يحاول ايهود باراك تعزيز موقفه السياسي المتداعي بتشديد الضربات العسكرية ضد الفلسطينيين وتوسيع نطاقها، وهذا يعني ان كل شهيد جديد هو جريمة اخرى يرتكبها رئيس وزراء اسرائيل لمنع سقوط حكومته في الكنيست. باراك لن يستطيع تحقيق أهدافه بالقتل، الا اذا قتل الفلسطينيين جميعاً، وهذا غير ممكن. وهو مسؤول وحده عن انفجار الشارع الفلسطيني، بعد ان أدخل المفاوضات في دوامة اقنعت كل فلسطيني وعربي ومسلم ان الحل لن يأتي عن طريق المفاوضات، كما انه مسؤول اليوم عن استمرار أعمال العنف، عن طريق الجرائم التي ترتكبها القوات الاسرائيلية والمستوطنون كل يوم. كنا سمعنا ان ايهود باراك ذكي جداً يحمل شهادات جامعية عليا، ويفكك الساعات ويجمعها، ويعزف على البيانو. غير انه رغم هذه الخلفية ابدى في الأسابيع الأخيرة نوعاً من العناد الممزوج بالحمق، فهو لن يستطيع فرض حل بالقوة المسلحة على الفلسطينيين، ويبدو ان العالم كله يرى ذلك، ومع ذلك لا يراه رئيس وزراء اسرائيل. المواجهة لن تنتهي بواسطة الدبابات وصواريخ الهليكوبتر، بل بمبادرة سياسية، وهذه لا بد ان تقود الى دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، فانتفاضة الأقصى خلقت وضعاً جديداً على الأرض لن يعود الفلسطينيون معه الى الوضع السابق الذي كان قائماً حتى 28 ايلول سبتمبر الماضي. الدولة الفلسطينية القادمة لا يمكن ان تخيف أحداً عسكرياً أو اقتصادياً، واستقرار المنطقة مرهون بها، ومع ذلك فمن يقرأ التصريحات الرسمية الاسرائيلية ربما اعتقد ان الاسرائيليين محاصرون، وان الفلسطينيين هم الذين اطلقوا الصواريخ عليهم وأرسلوا الدبابات. وباراك كذب حتى انه اقنع نفسه بأن الرئيس عرفات أصدر أمراً ببدء أعمال العنف، مع ان اي انسان عاقل سيرى ان الشارع الفلسطيني انفجر لأن سبع سنوات من المفاوضات لم تؤد الى شيء. وقد اصبح تنظيم فتح نفسه يقول للقيادة ان المفاوضات تدور في حلقة مفرغة، وان ابناء فلسطين مصممون على السير في طريق الشهادة حتى يصلوا الى القدس. هذا كلام شجاع، الا انه ليس عملياً، وفي حين ان القيادة تدرك صعوبة التفاوض مع الشارع، فهي حاولت تقليل الخسائر بمنع الناس من الوصول الى أماكن الاحتكاك، وبمنع اطلاق الرصاص، حتى لا يعطى الاسرائيليون أي عذر. مع ذلك الوضع تحول الى عملية "عض أصابع"، ومن يصرخ أولاً. وفي حين ان غالبية القيادة الفلسطينية تريد مخرجاً سياسياً، ولا تعترف بذلك خوفاً من الشارع أو احتراماً لشعوره، فإن السيد محمود عباس شذ عن هذا الحذر. ودعا الى استئناف المفاوضات عبر اميركا رغم تحيزها، وقال ان الانتفاضة نفسها لن تقود الى نصر، وهو كلام اسمعه من مسؤولين آخرين لا يريدون نسبته اليهم علناً. واكتب مقدراً ان أي كلام عن انتهاء الانتفاضة بمبادرة سياسية، ولو على أسس جديدة، لا يرضي الشارع الفلسطيني والشارع العربي ابداً. ومع ذلك فهو صحيح، والمطلوب الآن دعم صمود الفلسطينيين، الى حين بروز حل من قلب الانتفاضة. دعم الصمود هو ايضاً ليس من نوع الحديث الذي يريد ان يسمعه الشارع، ومع ذلك فهو مهم جداً، ومصادري بين الوزراء المعنيين تقول ان خسائر الفلسطينيين هي في حدود عشرة ملايين دولار في اليوم، وهذا الرقم أقرب الى الصحيح من أرقام اخرى ترددت، مثل 12 مليوناً أو 15 مليوناً. العمال الفلسطينيون في اسرائيل يخسرون 3.3 مليون دولار في اليوم، والسياحة الفلسطينية تخسر 2.5 مليون دولار، فقد ألغيت حجوزات الفنادق في بيت لحم وأريحا والقدس ورام الله، وتعطلت معها شركات النقل السياحي، وفقد الادلاء وأصحاب متاجر بيع التحف للحجاج دخلهم. وخسرت الصناعة التي تمثل 15 في المئة من الناتج القومي 700 مليون دولار في اليوم، وخسرت الزراعة، وتمثل 20 في المئة من الناتج القومي حوالى بليون دولار. وقد اغلقت مصانع كثيرة، وتعمل مصانع اخرى بطاقة محدودة، ولا تستطيع بيع بضاعتها الا في المنطقة حولها، كما ان المزارعين لا يستطيعون جني محصولاتهم، واذا جنيت فهم لا يستطيعون توصيلها الى الاسواق. والجريمة الاقتصادية الاسرائيلية بحق الفلسطينيين تسير بشكل مواز للجرائم ضد البشر، وهناك 800 حاوية فلسطينية محتجزة في ميناء اشدود منذ شهر، ولا يستطيع الفلسطينيون الاستيراد مباشرة لعدم وجود موانئ خاصة أو مطارات حتى الآن. الاسرائيليون لم يدفعوا حتى كتابة هذه السطور حصة السلطة من الجمارك والرسوم، وهي تقدر بحوالى 25 مليون دولار شهرياً، كما انهم لم يدفعوا تحويلاً آخر، يتم كل اسبوعين، وهو بحوالى خمسة ملايين دولار، ويمثل ضرائب مجموعة عن مشتريات مثل النفط وغيره. بكلام آخر، اذا لم يتلق الفلسطينيون مستحقاتهم من اسرائيل، أو اذا لم يصل اليهم بعض الدعم العربي الذي قررته القمة، فالناس الذين خاضوا الانتفاضة واستشهد منهم من استشهد سيواجهون مجاعة حقيقية. الغريب في الموضوع انه عندما فرضت اسرائيل حصاراً على المناطق الفلسطينية سنة 1996، أسست دول الاتحاد الأوروبي صندوق تشغيل طارئ. اما هذه المرة فالدول الأوروبية لم تقدم أي مساعدة، والدعم العربي لم توضع آلية لتنفيذه بعد. واعرف ان المواطن يفضل ان يسمع حديث الانتفاضة، والصمود حتى التحرير، الا ان أمور الحياة اليومية مهمة ايضاً ولا تحتمل التأجيل.