تصاعدت وتيرة التفاعلات المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي خلال الشهور الأربعة الماضية على نحو أسهم في تفجير الوضع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي تهيئة منطقة الشرق الأوسط كلها للدخول في مرحلة جديدة ومختلفة نوعياً عن المراحل السابقة. ومن قلب الزخم الناجم عن تلك التفاعلات خرجت قضية القدس لتشق طريقها نحو المقدمة ولتحتل موقع الصدارة على جدول أعمال النظامين العربي والإسلامي بعدما تمكنت من أن تفرض نفسها باعتبارها القضية المركزية في الصراع الدائر على هذه المنطقة من العالم وفي داخلها. ولذلك لم يكن غريباً أن تتصدر قضية القدس جدول أعمال مؤتمرات "القمة" العديدة التي عقدت خلال تلك الفترة. ارتبطت هذه القمم كلها بعلاقة تفاعلية لاإرادية شكّلت الانتفاضة الفلسطينية القاسم المشترك بينها. فقمة كامب ديفيد الثانية هي التي صنعت الانتفاضة، لأنها عجَّلت بانفجار الوضع في القدس لتنتقل العدوى إلى بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل وبعد عام 67 ثم إلى الشارع العربي والإسلامي. وتجاوب الشارع العربي مع الانتفاضة هو الذي فرض على الزعماء العرب عقد قمتهم الطارئة. ومن أجل وقف الانتفاضة وإجهاض نتائج القمة العربية الطارئة حاولت الولاياتالمتحدة استباق القمة العربية بقمة أخرى في شرم الشيخ. والانتفاضة هي التي حوّلت القمة الاعتيادية لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والتي كان من المخطط لها أن تنعقد تحت شعار "السلام والتنمية" إلى دورة شبه طارئة من أجل دعم الانتفاضة. وللتعرف على مسار الصراع العربي - الإسرائيلي تحت تأثير الانتفاضة واتجاهات تطور هذا الصراع في المرحلة المقبلة، يتعين علينا أن نستخلص الدلالات الحقيقية للنتائج التي أسفرت عنها هذه القمم. فلم يكن هناك ما يلزم الولاياتالمتحدة بالدعوة لعقد قمة كامب ديفيد الثانية في هذا الوقت بالذات. غير أن الإحساس بخطورة المأزق الذي كانت وصلت اليه عملية التسوية السياسية، من ناحية، ورغبة كلينتون الحارقة في أن يختتم حياته في البيت الأبيض بإنجاز كبير يمحو به أثر الفضيحة المشينة التي لحقت به، من ناحية ثانية، كانت ضمن عوامل أخرى عدة في اتجاه التعجيل بالدعوة لتلك القمة والتي كان لها، وبصرف النظر عن رأينا في الملابسات أو في الدوافع التي أدت إلى انعقادها، نتائج بعيدة المدى من حيث تأثيرها الحاسم على تطورات الأحداث اللاحقة. وكان من أهم هذه النتائج أنها ساعدت على التعجيل بكشف حقيقة الموقف الإسرائيلي من قضايا التسوية النهائية على المسار الفلسطيني. لقد ذهب عرفات إلى كامب ديفيد وهو على استعداد، في ما يبدو، لإظهار أكبر قدر من المرونة وبخاصة في قضايا المستوطنات واللاجئين والمياه وغيرها، وأن يقدم من التنازلات ما هو ضروري لإنقاذ عملية السلام شريطة ألا تؤدي هذه التنازلات إلى قطع الطريق كلياً أمام إمكان قيام كيان فلسطيني مستقل أو شبه مستقل في المستقبل. غير أن إصرار باراك على احتفاظ اسرائيل بالسيادة على الحرم القدسي وعلى أن تشكل الصفقة التي يعرضها للحل النهائي كلاً لا يتجزأ يتعين قبوله كله أو رفضه، والمصادرة مسبقاً على أي مطالب جديدة من جانب الفلسطينيين في المستقبل، لم تترك أمام عرفات من خيار آخر سوى رفض الصفقة برمتها. وكان الترحيب الجارف من قبل الشعب الفلسطيني بموقف عرفات الرافض للإملاءات الإسرائيلية والاميركية ذا دلالة بليغة. فالغالبية الصامتة من هذا الشعب لم تكن تتصور أن