاربات المطروحة من طرف السلطة ولآثارها وعواقبها. ويجب أن تعتمد دراسة دقيقة للمساعي التي يجب طرقها، وللخيارات التي ينبغي اعتمادها، وان يأخذ مهلة لإجراء نقاش ثري وصريح، لأن الظرف يتميز بفقدان الثقة، وتلاشي صدقية طروحات الكثير من التنظيمات السياسية والنقابية والاجتماعية، إذ ان جل أجهزة الأحزاب تعرف انسداداً في أفقها السياسي وفصاماً مع قاعدتها الاجتماعية، ثم ان التحايل والتحلل من التمثيل الاجتماعي والتنكر للالتزام وعدم الصدق في القول أصبحت في السلوك المهيمن. لذا، وبعد تفكير ومعاينة دقيقة للأوضاع السياسية والاجتماعية، اتضح لي ولبعض الأخوة معي ان العمل على تشكيل تنظيم في محيط لا يعير اي اهتمام لاحترام القاعدة القانونية والأخلاقية، يصبح ضرباً من الخيال، ان لم نقل مساهمة في تضليل الرأي العام وترسيخ الوضع القائم. إذ أصبح جل قيادات الأحزاب القائمة أجهزة تطمس صوت المناضل وصوت المواطن على حد سواء، وتغطي التجاوزات والمظالم، ولم تعد تعبأ بالدفاع عن الحق وتمثيل معاناة المواطن لأنها تحولت مطية للحصول على الامتيازات والمناصب، وأداة ابتزاز وتفاوض من أجل المنافع، وبذلك فقدت صفتها الحزبية. مثل هذا السلوك شجع السلطة، ومن يمثلها، على اعتبار نفسه القيم على المجتمع، فيلبس، في آن قبعة الشرطي وبزة رجل الأعمال وعباءة السجين ولباس القاضي وقميص الإمام وعمامة الفقيه. وفي وضع كهذا يصبح المواطن مجرد رقم، والنشاط الحزبي مجرد مساهمة في ترسيخ هذا السلوك. وتؤكد تطورات الأشهر الماضية ان الأفكار والاقتناعات التي لوح بها البعض ووظفت في اتجاهات مكلفة، كانت مجرد واجهات تخفي اطماعاً مادية ونيات شخصية. وقد جمد هذا التصرف حيوية المجتمع ودجن حركة النضال السياسي، الأمر الذي جرد غالبية الأحزاب من قدرة التأثير الاجتماعي والسياسي، وحولها مجرد أدوات ضغط بدلاً من أدوات تأثير في الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوجيهها. وأدى هذا التطور الى جلاء أكثر في العلاقات والخيارات والاقتناعات، إذ تبين ان العناصر التي كانت عوامل تنافر على مستوى بعض النخب أصبحت اليوم عوامل تجاذب وتراض حيال سلوك انتهاز الفرص. هل من السهل أن يذهب الإنسان في هذا الاتجاه ويجهض أي بادرة خير أو أن يسهم في طمس صوت فئات واسعة من الشعب؟ - لا يمكن طمس أي أمل أو اخماد أي صوت دائماً، والدليل ما شاهدتموه مثلي وعاينه الملاحظون الدوليون أثناء الحملة الانتخابية، إذ قدم المواطنون صورة جلية عن قدراتهم التعبوية ونضجهم السياسي وحيويتهم الاجتماعية. عشرون يوماً كانت كافية ليعلو صوت المواطن ويعم الأمل عبر الوطن. إذ تجند رجال ونساء، من كل الأوساط ومن مختلف المناطق، لبلورة البدائل وتجسيد الآمال، وعبروا عن تعلقهم بالحرية، ونادوا بحقهم في اختيار حكامهم، وتقرير مستقبلهم بأنفسهم. وأظهروا تفضيلهم الخيارات السياسية التي تندرج في منظور تعددي نشط. وكان من شأن هذا التجنيد أن فتح المجال لامتصاص الأزمة وتحقيق رقي اجتماعي، لولا تصلب بعض من هم في السلطة، وتواطؤ بعض دعاة الايديولوجيات الشاملة، القديمة والجديدة، ودعم بعض الأقليات المتنورة. وكان سلوك الناخبين وتصرف