في رواية "سمر الليالي" الصادرة حديثاً عن دار الحوار، يفتح الروائي السوري نبيل سليمان ملف الفساد والظلم والاستعباد على آخره. يرفع القشرة الرقيقة التي كانت تغطي الفضائح والتجاوزات في ظل غياب القانون المدني وسيطرة قانون الطوارئ وشرعنته ليكون الناظم والحاكم لعلاقات السلطة بشعبها. وفي ظله تمتهن الكرامات ويخيم العسف والظلم والجور، لتكون الشريعة الوحيدة التي تحكم الناس، وكل ذلك من أجل خلاف بسيط من أجل مصلحة الوطن. في "سمر الليالي" يخدعنا نبيل سليمان فيجذبنا إلى متنه الروائي عبر بريق العنوان وعندما نتوغل بين السطور سندرك أي هول تخبئ هذه الليالي في عتمتها. نحن إذاً لسنا في ليالي ألف ليلة وليلة، تقصها شهرزاد على الملك شهريار لتؤنس وحدته، وإنما نحن أمام سمر جديد، تقصّه علينا "ريّا العيد" وما جرى لها مع أجهزة الأمن في غرف التوقيف وأقبية التعذيب. وقد سبق لنبيل سليمان أن جرّب مثل هذا النوع من الكتابة روايته السجن 1972، لكنه الآن يجرّبها في شكل آخر وبرفقة السجينات السياسيات، مصوّراً ما يشبه الحياة التي تعيشها نزيلات هذه السجون. وهو إذ يرافقهن منذ لحظة الاعتقال، لا ليصوّر حالتهن النفسية وما يلاقين من عذاب جسدي، وإنما ليرصد واقعاً متفسّخاً، متردّياً، تفقد فيه السلطة ثقتها بالشعب الذي تمتهنه، ويفقد الشعب ثقته بهذه السلطة، التي لا يهمها سوى النهب والسلب والتسلط والاغتصاب والعنف. وهنا يخرج الكاتب من جلد التاريخ ليكون شاهداً على عصره، ومؤرخاً لما يجري أمام عينيه، متابعاً رسالة الأديب النبيلة في إدانته للممارسات اللاإنسانية تحت رعاية آلية البطش والاستعباد والإذلال. كتب الأدباء كثيراً من الأعمال عن حياة السجون ومصائر المساجين السياسيين وطرائق التعذيب، كان منها العسكري الأسود، شرق المتوسط، الغلامة، القلعة الخامسة، شرف، الآن هنا... أما ما كتبته المرأة عن تجربتها داخل السجن السياسي فلا يزال نادراً، ويعد على الأصابع، مثل مذكراتي في سجن النساء، حملة تفتيش، السجن الوطن، الشرنقة، السجن مجتمع بري وتمكن إضافة تجربة مليكة أوفقير إلى هذه الأعمال مع بعض الاختلاف. وإذا جاز لنا أن نستخدم تعبير نبيل سليمان، فإن رواية "سمر الليالي" تتلاقح مع رواية الشرنقة لحسيبة عبدالرحمن، في تصوير عوالم السجن الداخلية وعلاقات النساء بعضهن ببعض، داخل المعتقل. وكما تقول ريّا، بطلة نبيل سليمان: "من يأكل العصي ليس كمن يعدّها، ومن لا يعيش السجن ويكتب عنه، سيفتقد سرّاً على الأقل، وقد يكون سرّاً قاتلاً" ، لكن ما يميّز رواية سمر الليالي، هو انشغالها على ما يجري خارج السجن وهو لا يختلف كثيراً عمّا يجري في الساحة العامة، التي تبدأ بالمنزل والشارع والعمل والعلاقات الاجتماعية المفسّخة التي ولدتها أجهزة القمع. تتضمّن ليالي السمر، خمسة أسمار، مخصّصة ل:ريّآ، شهد، شهد وريّا، لياليهن، لياليها وليالينا. وبالفواصل الثمانية، يكون الكاتب أتمّ دائرة الاستعباد