يصل الصلف الإسرائيلي إلى هذا الحد من الغرور ومن الاستخفاف والاستهانة بالمقدسات والحقوق. وربما ظلت هذه الغالبية تعتقد، حتى آخر لحظة، أن موقف بعض المتطرفين اليهود المطالبين بإعادة بناء ما يسمى بهيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى لا يعبر عن الموقف الرسمي للدولة الاسرائيلية. غير أن موقف باراك في قمة كامب ديفيد الثانية حسم المسألة وأزال التذكير بمقولة بن غوريون الشهيرة من أنه "لا معنى لاسرائيل من دون القدس ولا معنى للقدس من دون جبل الهيكل". وكان لهذا الموقف، والذي يؤكد استمرار وثبات الأهداف والسياسة الاسرائيلية، أبلغ الأثر في تهيئة الظروف الموضوعية لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية والتي لم تكن تحتاج إلى أكثر من شرارة تشعل لهيبها. وجاءت زيارة شارون المتحدية والمستفزة للمسجد الأقصى بمثابة تلك الشرارة المنتظرة والتي كان لا بد لها أن تشعل النار في الهشيم. وفي هذا السياق انتفض الشارع العربي والإسلامي ليفرض على الحكومات العربية أن تجتمع في قمة طارئة وليدفع بقضية القدس وبمطالب الشعب الفلسطيني إلى موقع الصدارة على جدول أعمال مؤتمر القمة العادي التاسع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وللحيلولة دون سقوط الحكومات العربية والإسلامية في أحضان جماهيرها المطالبة بمواقف أكثر جرأة لمواجهة الصلف الإسرائيلي حاولت الولاياتالمتحدة استباق القمم العربية والإسلامية بقمة أخرى توقف اندفاعها على الأقل، إن لم تتمكن من إجهاضها وقطع الطريق عليها. وعلى هذه الخلفية انعقد مؤتمر شرم الشيخ. لكن لم يكن لدى هذا المؤتمر ما يقدمه من ضمانات للفلسطينيين حفاظاً على حقوقهم في حال توقف الانتفاضة. ولذا كان مصيره الفشل ولم يتمكن من الحيلولة دون انعقاد القمة العربية الطارئة على رغم نجاحه في إحداث قدر من البلبلة والفرقة في الصفوف العربية. ومع ذلك فعندما انعقد مؤتمر القمة العربي الطارئ في القاهرة بدا قلق الحكومات العربية وخوفها من انفلات زمام الأمور ومن انهيار عملية التسوية واضحاً وجلياً للعيان. فقد جرت وقائع هذا المؤتمر تحت ضغوط عصبية ونفسية هائلة بعدما حاولت الولاياتالمتحدة الإيحاء بأن مؤتمر شرم الشيخ توصل فعلاً إلى اتفاق على "وقف إطلاق النار" على رغم تأكدها من عدم توافر شروط تطبيق هذا الاتفاق على الأرض. كان من المفترض أن يضاعف فشل قمة شرم الشيخ من مسؤولية القمة العربية تجاه المجزرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني المنتفض من أجل إنهاء الاحتلال والحصول على الاستقلال. غير أن الأوضاع المتردية للحكومات العربية بسبب طبيعة علاقاتها بالولاياتالمتحدة حالت دون تمكين القمة من الارتفاع الى مستوى التحدي. والحكم على مدى نجاح أو فشل مؤتمر القمة العربية لا يتعين أن يستند إلى نصوص القرارات التي اتخذت وإنما إلى الكيفية التي سيتم بها تنفيذ تلك القرارات مستقبلاً، لنرى ما اذا كانت الدول العربية قادرة على حماية الانتفاضة وعلى التعامل مع التطورات المحتملة للوضع في المنطقة، خصوصاً أن إسرائيل قد تلجأ إلى التصعيد بإعادة احتلال اجزاء من الأراضي الفلسطينية و/ أو شن حرب محدودة أو واسعة النطاق على سورية ولبنان. وتوقع بعضهم أن تذهب قمة منظمة المؤتمر الإسلامي الى أبعد مما ذهبت إليه قمة جامعة الدول العربية استناداً إلى حقيقة أن إنقاذ القدس كان هو السبب المباشر والدافع المعلن وراء قيام منظمة المؤتمر الإسلامي. لكن فات على هؤلاء أن