كُتبَ كثيراً، في شأْن العلاقةِ المعقَّدةِ بين الواقع والأَدب، أَنَّه يحدثُ أَنْ يتجاوزَ الواقع المتخيَّل، بل وقد يتجاوزُ قدراتِ التخييل نفسِها، ولا جديدَ في القولِ إِنَّ الكاتبَ قد يُصادفُ وقائعَ وحوادثَ تعصى على تخيِّله، وما قد يُحسَبُ تصويرُه أَو تشخيصُه أَو التعبيرُ عنه في فيلم سينما أَو عرضٍ مسرحيٍّ أَو قصيدةٍ أَو روايةٍ تصنُّعاً ومبالغةً، ونظنُّها كيفيّاتُ التعبيرِ والتشخيص والتصوير وحدَها التي تُمكِّنُ زعماً عن توفيقٍ في هذه الكيفيات أَو إِخفاقٍ فيها. وحصراً للمسأَلةِ التي تتشعَّبُ خيوطٌ لها إِلى غير مطرحٍ وموضِع، ثمَّة ما لا تزيَّدَ في وصفها بأَنها ملحمةٌ سوريةٌ تجري منذ شهور، تُذكِّرُ بالسؤال العويص عن مساحاتِ المتخيّل في الإِبداع الأَدبيِّ عموماً، إِذا ما تصدّى هذا الإِبداعُ للتعبير عن مشهدٍ شديدِ الفظاعة في حدَّتِه. مناسبةُ استعادةِ السؤالِ تُيسِّرُها الوقائعُ والفظائع التي تتواترُ من سورية، والتي تطرح سؤالاً وجيهاً، ومطلوباً ربما، عما إِذا سيكون لها مطرحُها في المدوَّنةِ الإِبداعية الأَدبية العربية. ببساطة، ثمَّة مروياتٌ مشهورةٌ، وأُخرى محدودةُ الذيوع، في تفاصيل المشهد الدامي هناك، لو تخيَّلها روائيٌ أَو مسرحيٌّ في عملٍ لقوبلَ بتحفظٍ كثير، وربما برميِِه بغوايةِ الميلودرامية الفجائعيّة التي تتوسَّلُ ابتزازَ العواطف، وبالميلِ إِلى حكاياتِ الأَفلام الهنديةِ التي تستدرُّ دموعَ مشاهديها من فرطِ المآسي فيها على الشاشة. حادثةٌ تناقلت خبرَها مواقعُ إِلكترونيةٌ، تستنفرُ زوبعةَ كلامٍ كثيرٍ في المسأَلة، موجزُها أَنَّ مواطناً سورياً من الزبداني اسمُه خالد برهان، اعتقل ثلاثين يوماً في موجةِ الاعتقالات الرهيبةِ التي تنشطُ فيها السلطةُ منذ شهور، أُفرجَ عنه قبل أَيام، ربما ضمن موجةِ استبدالِ معتقلين بآخرين، بعد أَنْ لم تعد السجون تتَّسع. في أَثناءِ طريقِه في الحافلِة إِلى منزلِه ليلاً، هاتفَ الرجلُ زوجتَه وطلب منها أَنْ تجعلَ أَولادَهما يقظين، لشوقِه لهم. ولمّا وصل، كان جمعٌ من عائلتِه وأَقاربِه في فرحٍ كبيرٍ به، ورمى أَولادٌ في المنزل أَلعاباً ناريّة، ما جعل قوى الأَمن تستهدفُ المنزلَ بزخّاتِ رصاصٍ، أَصابت واحدةٌ منها الرجلَ العائد للتوِّ من الاحتجاز، فخرَّ لحظتَها ميِّتاً، وأُصيب عديلُه الذي كان يُعانِقه إِصابةً بالغة، أَخذته حالةُ غيبوبةٍ في المستشفى. القصُّة هي هذه، بالغةُ البساطةِ ويسهلُ سردُها بإِيجازٍ وتكثيف، غير أَنَّ التعبيرَ عنها في عملٍ روائيٍّ أَو شعريٍّ سيأْخذُها إِلى ما فيها من إِحالاتٍ كبرى، ليس فقط إِلى سياقٍ سياسيٍّ واستبداديٍّ في سورية، بل أَيضاً، إِلى العبثِ الذي ترتكبُه السلطة هناك بقيمةِ الحياة لدى من يستسهلون إِصدار الأَوامر بإِطلاق الرصاص، وإِلى كل الخوف المقيم في دواخلِ هؤلاء وتابعيهم، فيجعل أَصابعهم على الزناد في أَي لحظة، لترمي