تبدأ معارضة الديكتاتوريات مطاليبها بالحرية والديموقراطية والاستقرار عادة، ولكن الحال العراقية تشكل استثناء غرائبياً في نوعه، اذ ان ظروفها الذاتية والسياسية - الاقليمية والدولية تجعل مثل هذا الطموح مبالغة لا تنسجم مع الواقع. ولهذا يبدو عليها، على رغم أكثر من ثلاثين عاماً على وجودها، وكأنها اتخذت اهاباً رمادياً فرضته عليها تلك الظروف. فتخلت تحت ضغط الواقع عن هدفها البكر، اسقاط النظام، في الوقت الذي لا يمكنها العمل والاستمرار معه. هذه النهاية أفضت الى دخولها حالة من عدم الفاعلية التي تضرب صدقيتها في الصميم. لكنها، مع تشخيصها للمشكلة تشخص أيضلا انه: ليس مسموحاً لها بالتحرك اقليمياً ولم تقدم لها القوى الدولية ما يسمح لها بتجاوز الحاجز الاقليمي والذاتي. في "مؤتمر نيويورك" الذي عقد في 29 تشرين الأول اكتوبر الماضي جددت فصائل المعارضة محاولتها للخروج من حال الشلل التي اصابتها منذ سبع سنوات، ولعلها حققت بعض التقدم في مسعاها لكن ليس بالقدر الذي يجعلها قادرة على الخروج من حقل الألغام السياسية التي تتحرك فيه، ناهيكم عن تحقيق التقدم نحو قضيتها الأساسية "انشاء نظام ديموقراطي". اما من منظور الولاياتالمتحدة لبى الاجتماع متطلبات الحد الأدنى وأعطى الإدارة الأميركية نفحة من التفاؤل يسر لفترة من الانسجام مع كونغرس يسيطر عليه خصومها قبل التوجه نحو مبادرات عملية لتطبيق مفهومها الجديد الذي استبدلت فيه سياسة "الاحتواء المزدوج" ب"الاحتواء زائداً التغيير" قبل أكثر من عام. وعلى رغم ما حصل في نيويورك يمكننا القول، اذا ما نظرنا الى المشهد العام ان صدقية التغيرات التي جاء بها "مؤتمر نيويورك" وجدواها، تبقيان في نهاية المطاف، مرتهنتين بعوامل اقليمية ودولية ليس في الأفق ما يسمح بالاعتقاد بتوافر شروطها. كما بقيت عناصر المعادلة المستحيلة التي تحكم المعارضة، بعده على حالها، هذا مع ان النظام العراقي ازداد ضعفاً وفقد الكثير من مقدرته الميدانية على التحرك واطلاق المبادرات مقارنة بالعام 1992 الذي تأسس فيه "المؤتمر الوطني العراقي". التجاذب الاقليمي تسمح قراءة التطورات التي سبقت عقد "مؤتمر نيويورك" بتسجيل ملاحظة مهمة هي: ان سقف الآمال والتطلعات لدى المعارضة العراقية، انخفض مع تلاحق الاحباطات التي تسببت بها مواقف المعارضين، وأخذ بالتنازل من مستويات العمل على اصلاح مؤسسة المؤتمر وتوسيع تمثيله، الى مجرد "عقد اجتماع". حتى ان واشنطن كانت أكثر تفاؤلا وطموحاً في اعقاب "اجتماع ويندسور" منتصف العام الجاري، الذي سمح بتشكيل قيادة جماعية موقتة وفتح الباب أمام انضمام "تيار الوسط"، الى حلبة اصلاحه. فما ان انطلقت عجلة المفاوضات التمهيدية حتى اتضح لواشنطن وغيرها ان: تحقيق اجتماع موسع للمعارضة، أي مجرد هدف الحد الأدنى المتواضع، مهمة أصعب مما كان متوقعاً. واتضح ان النيات الحسنة والتفاؤل الرومانسي لا يكفيان لتجاوز عقد التعارض في المصالح الذاتية والاقليمية الفاعلة في معادلة المعارضة العراقية، بل المتحكمة فيها بالأحرى، منذ عقود من السنين. فقضية مكان عقد الاجتماع، التي كانت ستبدو شكلية في الحالات العادية، أخذت حيزاً من وقت المفاوضين وجرى حولها الكثير من الجدل، الذي يصح ان يعد تعبيراً ممتازاً عن طبيعة التيارات