بعض المرشحين في 5 نيسان ابريل، في هذا الجانب، موقفاً سياسياً ملموساً ومهماً واستنكاراً قوياً لعملية التلاعب بنتائج الاقتراع. كانت بالفعل لحظة من لحظات القطيعة مع الغش والخداع، والمؤكد ان تلك القدرة والحيوية والتجنيد لم تكن من فعل أركان الأحزاب القائمة، لأنها غير قادرة على التأثير في المجتمع وفي منحى القرارات والخيارات التي تحدد مصيره، وان ارتقت الى أروقة القصر والوزارة. بين الإفصاح والتأسيس لكن هناك مؤشرات الى وجود معارضة حقيقية ممثلة في حزب آيت أحمد جبهة القوى الاشتراكية وعبدالله جاب الله حركة الإصلاح الوطني وطالب الإبراهيمي الوفاء والعدل فكيف يمكن تنظيمها؟ - امكان الإفصاح عن رأي معارض متاح، لكن المبادرة بوضع اطار فاعل وتأسيس تنظيم اجتماعي مؤثر غير مرخص بها على الإطلاق، والأحزاب التي ذكرت تعبر فعلاً عن مواقف معارضة، لكنها تتعرض لعراقيل وضغوط في نشاطها الميداني اليومي، وللتفجير من الداخل. لأن نظام الوضع القائم يرفض التمثيل الاجتماعي، ويقبل بوجود الخطاب المتطرف أو المتشنج. فالخطاب الإسلاموي الأصولي، والخطاب العلماني المتطرف، والخطاب الوطني المتقعر، مرخص بها ومقبولة، شرط ألا يكون لها امتداد شعبي وتمثيل اجتماعي. وهذا ما يفسر ترقية من قالوا بالأمس بهذه الخطابات الى أروقة الحكم من دون صعوبة تذكر، بمجرد قبولهم التخلي عن المطالبة بالاحتكام الى الشعب والحرية وحقوق الإنسان. وإذا أنعمنا النظر في الساحة الاجتماعية والسياسية وتطور المواقف وتغيير التموقع نلاحظ ان الافصاح عن رأي مناقض للمواقف السابقة وابداء اقتناع مغاير أصبحا يشكلان مطية للانتقالية الاجتماعية. وهذا الأسلوب يفقد الأحزاب التمثيل الاجتماعي والحضور السياسي، ويحرم المجتمع وسيلة تبليغ معاناته وانشغالاته. كنت رئيس حكومة، والسيد علي بن فليس وزير عدل، وأنت عضو في جبهة التحرير الوطني ووجود شخصين مهمين في السلطة بن فليس وعبدالعزيز بلخادم يعني ان هناك انفتاحاً على شيء جديد في المستقبل؟ - الانفتاح على أفراد لذاتهم ممارسة قديمة، وكانت دائماً مشروطة بتخلي المرقّين الى المناصب العليا عن اقتناعاتهم، وبعدم تصرفهم وفقها على الأقل، والتنصل من التمثيل الاجتماعي والصمت عن المطالبة بالعودة الى الشعب، من طريق الاقتراع، وغض الطرف عن التجاوزات. بهذا المنطق يقاد المجتمع وتدار الدولة وتمارس السلطة، وينتقى الأفراد والمجموعات بالتناوب لتولي المناصب. ما دامت هناك شريحة اجتماعية يصعب تمثيلها، فهل التنسيق الجاري بينكم وبين المرشحين وبعض الأحزاب المعارضة والشخصيات الوطنية هدفه ايجاد اجماع على طرح الأفكار الجديدة أم مجرد بحث عن صيغة جديدة للخروج من الأزمة؟ - أعتقد ان السلطة لا تبحث عن مخرج للأزمة بمقدار ما تبحث عن المحافظة على الوضع القائم بأي ثمن، والمبادرة بطرح اقتراحات حلول أو صيغ للخروج من الأزمة، لم تعد تجدي نفعاً، لأننا أمام نظام له منطقه وأدواته، هي التي أفرزت الأزمة وتغذيها اليوم في استمرار. إذاً أي اقتراح جدي لتجاوز الأزمة لا بد من أن يمتد الى الغاء ذاك المنطق وتلك الأدوات، أي تغيير طبيعة النظام. والنظام يرفض أي اقتراح يطعن في منهجه