الرصاصَ عند أَيِّ نأْمةٍ أَو تبيُّنِ خيطٍ من نورٍ في فضاءٍ مظلم، وإِنْ يُحدِثُه أَطفالٌ يلهون في حالةِ فرحٍ اندسَّت في أَيامهم الكئيبة. وحدَه الروائي أَو القاص أَو الشاعر أَو المسرحي القدير من يُمكنُه أَنْ يأْخذَ الواقعةَ إِلى زوبعةٍ من ظلالٍ لها واسعة، ويستطيعُ أَنْ يُعاين الملحمة السورية الراهنة، ليس فقط بحسبانِها تعبيراً شعبياً باهراً عن ذروةِ التوتر القاسيةِ مع النظام المستبدِّ الخانق، بل، أَيضاً، باعتبارِها واقعةً تاريخيةً يُضيء أَدبٌ مكتوبٌ عنها فضاءً إِنسانياً وتاريخياً شاسعاً تنفتحُ عليه، لا سيّما أَنَّ المواجهةَ بين الشعبِ السوريِّ ونظامِه وصلت إِلى مرتبةِ المعجزة، إِذ وجيهٌ وصفُ كل متظاهرٍ في أَثنائها بأَنَّه فدائي. يمكنُ الانشغالُ بجدلٍ سياسيٍّ بائس، وإِعلاميٍّ أَكثر بؤساً، في شأن مأْساةِ الشابة زينب الحصني التي اختطفها شبيحةٌ من الشارع للضغطِ على شقيقِها الناشط، وبعد أَيامٍ، يُؤْتى بوالدتِها لتتسلَّمَ جثتها (وجثة أَخيها التي تنساها القصّة الشائعة)، وتجدُها شديدةَ التشوُّه نتيجة تعذيبٍ مُروّع، وتوقِّعُ الأُم على إِيصالٍ باستلامِ الجثتين وتصريحيْن بدفنِهما. ثمَّ يُظهر التلفزيون السوريُّ فتاةً يقول إِنها الحصني، وتتحدَّثُ هذه عن لجوئِها إِلى منزلِ أَحد أَقاربِها خوفاً من العائلة، لتصيرَ روايةُ التعذيبِ والتمويتِ كذباً. يتوقفُ سردُ الحكايةِ هذه عند هذا المشهد، وكأَنَّ السلطةَ الغاشمةَ هي التي تُحدِّد خاتمتَها التي تُريد، إِذا كان غيرُها من أَوجدَ البداية، فليس مهماً بعد ذلك أَنَّ زينب الجديدة لم تعد أَبداً إِلى منزلها، وأَنَّ أُمها التبست عليها البنتُ التي ظهرت على التلفزيون، لأَنَّ صوتَها صوتُ ابنتِها، وليست مهمةً الإِجابةُ على السؤال المهملِ عن صاحبةِ الجثةِ المشوهةِ التي أُذنَ بدفنها. لا حاجة إِلى أَيِّ منسوبٍ من الخيالِ لكتابةِ روايةٍ أَو مسرحيةٍ عن مسار هذه الوقائعِ وتتاليها، وهي هنا موجزةٌ وباردةٌ هنا، فثمَّة مقاديرُ مدهشةٌ من التراجيديا والكوميديا والعبث والملهاة والسخرية والدراما، وربما الخوارقيّة والعجائبية، تتآلف كلها هنا، وتُيسِّر واقعيّةً سحريةً جذّابةً لمن يريدُ أَنْ يتصدّى لإِنجاز عملٍ أَدبيٍّ يستوحي قصة زينب الحصني وحياتَها وميتتها في أَقبيةٍ لا يعرفُ الجنُّ الأَزرق ما يحدُث فيها، وثمَّة أَوجاعُ والدتِها حين تكون ابنتُها محضَ استخدامٍ إِعلاميٍّ ليس إِلا. تُرانا، نُحرِّضُ منتجي الأَدبِ في سورية وغيرِها على تقصّي التفاصيلِ في شأْنِ قتل المغني إِبراهيم قاشوش بنزع حنجرتِه ورمي بدنِه ميِّتاً في النهر. أَيُّ ماركيز أَو أَستورياس أَو يوسف إِدريس في وسعِه أَنْ يتخيَّل هذا؟ لا يَحرمُ هذا السؤال من قالوا من بين محبي نظام بشار الأَسد أَنَّ الحقيقة ليست التي شاعت من حقِّهم في الجهر بقولهم هذا، إِذ إِنه يُضاعِف من (متعة؟!) الكتابةِ الأَدبية ولذَّتِها، حين تصبح حنجرةُ قاشوش قضيةَ وطنٍ وبلدٍ يُراد لها أَنْ يختلطَ فيها الصحيحُ بغير الصحيح، مدهشٌ قاشوش هذا إِذاً. ومفجعٌ أَرشيفُ ويلاتٍ فظيعةٍ من جرائمَ تعصى على التخيُّل في تاريخ سورية البعثي، فيه الفلسطيني فايد ملاك، طالبُ الهندسة الكهربائية في جامعة حلب، الآتي من قرية عتيل قرب طولكرم، لم يكن له، طوال خمس سنواتٍ في دراستِه الجامعية، همٌّ سوى العودةِ إِلى والديه ليُفرحَهما بشهادتِه مهندساً، فقد كان طالباً متفوقاً، منقطعاً إِلى العلامات الأُولى في امتحاناتِه، لم تكن السياسة تعنيه، ولا شغل له بالمشتغلين بها. قبل أَيامٍ من امتحانات السنةِ الخامسةِ (الأَخيرة)، صيف 1980، يكونُ في المنزل الذي يُقيم فيه مع زميلٍ له كان غائباً في تلك الساعة التي اقتحمَ فيها جنودٌ المنزل، وقتلوا فايد برصاصٍ غزير، وسحبوا جثَّته من رجليه على أَربعين درَجةً، وتركوها في الشارع ساعات، ثم أُعطيت لكلية الطب ليتعلم عليها الطلابة التشريح. هي واقعةٌ من أَرشيفٍ شديدِ الظلام، موصولةٌ بحكايةِ جثةِ الناشط السوري غياث مطر التي تسلمها أَهلُه، وعليها آثارُ تعذيبٍ وحشيٍّ، وجروحٌ في الصدر، وشقٌّ طوليٌّ في البطن تمَّت خياطتُه، ما قد يُسوِّغُ الاشتباهَ بسرقةِ أَعضاءٍ وإتجارٍ فيها. والحكايتان موصولتان بأُخر عدة، رشحَ منها القليل، وظلَّ الكثيرُ غافياً ومهملاً ومنسياً، لا تَزيُّد في القولِ إِنه الأَدبُ العظيمُ وحدَه ما يحسنُ أَنْ ينشغلَ بها، لا سيّما أَنها مادةٌ غزيرةٌ تتوافر على كلِّ عناصر الإِجادة في الكتابةِ الروائيةِ والقصصية والمسرحية، ولا تُجْهِد المخيلة. من سيكتبُ عنها، لن نسأَلَه عن حدودِ الواقعيِّ فيها من غيرِ الواقعي، كما فعلنا مع روايةِ مصطفى خليفة (القوقعة)، والتي لا غلوَّ في اعتبارِها علامةً فارقةً في أَدب السجون العربي، لأَنَّها شهادةٌ جارحةٌ عن الاستبدادِ القاسي في سورية، اتكأَت على تجربةٍ شديدةِ الحدَّة مرَّ بها كاتبُها الذي ضاعت 13 عاماً من عمرِه سجيناً في أَقبيةِ الانتهاك الآدميِّ المريعة في سورية. هي واحدةٌ من أَعمالٍ راكمت منتوجاً عربياً مهماً في أَدب السجون، على قرابةٍ أَكيدةٍ بمنتوجٍ جيِّدٍ من نصوصٍ انشغلت بالديكتاتور والطاغية، كتبها عصام محفوظ ونبيل سليمان وإِبراهيم نصرالله وجمال الغيطاني وصنع الله إِبراهيم وعزت القمحاوي وبنسالم حميش وهاشم غرايبة وهاني الراهب ومؤنس الرزاز وآخرون. ولكنْ، تبقى هذه النتاجاتُ ضعيفةَ الصلةِ والقرابةِ بما يُشْتَهى أَنْ يُكتبَ من رواياتٍ ومسرحياتٍ وقصائدَ عن ملحمةٍ عظمى تجري الآن في سورية، وتتوافرُ على وقائعَ وحوادثَ غير قليلة، قد لا يكونُ ميسوراً لدينا عند قراءَة هذه النصوص المرتقبة، أو المشتهاة على الأَصح، تعيين المتخيَّلِ والواقعيِّ فيها، فتتجدَّدُ استعادةٌ أُخرى للسؤالِ إِيّاه عن الأَدب والواقع: أَيُّ صلةٍ بينهما وأَيَّةُ حدود؟