هذه المرة كانت لجنة التحكيم في مهرجان القاهرة الدولي، هي الطرف الذي يستحق التهنئة عند انتهاء حفلة الختام، أكثر من أي طرف آخر. إذ، لمرة، أتت النتائج في حجم التوقعات، من دون مفاجآت سيئة، من دون غضب وصراخ في الصالة، ومن دون مرارة، إلا المرارة الطبيعية للذين لم يفوزوا، لكنهم عرفوا كيف يتقبلون النتائج بهدوء واتزان. في هذا الإطار كان لافتاً مشهد المخرج المغربي سعد الشرايب وهو يصفق وزوجته الفنانة منى فتون للأفلام الفائزة، لا سيما للفيلم المصري "العاصفة" حين أعلن فوزه، مع معرفتهما بأن فيلمهما "عطش" لم يفز بأية جائزة. وهكذا نفذ رولان جوفي، المخرج البريطاني الذي ترأس لجنة التحكيم، "عقده" ودفع اللجنة إلى اختيارات بدا واضحاً أن لا تسويات فيها ولا توازنات، اختيارات سينمائية / فنية واضحة، حتى وإن كان البعض رأى ظلماً في حق يسرا التي كان ينبغي، مثلاً وعلى الأقل، أن ينوه بأدائها في "العاصفة". إذاً، نتجاوز مسألة يسرا، ونقول: لمرة أتت نتائج مهرجان من المهرجانات نزيهة متطابقة مع ما كان يفترضه كثيرون. منذ البداية لا بد من القول إن مهرجان القاهرة سجل انتصاراً جديداً للسينمات الآسيوية، تلك التي بدأت تصبح من أبرز ما يحدث في السينما العالمية - خارج إطار السينما الأميركية بالطبع في أيامنا هذه - وهذا الانتصار تمثل في منح أربع من الجوائز الرئيسية إلى الفيلم الصيني "تنهيدة" وجائزة أساسية أخرى إلى الفيلم الكوري "الجنازة السعيدة". وعدا عن هذا، توزعت الجوائز الباقية على مصر وفرنسا وإيسلندا وروسيا. من مصر كان هناك فيلم "العاصفة"، أول أفلام المخرج الشاب خالد يوسف، الذي سبق أن شارك يوسف شاهين في كتابة وإخراج فيلميه الأخيرين "المصير" و"الآخر". و"العاصفة" فاز بجائزة "أحسن فيلم عربي" 100 ألف جنيه مصري للمنتج غابي خوري، وبجائزة الهرم الفضي، أي جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وهي ثاني أكبر جوائز المهرجان. "العاصفة" الذي نقرأ عنه في مكان آخر من هذه الصفحة، فيلم يحكي التمزق العربي إبان حرب الخليج وغزو العراق للكويت، وذلك من خلال تورط أسرة مصرية صغيرة في الحرب والأحداث الكبيرة. هذا الفيلم الذي مثلته يسرا بروعة إلى جانب هشام سليم وهاني سلامة ومحمد نجاتي وحنان التركي وسعاد نصر، بدا صاحب حظ كبير في الفوز منذ عرضه الأول، فهو فيلم يستثير الحماسة، والتفكير أيضاً، حققه مخرج واثق من نفسه وقادر على ضبط موضوعه وأن يفرض عليه توازناً فنياً وسياسياً مدهشاً. "العاصفة" سوف يكتب عنه كثيراً، وكان من شأنه أن يحصد جوائز كثيرة أخرى لولا وجود أفلام قوية ومتميزة في المهرجان، لا سيما فيلم "تنهيدة" الصيني الهادئ والعميق الذي أحبه من شاهده منذ عرضه الأول: الفيلم يحكي موضوعه الإبداع والحب، حيث يتوالدان من بعضهما البعض، عبر حكاية كاتب سيناريو يُعزل في جزيرة لينجز كتابة عمل جديد، لكنه يقع في غرام فتاة أُتي بها لتساعده وتتعقد الحكاية لأن الكاتب متزوج. في هذا الفيلم ليس المهم الموضوع، بل الطريقة التي عالجه بها المخرج واسلوب أداء الممثلين. ومن هنا لم يكن مفاجئاً أن ينال الفيلم الجائزة الكبرى الهرم الذهبي، وجائزة افضل ممثلة لشوفان عن دورها فيه، كما نالت طفلة تمثل في الفيلم أيضاً تنويهاً خاصاً، ونال بطل الفيلم جافي غوالي جائزة افضل ممثل. لقد حصد "تنهيدة" جوائزه بجدارة، وإن كانت بطلته فازت بجائزتها مناصفة مع الفرنسية دومنيك بلان التي اثبتت حضوراًَ رائعاً ومتفرداً في فيلم "حالة استعداد" الذي كان مفاجأة حقيقية من مفاجآت المهرجان: فيلم عن الحرية وعن الحب، عن القلق والانتظار والخيبة، تدور أحداثه في مطار "أورلي" الباريسي من خلال حكاية امرأة يتركها زوجها في المطار ويسافر، فتعيش في المطار حالة استعداد دائمة، طوال اسابيع، في النهاية، حين يعود زوجها اليها، لا تجد ما يدفعها إلى مرافقته، لقد وصلت إلى حريتها ولم تعد مستعدة لأن يستعبدها أي حب بعد الآن. وهي تعرف أنها دفعت الثمن غالياً. "حالة استعداد" كان الفيلم الأول لمخرجه الشاب روك ستيفانيك الذي فاز بجائزة افضل مخرج عن هذا الفيلم. في المقابل فاز الكوري مون إيل شانغ بجائزة العمل الأول عن فيلمه "الجنازة السعيدة" الذي اتى كأنشودة تغني للحياة وتعبق بالشاعرية على رغم ان الموت موضوعه، وذكر من خلال شاب بائس عاطل عن العمل يجد نفسه، بعد ان يفشل في الانتحار، موظفاً لدى دافن للموتى في قرية لا يموت فيها احد. وتبقى من الجوائز جائزة افضل ابداع فني التي اعطيت الى "جزيرة الكنز" الروسي والتنوية الخاص الذي اتى من نصيب الفيلم الايسلندي "منتهى الفشل". وهكذا على ايقاع هذه الجوائز اختتمت الدورة الرابعة والعشرون لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي اعمالها وصفق الكثيرون وتواعدوا الى العام المقبل، عارفين جميعاً ان ما سيبقى في الاذهان، من بين الافلام كافة، فيلم "العاصفة" الذي كان الفيلم المصري الوحيد في المسابقة، والذي من المؤكد انه سوف يثير نقاشات وضروب حماسة وصخب كبيرة خلال المرحلة المقبلة.