العربي، منذئذ، إلى دورة التاريخ الأولى، في محاولة تشكل الدولة العربية وبسط سيطرتها ونفوذها. تطل سطور السمر على ريّا حسّان العيد وهي تساق إلى المركز الأمني المقابل لثانوية البنات، وبعد أن تتلاشى أمام عينيها محتويات الشوارع ومئذنة جامع سيدنا الحسين وسور نادي القادسية، وشجرة الكينا الوحيدة وأقواس الريحان والناس والمعروضات وزرقة البحر، تدخل من البوابة الكهربائية لتقف أمام المقدّم زاهر حمدو الذي كانت أصابعه تلهو بالماوس وعيناه تغازلان شاشة الكومبيوتر، ويبدأ لقاء التعارف. وريّا هذه، كما يظهر اللقاء، مدرسة في ثانوية البنات، تحمل إجازة في التاريخ، غير منتمية إلى حزب سياسي، لها صداقات مع بعض السياسيات المعتقلات، وما إن ينتهي هذا التعارف حتى تؤخذ إلى التحقيق، وتبدأ رحلة السمر الأوّل. فإذا ريّا قبالة رجل بلا اسم ولا صفة "في كرسي" بلاستيك. وبعد التعنيف والشتم، تطالب بسبب يبرّر اعتقالها. ومن خلال الأحداث التي تردّ، يتبيّن أن ذلك بسبب طول لسانها في انتقاد بعض المسؤولين وممارساتهم وتجاوزات أبنائهم وهم ينهبون المال العام، أو يلهون بأرواح الناس، ثم يسيرون بجنازتهم. إنها كما يقول عنها زهوان: "ريّا صارت لا تحتمل... أنها لا تعمل مع أي جهة معارضة لكنها لا تخالط إلا المغضوب عليهم..."، وهؤلاء المغضوب عليهم، هم الشيوعيون والإسلاميون وجماعة حقوق الإنسان. وستردّ ريّا عن علاقتها بهم بأنهم يطرحون شعارات حلوة وأفعالاً "ما جرّت علينا غير الخراب". فالكاتب هنا يردّ أسباب التروّي والفساد والانهيار الأخلاقي إلى تجارب الأحزاب التقدمية والأصولية معاً، ولا بأس من ذكر الأحزاب القومية أيضاً، التي سبّبت هذه الكوارث وقادت إلى الخراب، كما قالت ريّا. هذا الاعتقال الاحترازي، كان حرصاً على المصلحة العامة، وكان من نتائجه نفور أقرب المقربين من ريّا. فأخوها الإسلامي يرى في اعتقالها مهانة للعائلة. وأخوها الثاني الضابط يخاف على الترقية العسكرية من أن تضيع لأنه صار شقيقاً لمعتقلة. كذلك تبتعد عنها شهد صديقتها وتخسر مهند الذي كان يحبّها كما خسرت لويز ولبية جراء اعتقالهما، "وربّما كانت نظرات عفراء وأم وليد تضاعف من وساوسها وخشيتها، مثل الرطوبة التي غطت المدينة والبحر بغيوم خانقة". ولا يكتفي نبيل سليمان برصد الواقع السلبي المعاش، بل يتابع بخبرة الباحث الاجتماعي دراسة مشكلات الشباب وطموحاتهم المجهضة، من خلال لعبة القصّ، باستخدام المونولغ والتداعي والفلاش باك، أو الحوارات التي تتمّ بينهم. تقول ريّا: "أنا ولدت في ظلّ قانون الطوارئ، خائفة أن نموت والطوارئ هي الطوارئ، إلى متى سيظلون يكتمون أنفاسنا ونحن عاجزون". وفي الطرف الآخر هناك الزعران الجدد، أولاد المسؤولين، ومن كان تحت رعايتهم "الواحد منهم ينام النهار ويسهر الليل، سيارته مدجّجة بالويسكي والرصاص وأفلام البورنو، وربّما بالعاهرات والحشيش أو الدولارات". في رواية "سمر الليالي" يدخل