المنظمة ظلت، على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، تتفرج على إسرائيل وهي تباشر سياساتها في تهويد القدس وفي تغيير هويتها ومعالمها على أرض الواقع من دون أن تحرك ساكناً. كما فات عليهم أن بعضهم كان أراد لمنظمة المؤتمر الإسلامي منذ البداية أن تكون منظمة لقتل القومية العربية وليس لبعث العالم الإسلامي. ولذلك لم يكن غريباً أن تعجز "القمة الإسلامية" حتى عن مجرد الالتزام بتقديم دعم مالي للشعب الفلسطيني يضاف إلى ما سبق أن تقرر في القمة العربية ناهيك عن قدرتها على حمل دول "إسلامية" اعضاء في المنظمة، مثل تركيا وأندونيسيا، على مجرد خفض حجم ونوع علاقاتها بإسرائيل وليس قطعها. ومع ذلك فإن مجرد النجاح في فرض موضوع الانتفاضة على جدول أعمال هذه القمة العادية يؤكد مرة أخرى أن منظمة المؤتمر الإسلامي يمكن أن تشكل عمقاً مهماً للنضال العربي. لكن ذلك يظل رهناً بتوافر شرط رئيسي وهو توافر حد أدنى من التضامن العربي يصلح أساساً للبناء فوقه. من هذا العرض لشبكة التفاعلات التي أفرزتها أحداث الشهور الماضية يمكن استخلاص النتائج التالية: 1 - أصبحت انتفاضة الأقصى العنصر الحاسم والقادر على تصحيح الخلل في معادلة التسوية الحالية لمصلحة الشعب الفلسطيني، وهي الرد الطبيعي والمناسب والوحيد على المحاولات الرامية لفرض تسوية بالشروط الإسرائيلية. 2 - ستفعل اسرائيل كل ما في وسعها لإجهاض هذه الانتفاضة، كما أنها قد لا تتردد في دفع المنطقة كلها نحو حافة الهاوية والمخاطرة بتعريض كل ما حققته من مكاسب حتى الآن للضياع. وهي ستفعل ذلك واثقة من تأييد ودعم الولاياتالمتحدة غير المشروط لها. 3 - ستجد الحكومات العربية والإسلامية نفسها معرّضة لضغوط متزايدة من أجل العمل على وقف الانتفاضة. ويتعين، من ثم، على قيادة الانتفاضة أن تتحسب لاحتمالات تصاعد الضغوط عليها، ليس فقط من جانب الولاياتالمتحدة وإسرائيل وإنما ايضاً من جانب حكومات الدول "الشقيقة" تحت دعاوى كثيرة أهمها ضرورة استثمار الانتفاضة في تحقيق حل سياسي والحيلولة دون تحولها إلى فرصة جديدة ضائعة تضاف إلى رصيد الفرص الضائعة في المنطقة. لكن الشيء المؤكد أنه لا يوجد أي حل سياسي حقيقي مطروح، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الإملاءات الإسرائيلية هي الحل. 4 - ان العمل على استمرار الانتفاضة وتصعيدها بكل الطرق الممكنة هو السبيل الوحيد للإبقاء على الحبل السري بين الشعب الفلسطيني والشارع العربي، موصولاً على نحو دائم. 5 - ان المحافظة على وحدة الشعب الفلسطيني على استراتيجية للمقاومة تلتف حولها كل الفصائل يمثل الشرط الضروري لاستمرار الانتفاضة، ومن ثم لاستمرار الضغط الشعبي على الحكومات العربية والإسلامية لدعمها حتى تحقق أهدافها. لقد كتب على الشعب الفلسطيني أن يفتدي الشعوب العربية والإسلامية بدمائه في تلك المرحلة التي تشهد إحدى أكبر ملاحم النضال من أجل الحرية في مواجهة أشد القوى بطشاً وشراسة وعنصرية وغطرسة في التاريخ. وربما تكون التضحيات المطلوبة من الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة أكبر من قدرة الشعب الفلسطيني على تحملها بالنظر إلى حال الضياع التي يمر بها العالمان العربي والإسلامي. لكن هذه التضحيات باتت للأسف ضرورية، بل هي الأمل الوحيد الباقي، لا لكي يحصل الشعب الفلسطيني وحده على حقوقه المشروعة ولكن أيضاً لكي تتحرر الإرادة العربية والإسلامية من كل القيود التي تكبلها. وما أكثر هذه القيود. * كاتب مصري.