والمصالح الناشطة ضمن بنية المعارضة العراقية. وعكست هذه التيارات رؤيتها للوضع بصيغ لا يمكن التوفيق بينها من دون التفريط بالحد الأدنى من الوحدة المفتقدة للمعارضة، فمن جهة لم تناسب شروط عقده أطرافاً رئيسية لا ترغب في العودة الى "النزعة الثورية المسلحة" بما يحتمل ان تؤثر في معادلة "الأمر الواقع" في العراق وفي كردستان التي تعايشت معها. ومن جهة أخرى برز محور ثان، وقوي، يضم خليطاً من الفصائل المتعارضة برنامجياً، والمتوافقة على صعيد الخيارات الاقليمية. وضم هذا المحور المرتكز على دعم دمشق - طهران الاقليمي، قوى قومية - بعثية، وفصائل الاسلاميين "الشيعة" من دون استثناء، وأحد جناحي الحركة الكردية، وهو الاتحاد الوطني الكردستاني. ووقف هذا المحور مع عقد المؤتمر في كردستان، بينما اعترض الجناح الكردي الثاني، الحزب الديموقراطي الكردستاني، وبقوة على ذلك، ما لم تتوافر الضمانات الأمنية الأميركية اللازمة لردع النظام العراقي من الانتقام من الادارة الكردية الواقعة تحت رحمة التجاذبات العسكرية الاقليمية. واشنطن التي ترغب بتحريك المعارضة العراقية كانت تعرف ان ثمن عقد المؤتمر في كردستان سيعني منح الأكراد ضمانات تفضي الى رفع سقف التزاماتها الأمنية والسياسية الى قدر ليست مستعدة لتبنيه في الوقت الحاضر. عقدة المكان ورفض اختيار مدينة نيويورك بولغ في استخدامها من قبل اطراف عديدة في المعارضة لأسباب عديدة منها خشيتها من انفراد الجناح الليبرالي الراغب بتطوير التحالف مع العواصم الغربية، ولا سيما واشنطن ولندن، ولكن أيضاً لحسبانه اثر المواقف الاقليمية الموقف العربي والموقف الايراني، التي تتعاطى مع السياسة الأميركية من منظار تداعياتها على ملفات سياسية حساسة أخرى غير الملف العراقي، كملف السلام في الشرق الأوسط، ورغبة واشنطن في رؤية نظام عراقي مستقبلي أكثر استعداداً لتقبل معطيات السلام مع اسرائيل ومتعاون مع حليفتها تركيا، وهو الأمر الذي تعتبره سورية وايران اختراقاً غير مقبول لاستراتجيتهما السياسية في المنطقة، وتفضل عليه التعامل مع الرئيس صدام حسين في وضعه الحالي. ونتيجة لتلك الحسابات الاقليمية شهد "مؤتمر نيويورك" للمرة الأولى غياب ممثلي الفصائل القريبة من محور دمشق - طهران: العاصمتين الاقليميتين اللتين طالما لعبتا دوراً مهماً في المؤتمرات السابقة للمؤتمر الوطني العراقي وفي مختلف المناسبات المماثلة منذ عقدين ونيف. وكان أطراف هذا المحور بما يضمه من بعثيين وقوميين واسلاميين متحالفين مع جناح طالباني في الحركة الكردية، وفي ظل مقاطعة الجناح القومي والشيعي المجلس الأعلى للثورة الاسلامية وحزب الدعوة ومنظمة العمل الاسلامي، سعوا بعد فشل محاولات اعاقة الاجتماع الى التلويح بورقة جديدة هي: انشاء مركز جديد للمعارضة العراقية يستبعد انصار واشنطن. وتعتمد فكرة انشاء المحور الجديد على فكرة "تفكيك المؤتمر الوطني العراقي وإعادة تركيبه". وتخفي التجاذبات السياسية بين أنصار هذا المحور والطرف الثاني عناصر مهمة منها ان المحور المناهض لقيادة المؤتمر الوطني العراقي أراد اجراء إعادة نظر جوهرية بوثائق المعارضة الرئيسية وفي مقدمتها برنامج "مؤتمر صلاح الدين" عام 1992، بينما اعتبر الجناح الثاني ان تكريس انجازات مؤتمر صلاح الدين يجب