نبيل سليمان يده إلى جحر الأفعى، ليتحدّث عن تجربة الأحزاب السياسية وانهيارها أمام الطغيان الأمني وعدم مواكبتها تطوّر المجتمع وانغلاقها على قيادتها. وعلى ذلك تمضي بقية الأسمار وهي تفتح ملفات الصراعات الأمنية والاختلاس من خزينة الدولة والتهديد والمحاكم الاقتصادية، والرهائن والحرمان من الحقوق المدنية إلى الحصول على جواز سفر مزوّر لقاء مبالغ خيالية، إلى الدعارة وحقوق الإنسان وتحيّز أميركا إلى جانب اسرائيل وقصف العراق وتجويع شعبه، إلى فنون التعذيب داخل السجون، إلى مافيا السلطة التي تهيمن في الخفاء على كل شيء، بدءاً من ترقية من ترضى عنه، إلى النفي في سجون الصحراء عمن لا ترضى عنه. ويبرع نبيل سليمان في تصوير الحياة داخل سجن النساء، حيث يتم جمع الشيوعيات بالعاهرات بالقاتلات، وتاجرات المخدرات والمهرّبات فيعاين مجريات حياتهن اليومية، بدءاً من التحقيق واستخدام فنون التعذيب معهنّ، إلى صراعهن مع بعضهن على الأشياء الصغيرة والتافهة والتقاط لحظات أساهن وترقب الأمل بالإفراج عنهن والتوقيع على تعهد بالابتعاد عن العمل السياسي وتأييد السلطة. ومن خلال ذلك يتابع الروائي دراسة واقع المرأة العربية المستلبة والمهمّشة من الذكر الذي يستمرئ عبوديتها وإذلالها. وعندما تخرج ريّا من المعتقل تتحدّى الجميع وتحدّث المدرسات والطالبات عن الإفراج عن السجينات السياسيات" إن سجنهن طال وخطرهن زال، وفي حمأة المناداة العالمية بالديموقراطية وحقوق الإنسان، على أبواب القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، لا يليق بأية سلطة عربية، أو أية سلطة شبيهة، أن تسجن عشرات النساء، سنة فسنة، بلا محاكمة، أو بمحاكمة صورية، مثلهن مثل مئات وآلاف الرجال". وبعد أن تخرج الواحدة منهن من المعتقل ستجد نفسها وقد فقدت زوجاً أو أباً أو أسرة أو حبيباً، ويضيع منها بيتها الذي كانت تسكنه، وتوضع أخرى في مصحّ للأمراض العصبية، وأخرى تتبرّأ منها عائلتها فتغرق الأخلاق والفضيلة والقيم النبيلة لتطفو على السطح قيم السلطة، ممثلة بالمال والقوة وبيع الجسد. ولا بأس من المرور على حوادث معينة من التاريخ، ينبشها الكاتب من صفحاته، ليذكرنا بتاريخ الظلم والطغيان والاستبداد. يتعامل نبيل سليمان مع القارئ كصديق له، فيأخذ بيده ويلاطفه، يشرب معه القهوة على شاطئ البحر، وبلغة أنيقة يقصّ عليه بحذق الروائي الخبير قصة الهول العظيم الذي يمارس على المرأة في شرقنا العربي، لا لسبب إلا لأنها امرأة، ضلع قاصر، قبل كل شيء. شخوص عدة تحتشد في "سمر الليالي" والكاتب لا يسعى إلى تطويرها لتأخذ دورها في البناء الروائي، لأنها شخصيات منجزة، يعرفها القارئ، قبل الكاتب. ويهدف الكاتب من خلال تواجدها إلى إبراز جانبها المعرفي الذي يخدم الأفكار التي يريد الكاتب إيصالها إلى قارئه بيسر وسهولة. سمر الليالي، الرواية الرابعة عشرة لنبيل سليمان وفيها يتابع رسالته ليجدّد شبابه وشباب الرواية السورية.