ما هو سبب استمرار انتفاضة الأقصى والى أين تتجه؟ طرحت السؤال عبر الهاتف امس على وزيرين عربيين صديقين، وهما عبرا عن مثل قلقي بسبب عدم وضوح الوضع. الاسرائيليون اطلقوا الانتفاضة بزيارة مجرم الحرب اريل شارون المسجد الأقصى قبل شهر، الا ان الزيارة نفسها كانت القشة الأخيرة، فالشعب الفلسطيني انتفض لأنه يرفض ان يبقى في دوامة "لا حرب ولا سلام"، فيما الحكومة الاسرائيلية تفاوض من اجل التفاوض، وتؤخر وتؤجل وتماطل. اليوم يمكن القول ان الانتفاضة الثانية سجلت انجازين مهمين، فقد كسبت للفلسطينيين والعرب الرأي العام العالمي الذي أصبح يرى حكومة ايهود باراك على حقيقتها، فهي حكومة لا تريد سلاماً عادلاً دائماً، وتستخدم قوة زائدة ضد مدنيين سلاحهم الحجارة، ثم انها لمت شمل العرب ووحدت صفوفهم كما لم يفعلوا منذ صيف 1990. ودفع الفلسطينيون في مقابل هذين الانجازين ثمناً باهظاً من أرواح الشهداء، بمن فيهم الاطفال، ولا يزالون يدفعون، كما أنهم يتعرضون لحصار اقتصادي محكم يساعد العنف اليومي الاسرائيليين على تثبيته بشكل سيستمر حتى لو انتهت الحوادث غداً. الفلسطينيون داخل اسرائيل يتعرضون لمقاطعة اقتصادية اسرائيلية، وقد اغلقت مصانع ومطاعم، وسحبت الحاخامية رخصاً لانتاج الطعام، ما جعل النواب العرب في الكنيست يتهمون اسرائيل بالعنصرية. وفي المقابل خسرت السياحة الاسرائيلية حتى الآن 600 مليون دولار، حسب تقديرات مكتب تنظيم السياحة الذي يتوقع ايضاً ان يفقد عشرة آلاف عامل في هذا القطاع وظائفهم اذا استمرت أعمال العنف. وأعود الى السؤال ما سبب استمرار الانتفاضة والى أين تتجه، وهو سؤال يذكرني بقانون في الاقتصاد عن العائدات المتناقصة، فأخشى ان تكون الانتفاضة وصلت الى نقطة لا تبرر العوائد فيها قتل الناس وتدمير الاقتصاد. يصعب اجراء مناقشة هادئة، والناس ثائرون، والوضع تغلب فيه العاطفة على العقل، ومع ذلك فثمة نقاط تكاد تكون مسلمات، مع ان غالبية العرب قد لا تراها كذلك: - الحرب غير ممكنة، لم يستعد لها أحد، ولا يريدها أحد. والرئيس حسني مبارك كان جريئاً في قول كلمة الحق. - هناك محاولات لنزع شرعية الرئيس عرفات، من اليهود الاميركيين في الادارة، والى الحكومة الاسرائيلية، على أساس انه لم يعد "شريكاً" في المفاوضات. وربما خدم الحظ أبو عمار مرة اخرى، فيسقط ايهود باراك قبل ان يرحل هو. - الدعوات لاسقاط اتفاقات اوسلو خطأ، فهذه الاتفاقات حققت فوائد للفلسطينيين يجب البناء عليها لا هدمها، ولو من زاوية انتفاء البديل. - ثمة دلائل واضحة على تراجع التأييد العالمي للفلسطينيين بعد الاسبوعين الأولين من الانتفاضة. وهناك من قال ان الجمعية العامة صوتت بغالبية ساحقة ضد اسرائيل، الا ان عملية التصويت أظهرت، للمرة الأولى في تاريخ عمليات التصويت المماثلة امتناع 46 دولة عن تأييد الفلسطينيين، وهو ما لم يحدث من قبل. كذلك امتنعت الدول الأوروبية في لجنة حقوق الانسان عن تأييد الفلسطينيين. واكتب مقدراً ان الآراء السابقة لا تعكس موقف الشارع العربي، الا انني أراها صحيحة، وأزيد ان الطريقة الوحيدة للحؤول دون اهدار دم شهداء الانتفاضة هي في وضع خطة تترجم مكاسب حقيقية على أرض فلسطين. ربما كانت هناك خطة، الا ان ما يعقد تنفيذها هو قرب انتخابات الرئاسة الاميركية في السابع من تشرين الثاني نوفمبر، وشعور القيادة الفلسطينية، بأن المسؤولين الاميركيين عن عملية السلام منحازون كلياً لاسرائيل، وبعضهم من اليهود الاميركيين الذين دخلوا الادارة لخدمة اسرائيل، وهم مع قرب نهاية ولاية بيل كلينتون ازالوا الأقنعة نهائياً عن وجوههم. ويستثني الفلسطينيون الرئيس كلينتون نفسه من مثل هذا الانحياز، الا انه ايضاً تحت ضغط الحاجة الى دعم نائبه آل غور في حملة الرئاسة، وزوجته هيلاري التي تحاول الفوز بمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك. هذا الوضع قد يعني ان تستمر الانتفاضة الى ما بعد الانتخابات الاميركية، وربما الى ما بعد قيام الادارة الجديدة، ففي غياب انجاز سياسي لا بد ان تستمر اعمال العنف، والاسرائيليون يوفرون مناخاً ملائماً لها كل يوم بممارساتهم الوحشية ضد المدنيين. غير ان هذا سيكون كارثة على الفلسطينيين قبل غيرهم، وهناك "سيناريوهات" اخرى مطروحة، مثل قيام اسرائيل بمجزرة كبيرة تقلب المعادلة، وترغم الولاياتالمتحدة على التدخل، أو نجاح عملية انتحارية داخل اسرائيل توقع خسائر كبيرة في الأرواح، وتؤدي الى تحريك الوضع من جديد. أبو عمار كان يستطيع ان يعلن دولة مستقلة في نهاية الاسبوع الثاني من انتفاضة الأقصى، وان يجد تأييداً واسعاً لها حول العالم، مع معارضة اميركية، فقد كان التعاطف مع الفلسطينيين كبيراً. أما الآن فالوقت غير مناسب لإعلان دولة مستقلة، والقرار يجب ان ينتظر الى ما بعد الانتخابات الاميركية، وربما حتى منتصف الشهر أو قرب نهايته. وسيجد الفلسطينيون معارضة اميركية لأي موعد يختارونه، فالكونغرس كنيست آخر ومواقفه خلال انتفاضة الأقصى كانت نسخة طبق الأصل عن المواقف الاسرائيلية، واحياناً اسوأ منها. وسلاح أبو عمار الوحيد في وجه هذا الانحياز الاميركي الكامل لاسرائيل هو المحافظة على التأييد العربي لقضيته، وفي حين ان استمرار الانتفاضة هو ما يريد الشارع العربي، وهذا يضغط على حكوماته، فإن صوت العقل يجب ان تكون له الغلبة، فالحرب غير ممكنة والمطلوب حل سياسي أو مخرج، فلا تروح شهادة الشهداء هباء.