أن يكون الحد الأدنى للمؤتمر الجديد. وتبدأ الاعتراضات بهذا الصدد برفض التطرق الى الفيديرالية، بينما يعتبرها الأكراد خطاً احمر يتعين عدم المساس به، وتمضي بنا الى الاعتراض على الطريقة التي جرى فيها تقسيم الحصص التمثيلية للتيارات السياسية والقومية في الجمعية الوطنية للمؤتمر، التي لا تتناسب و"المفهوم القومي والاسلامي" من جوانب عدة، وقد تفتح الباب أمام تبني حلول تكريس التوزيع الطائفي والقومي على "الطريقة اللبنانية" كمخرج لمشاكل تقاسم السلطة الدستورية والبرلمانية في عراق المستقبل، وهو خيار لا يبدو أنه يضير الكثير من الفصائل العراقية التي شهدت عقوداً من احترابات تسببت بها نزعة التسلط السياسي والقومي والايديولوجي. من هذه الزاوية يمكننا القول إن "مؤتمر نيويورك" بانتقاله من "احترام خيار الشعب الكردي في الفيديرالية" كما جاء في وثائق "مؤتمر صلاح الدين" الى "اقرار الفيديرالية ضمن الكيان العراقي الموحد والدستوري" ارتقى درجة الى الأعلى في تعاطيه مع الموضوع الكردي الساخن والمثير. ويعتقد ان هذه الاشارات تحظى بدعم الولاياتالمتحدة التي ترى فيها اشارة في وجهة التحول الى توافق ديموقراطي على مستقبل العراق، كما أراد الأكراد منها تشجيع الولاياتالمتحدة على ازاحة مخاوفها من احتمالات الانفصال لدى الأكراد، وهي تهمة لم يخفت الجدل بصددها على رغم نفي القيادات الكردية لها. في هذه الأثناء وقف المحور الثالث، أي "تيار الوسط"، الذي دخل السجال، اصلاً من باب "توسيع التمثيل واصلاح الهيكلية"، الى جانب تمديد فترة الإعداد والتحضير للمؤتمر، للوصول الى اتفاق على مضمون وتفاصيل الاصلاح الهيكلي للمظلة العراقية المعارضة، أو لضمان يعتبره الحد الأدنى من "الضمانات الديموقراطية". ومع ان غيابه احبط آمال الكثير من العناصر المعتدلة وغير المؤدلجة الا ان حضوره سجل انتباهة مفتقدة الى احتمالات التوازن المستقبلي في السياسة العراقية. كما حسب لصالحه تصديه لبعض الملفات المسكوت عنها ومنها امكان التيار في استقطاب المحيط العربي بدرجة معقولة، لا سيما وأن أحد رموزه الأساسية وهو الدكتور عدنان الباجه جي، يحظى باحترام واسع في العواصم الخليجية المتشككة من فوضى الملف العراقي والمخاطر التي ينطوي عليها. وهو الى جانب بقية رموز التيار، مصدر اهتمام غربي يجتهد منذ سنين لأجل تطمين المحيط العربي. بقي تيار واحد في الميدان، يمثل الأطراف التي حسمت أمر تحالفها مع واشنطن، يتلقى هجمات الماكينة الإعلامية للتيارات الثلاثة السابقة وحلفائها الاقليميين. ولكن هذا التيار أبدى حساسية شديدة تجاه عامل الزمن وسعى الى تجنب عواقب تأخير الاجتماع تحت وطأة الانقسامات والتعارضات. واتجه هذا التيار الذي يمثله الدكتور احمد الجلبي وحركة الوفاق ومستقلين من التيارات الديموقراطية القومية والاسلامية، الى التمسك بعقد الاجتماع و"بمن حضر" كوسيلة وحيدة للخروج من الحلقة المفرغة، خصوصاً بعد أن فشلت المحاولات الشاقة والمكثفة التي بذلها المنسق الخاص للملف العراقي فرانك ريشاردوني. الاجتماع "بمن حضر" العراقية، تذكرنا بسابقة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تعرضت لانقسامات حادة في اعقاب الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 أفضت الى