وأدواته. ليس من تنسيق جار الآن. كان التنسيق بيننا، في احدى المراحل، يتم في شكل متواصل وتمخضت عنه نتائج ايجابية، بعضها كان جيداً وبعضها أقل جودة. والتنسيق بين مختلف لجان مساندة المرشحين المنسحبين كان مفيداً جداً، أثناء الحملة، لكنه قد لا يكون كذلك اليوم إلا بشروط أخرى، لأن طرق سبل المستقبل المأمونة، يكمن في المقارعة السلمية للأفكار والبرامج والبدائل. ويكمن الرهان اليوم في العمل على تغيير المسعى، لا في انتقاء الأفراد والمجموعات بالتناوب لتولي المناصب، ولا في محاولة البحث عن تراض ايديولوجي مستحيل، ولا في نسج أحقاد من جديد قد تهيئ منابت لألوان عنف أخرى. فالأوضاع التي نعيشها اليوم يجب العمل على تغييرها، وتتطلب ادراكاً كاملاً للمتطلبات ووضوحاً أكبر في الأهداف، لاستشفاف السبل والمناهج والوسائل التي تسمح بصوغ بديل وطني حقيقي قابل للتجسيد. أنتم، المرشحين السبعة، تمثلون المؤسسات داخل النظام، ولا يمكن فصل أي منكم عنه، وبالنسبة الى الرأي العام أنتم تمثلون سلطة داخل السلطة، والسلطة اختارت أحدكم، ويقال انها دفعتكم الى الانسحاب، بماذا ترد؟ - القول ان كلاً منا كان يمثل جناحاً في السلطة أو جزءاً منها، خرافة يراد بها ترسيخ الصورة التي تحدثت عنها قبل قليل، وهي محاولة للتأكيد أن لا أحد يتصرف وفق اقتناعاته، أو يملك تمثيلاً شعبياً، وان كل واحد منا لن يمثل في واقع الأمر إلا جناحاً من السلطة. فالمرشحون، في غالبيتهم، كانوا في التيار الوطني تاريخياً. وكثر ممن كانوا أعضاء في هذا التيار ما زالوا يدورون في فلك السلطة القائمة ويرفضون فهم القطيعة التي حدثت يوم 5 تشرين الأول أكتوبر 1988، والتي أنهت شرعية التيار الوطني التاريخية والثورية. بل وقد أدار الكثير منهم ظهره لحق الشعب وحرية المواطن. فتوظيف التاريخ والماضي لأغراض سلطوية وتبرير مواقف سياسية ظرفية يشكلان خطورة على التاريخ وعلى المرجعية الوطنية. وهذه اللعبة المكشوفة موظفة الآن لتضليل الرأي العام الوطني، وابلاغ صورة معينة الى الخارج، القصد منها الايحاء أن النظام قوي ويحظى بدعم على رغم تعدد الخطاب ووجود الصراعات، لتفادي الشك في قدرته على التحكم بالوضع ومعالجة المشكلات العالقة وايجاد مخرج للبلاد، وحتى لا يطرح السؤال عمن يمثل رسمياً الإرادة الوطنية. التمثيل الاجتماعي مرفوض من ضمن المرشحين شخصيتان تنتميان الى جبهة التحرير الوطني هما: أنت وأحمد طالب الإبراهيمي. وكان يمكن أن تستقطبا أجنحة داخل جبهة التحرير وتوزعا الأدوار في ما بينكما؟ لماذا لم تعملا على انتزاع الجبهة من الأشخاص الذين منحوها صكاً لغيرهم؟ - يعود بي هذا السؤال الى أحداث 1988، حين بادر فريق الإصلاحيين باقتراح يقضي بفسح المجال أمام بروز حساسيات سياسية داخل جبهة التحرير، بقصد اعادة بناء التمثيل الاجتماعي والتأكد من حجم تمثيل كل تيار داخل المجتمع والتعرف الى التيارات النافذة. الا ان هذه العملية أجهضت على رغم ان مؤتمر الجبهة كان وافق عليها وأصدر في شأنها لوائح واضحة. وكان وراء ذلك الإجهاض أولئك الذين يرفضون التغيير وادخال آليات حديثة في ادارة المجتمع وفي مجالات الاقتصاد والثقافة والاعلام، وينكرون