شلها وتهميشها طوال خمس سنوات. وفي الحالتين الفلسطينية والعراقية كان للعامل الاقليمي، إلى جانب عوامل أخرى طبعاً، دور، بل انه، كما في الحال العراقية، كان وراء تغذية التناقضات الداخلية ومفاقمتها. وفيما وجدت منظمة التحرير عام 1987 انه لن يكون بوسعها تجاوز أزمتها الداخلية وتوحيد أجزائها المبعثرة من دون تجاوز ذلك التداخل الاقليمي لم تكن المعارضة العراقية، في نيويورك كما قبلها، قادرة على ايجاد المخرج من حقل الألغام السياسي الواقعة فيه. نحو تعريق المواجهة مع بغداد واشنطن، التي كانت تدرك عجزها عن إحداث اختراق في الملف العراقي، من جهة، وانها تجاوزت خط الرجعة في ما يتعلق بدعم المعارضة العراقية من جهة ثانية، ادركت أيضاً، وقبل "مؤتمر نيويورك" ان شلل المعارضة العراقية وإفشالها، وتحويلها إلى خيار خاسر، يستهدف إضعاف الدور الأميركي - البريطاني للتصدي لنظام صدام، وبالتالي تعريض واشنطن للمزيد من الاحراج والانتقاص من صدقيتها التي تعرضت للتصدع، في أوساط المعارضة قبل غيرها منذ فشلها في دعم الانتفاضة الشعبية في العراق في أعقاب هزيمة النظام عسكرياً عام 1992 وسياساتها المترددة والغامضة، التي سمحت بدخول إيران في الصراع الداخلي بين الفصائل الكردية وما اعقبه من دخول الجيش العراقي إلى أربيل في 31 آب اغسطس عام 1996. فبعد عام على اصدار "قانون تحرير العراق" وتعيين الرئيس بيل كلينتون للديبلوماسي المخضرم ريتشاردوني منسقاً خاصاً للعراق، وجدت الولاياتالمتحدة نفسها شريكاً أساسياً في انجاح عمل المعارضة، بل ومسؤولة عن ايقافها على قدميها. كما ان وصول أزمة المفتشين الدوليين إلى ذروتها قبل حوالى عام، جعلها تدرك ان انجاح المؤتمر يشكل القاعدة الجوهرية التي منها تنطلق ل"تعريق" المجابهة مع بغداد، واحتواء أزمتها على الصعيد الدولي ولا سيما في الأممالمتحدة، فسياسة الاحتواء والتغيير لم تنجم عن نتائج بعد عام على اطلاقها وآلية "الحصار - التفتيش" فقدت مناصريها، كما ادخل "قانون تحرير العراق" الهلع في قلوب العواصم الاقليمية، لما ينطوي عليه من احتمال دخول الولاياتالمتحدة كطرف مباشر في عملية اسقاط النظام العراقي. وكشف القانون، قبل البدء بتنفيذه، عن ثغرات "لوجستية" وعملية وديبلوماسية، فضلاً عن المخاطر المتأتية من المنافسات بين الإدارة الضعيفة للرئيس كلينتون وكونغرس متربص به. وجاءت الإدارة الأميركية والكونغرس، كل من جهته إلى "مؤتمر نيويورك" وكل منهما يدرك ان الوصول إلى "تعريق" المواجهة مع صدام، لن يتوافر ما لم يجر اعطاء دفع جديد للمعارضة العراقية يمكنها من التحرك ومحاولة تأسيس هيكلية مقبولة تدخل بموجبها شريكاً عملياً لواشنطن في تنفيذ "قانون تحرير العراق" الذي أصبح ملزم التطبيق. وللانسجام مع "الاحتواء زائد التغيير" تطلعت واشنطن إلى ضمان الخروج بآلية "تحريك" قابلة للاستمرار، تكفل التوجه نحو سياسة أميركية أكثر تشدداً تجاه النظام العراقي. في كل هذا ساعدت بغداد في منح واشنطن هامشاً واسعاً للمناورة، من خلال مواصلتها سياسة "قدرية" ليس في يدها توجيهها او الاعتراض عليها. فالدور الذي لعبته بغداد، اقليمياً ودولياً لم يفرز أي نتائج ايجابية، لأنه اعتمد سياسة سلبية تكتسب قوتها من الاحتمالات العشوائية المتضمنة من تناقضات