على المواطن حقه في الحرية ومراقبة أفعال السلطة. ودفع هذا الإجهاض بجبهة التحرير الوطني الى الانغلاق على نفسها من جديد، وهذا الانغلاق لم يكن في وجه الحساسيات والأفكار الجديدة فحسب، بل وتعداه الى الأجيال الجديدة وطرد المناضلين الأوفياء لحرية الشعب وحق المواطن. أما في ما يتعلق بجبهة التحرير القائمة فأنا منعت من حضور المؤتمر. أما الأخ طالب فحضره لكنه أقصي، وهذا يؤكد ما قلته قبل قليل، فإذا كان كل من حمروش أو طالب يمثل شريحة من المناضلين، فهذا مرفوض. أما خطابهما فلا يهم ان كان وطنياً أو علمانياً أو اسلامياً أو ديموقراطياً، أو حزبياً معارضاً أو مسانداً. نظام لم يتغير في خطاب الرئيس بوتفليقة اتهام بالفساد لمرحلة الشاذلي بن جديد ونعتها بأوصاف ليست لائقة وأنت كنت جزءاً من تلك المرحلة وعشت مرحلة هواري بومدين كذلك. فكيف تقوم الأمر؟ - من الاستقلال الى الآن، نعيش في ظل نظام واحد لم يتغير ولم تتبدل أدواته ومنطلقاته. فعهود الرؤساء أحمد بن بلة وبومدين وبن جديد ومحمد بوضياف وعلي كافي واليمين زروال، أو عهد السيد بوتفليقة اليوم، كل منها امتداد لما قبله وللمنطق نفسه، ويستعمل الأدوات والمبررات نفسها. وكل ما هناك تمايز في الظروف الداخلية والدولية وبعض الفروق الاقتصادية المرتبطة بعائدات المحروقات وتوظيفها لا غير. محاولة التغيير الوحيدة هي المبادرة التي تمت عقب أحداث 1988 والمتعلقة بالإصلاحات الاقتصادية والدستورية والسياسية. الا ان رفض الاصلاح الشامل ومحاولة التراجع عن الحريات الأساسية السياسية منها والاقتصادية والثقافية التي وفرتها الاصلاحات عجلت في الانحرافات الخطيرة وغذت العنف والقمع. والوصف الذي يقدمه بوتفليقة لمرحلة بن جديد محاولة مكشوفة لإخفاء هتك الحقوق والأعراض ونقض الحريات وتخلي السلطة عن مسؤولياتها الاجتماعية وتفريطها بمصالح الأجيال المقبلة. وإذا كانت عهود الماضي تميزت بغياب الحريات الفردية، فالعهد القائم يتميز بالتنكر لسيادة الشعب وحرية اختياره. هل تريد القول ان فشل الاصلاحات التي بادرت بها عندما كنت رئيساً للحكومة، كان بسبب الإصرار على مواصلة ممارسة الحكم على النهج نفسه والمنطق نفسه؟ - هذا ما تؤكده الوقائع والممارسات السائدة في كل المجالات ويكرسه تكرار الاخفاق واستمرار الانسداد واستنساخ الخطب والمواقف. وممارسة السلطة، على عكس ما يؤكده مضمون الخطاب الرسمي ومبرراته، تقوم على نقض دور المواطن. فمصدر السلطة لم يتحدد على رغم النقاش الايديولوجي الزاخم عبر مختلف المراحل: برنامج طرابلس 1962 وميثاق الجزائر 1964 والميثاق الوطني 1976. وخلال هذه المراحل، لم يعترف بسيادة المجتمع، ولم تُصن الحريات، ولم تحترم الحقوق، ولم تصغ قواعد الوصول الى السلطة، ولم يقبل بإدخال الرقابة السياسية المؤسساتية ومبدأ الاقتراع الحر. أما في ما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي فقد صيغ، بعد تقويم صارم للتجربة الاقتصادية، منذ الاستقلال الى 1986، والتدقيق في حصيلة كل القطاعات، وجرد كل الأعمال والممارسات. واتضح بالحجة والدليل ان لا فائدة ترجى من الاستمرار على النهج والأسلوب نفسيهما، وقد آن