الأعضاء الدائميين لمجلس الأمن، واستغلال الانقسام العميق بينهم، وهو انقسام في العلاقات تتحكم به عناصر أنية ومصالح اقتصادية ترتكز إلى آلية "التنافس - التوازن" التي تلبي مصالح الدول المعنية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تراهن بغداد على الطبيعة السلبية للموقف العربي ازاء الملف العراقي عموماً، وسلبيتها تجاه المعارضة العراقية. وفعلاً برزت عناصر التشدد الأميركي بعد "مؤتمر نيويورك"، عبر التحرك على خطين متوازيين، الأول: يركز على مسار ملف حقوق الإنسان، ومحاولة تفعيل القرارات الدولية المتعلقة به، وتدشين حملة جديدة بتخصيصها مبلغ 10 ملايين دولار لمنظمة "اندايت" لتحريك "التهم المجمدة" ضد الرئيس العراقي ومعاونيه، أو ما تسميه واشنطن ب"رأس الهرم" العراقي الذي يتعين عزله. وهي نظرية جاء بها ريتشاردوني في مطلع العام الجاري واستبدلت تكتيكات المواجهة الساخنة مع النظام عبر كردستان، التي تبناها اسلافه من مستشاري الرئيس كلينتون. وبينما كانت واشنطن قبل شهر فقط من عقد "مؤتمر نيويورك" توكد أن "ليس ثمة أدلة قانونية كافية لاتهام الرئيس العراقي بجرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية، انتقلت واشنطن، اثناء جلسات المؤتمر إلى موقف مضاد بافراجها عن أطنان من وثائق الاتهام ضد الرئيس صدام و12 من مساعديه وتسليمها إلى المعارضة العراقية ومنظمة "اندايت" بالتالي. الخط الثاني: التضييق على النشاط العسكري للنظام العراقي داخل العراق. ففي مواقف صرح بها نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية توماس بيكرينغ شددت واشنطن على نيتها التدخل العسكري المباشر "إذا ما قام النظام العراقي، ولأي سبب من الأسباب بتحريك قوات كبيرة له في المنطقة الجنوبية". وجرى هذا وسط إشارات صريحة من أطراف في الكونغرس والإدارة إلى أن واشنطن تنظر "بجدية إلى ارسال قوات عسكرية إلى العراق إذا ما تطلبت التطورات". هذا التعهد المهم، الذي يأتي تلبية لحاجات المعارضة يهدف إلى طمأنة القوى الإسلامية الشيعية، وبشكل غير مباشر الكردية في شمال العراق، بأن واشنطن خطت أولى خطواتها نحو سياسة تصدٍ للنظام تمسح من ذاكرة هؤلاء المواقف المستخذية التي وقفتها بعد الانتفاضة الشعبية التي اعقبت حرب تحرير الكويت وتتهم المعارضة واشنطن المساهمة في اجهاضها بالتعاون مع النظام العراقي عن عمد. الأيام وحدها ستثبت إلى أي قدر ستكون تصريحات بيكرينغ جدية. لكن الحكمة تقتضي القول إن "هذا الالتزام الأميركي هو من الجدية بحيث سيكون تأثيره حاسماً في ظروف انتفاضة قادمة في العراق، وليس من الحصافة تجاهل النوايا الأميركية، حتى لو كانت ذات طبيعة افتراضية". إن واشنطن تدرك في النهاية ان آفاق العراق السياسي المستقبلية لا تزال مرهونة بيد بغداد والسياسات التي تتبعها، لكنها تراهن من جهتها على أن قدرية السياسة العراقية ولا مبالاتها وعلى سلبية المحيط الاقليمي المنشغل في معارك على أكثر من جبهة. ولهذا فإن الاستخلاص العملي والخطير هو ان بقاء الوضع الراهن على حاله سيفتح الباب، ان عاجلاً أم آجلاً، امام القدر المنتظر بسقوط نظام صدام بسبب الاهتراء والتفكك وربما المصادفة، وليس بالضرورة بسبب ضربات عسكرية توجهها إليه واشنطن أو المعارضة العراقية.