الأوان لإدخال تغيير جذري في المجال الاقتصادي لإنقاذ حظوظ البلاد المستقبلية. كانت فكرة الإصلاح الاقتصادي مقبولة، الى حد ما، في أوساط النظام ظناً انها كانت ستساعد على استمرار الوضع القائم وتمكنه من تجاوز الصعوبات الاجتماعية والضائقة المالية. وعند صوغنا ذلك الإصلاح، كنا مدركين ان التحويل الاقتصادي سينتج عنه، في آخر المطاف، تغيير في أدوات الحكم وآليات إدارة المجتمع، الا ان احداث 1988 عجلت في صوغ الإصلاح السياسي. الواقع ان ما يقال عن تلك المرحلة، فيه الكثير من المغالطات والتضليل المقصود، فمنذ الاستقلال والجزائر سائرة على نهج واحد وبالآليات نفسها والمحاولة الوحيدة التي خرجت عن ذاك النهج هي الإصلاحات الشاملة التي تمخض عنها دستور 1989، وتوفير الحريات وفسح المجال أمام النشاط السياسي. من ضمن الاصلاحات في عهدك، حرية التعبير والإعلام وإعطاء دعم كبير لوسائل الإعلام أو الصحافيين عموماً، ويقال انك سبب انتشار الصحافة بالفرنسية لتشجيعك الصحف الصادرة بها. - علقنا الآمال وانتظرنا الكثير من رجال الإعلام، وبادرنا بتشجيع كل الصحافيين لإنشاء صحف مستقلة لهم آنذاك، وكنا ندرك عدد الصحافيين العاملين، وكان قرارنا قراراً عاماً. ومعايير الحصول على الدعم واضحة ولم تكن معايير شخصية أو فردية، ولم تكن وقفاً على صنف من دون آخر. وبالتالي، كان المجال مفتوحاً لكل الصحافيين، سواء كانوا يكتبون بالعربية أو الفرنسية. والقول الذي ذكرته، اما هو مغرض واما هو مبني على جهل بوضعية الإعلام المكتوب قبل اصلاح 1990. كان حضور الصحف المكتوبة بالفرنسية، خلال الستينات والسبعينات والثمانينات أقوى من الصحف المكتوبة بالعربية. واتضح، بعد الإصلاح الإعلامي وتشجيع انشاء الصحف المستقلة، أن الصحف المكتوبة بالعربية كان لها قراء كثر وكانت لها قدرة تبليغ أقوى. وبسبب ظروف الأزمة وأدوات تسييرها، فضل النظام فتح المجال للصحافة المكتوبة بالفرنسية على حساب الصحافة المكتوبة بالعربية، باعتبار ان هذه الأخيرة تتجه الى الرأي العام والقراء الذين هم خارج أطر تحاول السلطة من خلالها التأثير في المجتمع. إذ يعتبر ان انتشار الصحافة المكتوبة بالعربية قد يزيد في توسيع الفجوة بينه وبين المجتمع. هذه القراءة في رأيي، أصح في تفسير حقيقة الوضع الراهن من القول إن مبادرة الإصلاح شجعت الإعلام بلغة على لغة أخرى. حكومتي كانت شجاعة بتقديمها مشروع تعميم اللغة الوطنية وحديث بوتفليقة بالفرنسية يرشح فكرة السيادة المنقوصة اعتبرت ان الفرنسية لغة وطنية ثانية، وعهد الرئيس بوتفليقة حوّلها اليوم لغة وطنية أولى. - قلت في حديث الى محطة اذاعية ان الفرنسية هي اللغة الثانية في الجزائر، بحكم حجم الاستعمال والوظيفة التي تقوم بها مقارنة مع اللغة الوطنية. وأنا لم أعبر عن مطلب أو عن رغبة، وانما حاولت تنبيه الرأي العام الى حقيقة جوهرية خفية. الكل يتحدث عن اللغة العربية ويطالب بترسيخها لغةً وطنية، في وقت تتوسع الفرنسية وتنتشر أكثر وتكثر وظائفها، والحكومة التي ترأستها هي الوحيدة، منذ الاستقلال، التي بادرت، بكل شجاعة، بمشروع قانون يتعلق باللغة الوطنية وبإجبارية استعمالها وقدمته الى المجلس الشعبي الوطني آنذاك فصوّت عليه، وقد جمد القانون، في ما بعد، ووجهت اليّ والى حكومتي اتهامات كاذبة، على أساس ان تصرفنا كان منافياً للغة الوطنية. ويدخل هذا التشويه كذلك في عملية ايهام الرأي العام وتغليب الرأي الآخر وتبرير الاخفاق. ثمة من يتهمك أنك وراء اعطاء الأمر بإخلاء الساحات وتدخل الجيش لقمع المضربين من جماعة "الجيش الإسلامي للانقاذ"؟ - هذا الأمر حسمه التاريخ ودُوِّن في محاضر المحاكمة. والعودة الى الماضي لا تفيد إذا كان القصد منها تقديم التبريرات والشرح البعدي، لأن ذلك قد يزيد الأمور غموضاً والجروح عمقاً، والغيظ شحناً، فالدعوة الى اضراب سياسي اخفقت، وعملية اخلاء الساحات لم تنفع، وسنوات الدم والجمر التي عاشها المجتمع دليل الى هذا الفشل. أما قضية الأمر بالإخلاء فالجميع يعرف، وهذا ليس سراً، أنني لم أكن أشاطر ذلك الخيار الرأي حفاظاً على الأرواح والمؤسسات وهيبة الجيش والتجربة الديموقراطية الفتية. المتنفس الوحيد درست الظاهرة العسكرية، وفي العالم الثالث، نجد ان المؤسسة العسكرية هي دائماً التي تعين الرئيس، فهل هي قادرة الآن أن تأتي برئيس آخر في حال ذهاب بوتفليقة؟ - نموذج الحكم القائم في دول العالم الثالث حصيلة لظروف تصفية الاستعمار وللطريقة التي تمت بها هذا التصفية، ولممارسات نخب السلطة الوطنية التي تعاقبت على الحكم. وأفضى هذا المزج غير الطبيعي، الى اقامة نظام حكم ذي طبيعة خاصة، وصقل منهج شاذ في ممارسة السلطة، مبنيين أساساً على ممارسة الاحتقار والقمع. وكلاهما موروث من النظام الكولونيالي الذي تأسس على اغتصاب الحقوق ومصادرة الحريات، وخدمة قلة محظوظة. وترتب على ذلك، اخفاق في وضع آليات حكم لقيادة مجتمع حر، وافتقاد المواطن الى تنظيمات اجتماعية فاعلة، وحرمان المجتمع مؤسسات دستورية ملائمة. لذا تعيش مجتمعات العالم الثالث انسداداً كاملاً، وتعرف أنظمة الحكم فيها مأزقاً كبيراً. وفي ظل هذه الأوضاع والشروط. تبقى المؤسسة العسكرية وحدها قادرة على تنصيب الرؤساء وعزلهم. ما تفسيرك للتطاحن بين المنظمات الدولية غير الحكومية والحكومات في العالم الثالث؟ - تشكل هذه المنظمات المتنفس الوحيد للشعوب المهضومة حقوقها والمغصوبة حرياتها، خصوصاً أن النظام الدولي الجديد عطل المنظمات الجهوية والاقليمية والقارية وحيَّد منظمة الأممالمتحدة. فهي الوحيدة القادرة على تجنيد الرأي العام ولفته الى المآسي والحروب التي يعيشها عدد كبير من الشعوب الضعيفة وفضح نفاق حكومات بعض الدول المهيمنة. هذه المنظمات حليف طبيعي للشعوب التي تُحتضر تحت قسوة الحروب المحلية والأهلية، وتداس حقوق مواطنيها. ويمكن ان تكون عوناً للدول الضعيفة في مواجهة طغيان النظام الدولي الجديد وعجرفته. لكن أنظمة الحكم في العالم الثالث ترفض التفتح على مجتمعاتها واحترام حرية وحقوق مواطنيها، لذا تتوجس خيفة من هذه المنظمات. كيف تقوّم الاقتصاد الجزائري في الوقت الراهن؟ وهل هناك امكان لإخراجه من أزمته؟ - ما زال الاقتصاد الوطني يعاني الكثير من العوائق، والبيروقراطية تهيمن على النشاط الاقتصادي وتخنق المبادرة، والاختلال الصارخ في الأداء الاقتصادي يمنع تطور أي قطاع من أن يكون له أثر في انعاش القطاعات الأخرى، والنشاط المدر للربح هو الأكثر اقتطاعاً للعملة الصعبة ويسهم في تحويل الثروة والادخار الوطني الى الخارج. في مقابل هذه الصعوبات والعوائق، تحاول السلطة الظهور بالمظهر الديموقراطي ولبس لبوس الاقتصاد الليبرالي واعتماد خطاب الحداثة الخادع، في وقت باتت البلاد سوقاً تشوهها المحاباة والعمولات، بسبب الغياب الصارخ لسياسة اقتصادية واضحة. فالنظام أفسد قواعد اقتصاد السوق وقوض السوق الداخلية بتشجيع المضاربة على التجارة الخارجية والعملة الوطنية تحت ذريعة شروط صندوق النقد الدولي. وقد أنهكت هذه المضاربة النشاط الاقتصادي المنتج سواء كان تابعاً للقطاع العام أو للخاص. وزادت في تفاقم انخفاض مستوى المعيشة وانحطاط الخدمات العمومية وانهيار منظومة التربية والتكوين والصحة من جهة وتوطيد ثراء ثلاثة في المئة من المحظوظين على حساب الملايين من المواطنين في الأرياف والمدن والأحياء القصديرية من جهة أخرى. وتعمل هذه الفروق على وضع الدولة خارج القانون وعلى سلب ادارات السيادة صلاحيتها، وتجريد المؤسسات دورها المنظم في المجالات الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمصلحة شبكات الولاء الخفية. فاللجوء الى المؤسسات المالية الدولية لاعادة الجدولة لم يجد، ووصفاتها لم تنفع، لأن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية التي تسببت بالإفلاس ظلت قائمة وظل المجتمع مبعداً عن عمليتي الضبط الاقتصادي والرقابة السياسية. ولهذا تحولت اعادة الجدولة مجرد اجازة للتبذير وحيلة للتهرب من تنفيذ الاصلاحات وتحديد المسؤوليات. وأخشى أن تكون المطالبة بمسح الديون مبرراً جديداً للتنصل من المسؤوليات السياسية والاجتماعية للحكام. للاقتصاد الجزائري حظوظ وامكانات واسعة، لكنها لن تجدي نفعاً، ما لم تفرض قواعد صارمة لمحاربة الرشوة والمحاباة والتسيب، واعتماد اصلاحات شاملة. وبغير هذا، لا يمكن الاقتصاد الوطني أن يواجه المشكلات المالية والاجتماعية القائمة اليوم، أو يوفر حظوظاً وموارد لاحتياجات الغد. تعقيد وانهيار بصفتك مراقباً للوضع الراهن، هل للوضع الأمني علاقة بالسياسة والاقتصاد في الجزائر؟ - للوضع الأمني علاقة أكيدة بالسياسة وبالخيارات والقرارات السياسية. وللاقتصاد علاقة بالسياسة كباقي القطاعات والنشاطات الاجتماعية والثقافية الأخرى. إذ لا يمكن عزل السياسة عن مختلف القضايا والنشاطات والمجالات المتعلقة بحياة المجتمع. فالطعن في الوضع القائم ينصب على صيغ ممارسة الحكم وعلى الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والدفاع عن الوضع القائم يعني المحافظة على صيغ الحكم وعلى خياراته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية المتبعة وما ترتب عنها من تبذير ورشوة ومحاباة وتعسف. كأن بك تدعو الى رحيل هذا النظام كاملاً والبحث عن نظام آخر بديل؟ - اذا كان مفهوم الكلام على النظام ينصب أساساً على مجموع القيم والأدوات والأساليب التي تحكم سير الحكم وعمله، فالجواب نعم. ولا بد لهذا النظام من ان يذهب بكامله. ويجب أن تأخذ كلمة قيم هنا معناها المادي التقديري التفضيلي، لا معناها الأخلاقي والروحي. أما إذا كان الكلام منصباً على الأشخاص فهذا قد لا يكون مفيداً، لأن المطلوب تغيير أدوات الحكم وأسلوب ممارسة السلطة والنهج السياسي المتبع. لذا فالحديث عن تغيير النظام القائم لا يعني بناء نظام آخر بديل في معزل عن المجتمع وحرية المواطن وسيادة الناخب، لأن المجتمع القوي والمستقر هو الذي ينتخب فيه المواطنون الحكام ويعزلونهم، وهو القادر على تجاوز نوائب الدهر والأزمات والنزاعات ويتمتع حكامه المنتخبون بالصدقية والقدرة على التغيير، وفي مقدوره مقاومة الضغوط الخارجية بنجاح واجراء التكييف اللازم والتطور المنشود بكل يسر. ويحاول النظام القائم في الجزائر اليوم الظهور بالمظهر الديموقراطي وبلباس الاقتصاد الليبرالي واعتماد خطاب الحداثة، والغرض من ذلك الإمعان في نقض الحريات وتقوية أدوات القمع والقهر لأي احتجاج، ومنع أي تحديث. لذا نلاحظ أننا لسنا في اقتصاد مخطط والتزاماته ولا في اقتصاد ليبرالي وأحكامه، ولا في اقتصاد سوق وممارسته ولا في تعددية سياسية وأدواتها. لكن السلطة تتحدث عن وجود مستثمرين كثيرين زاروا الجزائر. - هناك فرص وافرة وحظوظ كثيرة للاستثمار في الجزائر، الا انها لا يمكن استغلالها في ظل استمرار الوضع القائم، والأسلوب الإداري الفظ، والنظرة الاقتصادية العقيمة. أما الخطاب الذي يحث على الاستثمار، فهو منفصل تماماً عن الأعراف والممارسات المالية الدولية الراهنة، لذا هو غير مجد. والمستثمرون الذين زاروا الجزائر إما لأسباب سياسية وإما لأسباب تجارية. فالنصف الأول يفهم بمجرد لقائه المسؤولين ان المطلوب منه الخوض في الأمور السياسية أكثر منها في مسألة الاستثمار. أما الصنف الثاني فوتيرة تردده على البلد مرتبطة بمناخ ارتفاع عائدات البترول وانخفاضها، لأن همه الوحيد التجارة لا غير. أما الحديث عن وجود اصلاحات اقتصادية وحرية مبادرة واحتكام الى قواعد اقتصاد السوق فمجرد خطاب ملاءمة، لأن الواقع اليوم يؤكد الغياب التام لمفهومها الاقتصاد الحر وأخلاقياته، ومفهوم اقتصاد السوق وقواعده، ومفهوم الاقتصاد الموجه وتوابعه. أعتقد ان صورة الجزائر الاقتصادية واضحة تمام الوضوح لأي مستثمر جاد. والحل العملي الذي يستند الى تشريع واضح ومحترم من الجميع، تضعه مؤسسات تتمتع بثقة المجتمع الوطني بكل شرائحه. وبغيره، يبقى الاستثمار مؤجلاً، والمشكلة الاجتماعية مرشحة الى التعقيد والمسألة الاقتصادية الى الانهيار. بهذا المعنى أنت غير متفائل بالمستقبل؟ - ما معنى التفاؤل؟ هل الوعي بتعقيد المشكلات وصعوبة حلها يعني عدم التفاؤل؟ أم ان الوعي بهذه الصعوبة وهذا التعقيد هو التفاؤل بعينه؟ بالمعنى الأخير أنا متفائل. أما إذا كان مفهوم التفاؤل مجرد جملة تقريرية اعتاد الناس استعمالها "تفاءلوا بالخير تجدوه" فأنا لست متفائلاً. لأن حدة المشكلات وقلة الإحساس بما هو مطلوب عمله، وعدم القدرة على بذل الجهد الذي يتوجب تقديمه، لا تجعلني متفائلاً. والخطاب الرسمي على رغم رونقه وجاذبيته لم يعد قادراً على ايهام الناس إلا لوقت قصير، والخطاب الشعبوي ولى عهده، والناس الذين يئنون تحت وطأة المشكلات ارتقى وعيهم ونفد صبرهم، لذا أنا متفائل.